بداية الوصول في شرح كفاية الأصول المجلد 6

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: آل شیخ راضی، محمد طاهر، 1904 - م.

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: بداية الوصول في شرح كفاية الأصول/ تالیف محمد طاهر آل الشیخ راضی (قدس سره)؛ اشرف علي طبعه و تصحیحة محمد عبدالحکیم الموسوي البکاء.

تفاصيل النشر: تهران: دارالهدی، 14 ق. = 20م. = -13.

مواصفات المظهر: ج.

شابک : دوره 964-497-056-X : ؛ ج. 4 964-497-060-8 : ؛ ج.5، چاپ دوم 964-497-061-6 : ؛ ج. 7، چاپ دوم 964-497-063-2 : ؛ ج.8، چاپ دوم 964-497-064-0 :

يادداشت : الفهرسة على أساس المجلد الرابع، 1426ق. = 2005م. = 1384.

لسان : العربية.

ملحوظة : الكتاب الحالي هو وصف "کفایة الاصول" آخوند الخراساني يكون.

ملحوظة : چاپ دوم.

ملحوظة : ج.5، 7 و 8 (چاپ دوم: 1426ق. = 2005م.= 1384).

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: موسوی بکاء، محمدعبدالحکیم

معرف المضافة: آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/8/آ3ک 70212 1300ی الف

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 2954810

تكملة المقصد السادس فى الامارات

الاستدلال بالاخبار على حجية خبر الواحد

فصل في الاخبار التي دلت على اعتبار الأخبار الآحاد. و هي و إن كانت طوائف كثيرة، كما يظهر من مراجعة الوسائل و غيرها (1)، إلا أنه يشكل

______________________________

(1) لا يخفى ان الاخبار الدالة على حجية خبر الواحد طوائف، منها ما دل على حجية خبر الثقة.

و لا يخفى ان المراد من الثقة في المقام هو خبر غير العادل الامامي المأمون الكذب، بان يكون معروفا بصدق اللهجة او كان عدلا لا يفعل الكبائر و لا يصر على الصغائر و لكنه ليس بامامي، كالاخبار الدالة على جواز الاخذ بروايات بني فضال كقوله عليه السّلام: (خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا)(1) و بنو فضال فطحية فهم ليسوا شيعة امامية، فان المراد من الشيعي الامامي هو المعترف بالأئمة الاثني عشر باسمائهم، و عليه فلا يكونون عدولا بالمعنى الاخص، لان العادل بحسب اصطلاحنا الخاص هو الشيعي الإمامي ذو الملكة الرادعة عن الكبائر و الاصرار على الصغائر.

و منها: ما دل على حجية خبر الشيعي مثل مكاتبة علي بن سويد يقول فيها عليه السّلام: (لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا، فانك ان تعديتهم اخذت دينك من الخائنين ...)(2).

و منها: ما دل على حجية خبر العادل كالروايات الدالة على الاخذ من العمري و ابنه، و قوله عليه السّلام مشيرا الى زرارة: (فعليك بهذا الجالس)(3) بعد ان قال له السائل: من اين آخذ معالم ديني؟

و لا يخفى ان اخص هذه الطوائف الثلاث هو خبر العادل.

ص: 1


1- 1. ( 1) بحار الانوار ج 2، ص 252.
2- 2. ( 2) بحار الانوار ج 2، 82.
3- 3. ( 3) بحار الانوار ج 2، ص 246.

الاستدلال بها على حجية الأخبار الآحاد بأنها أخبار آحاد، فإنها غير متفقة على لفظ و لا على معنى، فتكون متواترة لفظا أو معنى (1).

و لكنه مندفع بأنها و إن كانت كذلك، إلا أنها متواترة إجمالا، ضرورة أنه يعلم إجمالا بصدور بعضها منهم عليهم السّلام (2)، و قضيته و إن كان

______________________________

(1) حاصل الاشكال: انه لا يصح الاستدلال لحجية اخبار الآحاد باخبار الآحاد، و لا بد ان يكون الدليل على حجية شي ء مفروغا عن حجيته، و المفروض ان الكلام في حجية اخبار الآحاد، فلا يعقل ان تكون هذه الاخبار بعد ان كانت اخبار آحاد دليلا على حجية اخبار الآحاد لانه غير مفروغ عن حجيتها، مضافا الى لزوم الدور في خصوص الاستدلال بها لحجية اخبار الآحاد، لان الاستدلال بها موقوف على حجيتها، و حجيتها موقوفة على حجية خبر الواحد، و اذا كانت هي الدليل لحجية خبر الواحد كانت حجية خبر الواحد موقوفة عليها، فتكون حجيتها موقوفة على حجيتها، لتوقف حجيتها على حجية خبر الواحد الموقوف على حجيتها، و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «بانها اخبار آحاد» فلا يصح الاستدلال بها لحجية خبر الواحد، و ليست متواترة حتى لا تكون اخبار آحاد فلا يلزم الدور، و حجية المتواتر من الاخبار مفروغ عن حجيته لانه مما يوجب العلم و العلم حجة لا تحتاج الى جعل لان المتواتر ما اتفق على لفظ واحد أو معنى واحد، و هذه الاخبار غير متفقة على لفظ واحد و لا على معنى واحد فهي غير متواترة لا لفظا و لا معنى، و الى هذا اشار بقوله: «فانها غير متفقة ... الى آخر الجملة».

(2) هذا هو الجواب عن هذا الاشكال، و حاصله: ما تقدم من ان التواتر على انحاء ثلاثة:

التواتر اللفظي: و هو اخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب بخبر يتفقون على روايته بالفاظه كما في رواية الاعمال بالنيات.

و التواتر المعنوي: و هو اتفاقهم على معنى واحد و ان اختلفت الالفاظ الدالة عليه.

ص: 2

حجية خبر دل على حجيته أخصها مضمونا إلا أنه يتعدى عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية، و قد دل على حجية ما كان أعم (1)،

______________________________

و التواتر الاجمالي: و هو اخبار جماعة غير متفقين على لفظ واحد و لا على معنى واحد، و لكنه يعلم بواسطة كثرة هؤلاء المخبرين ان بعض هذه الاخبار صادر قطعا، و هذه الطوائف الكثيرة مما يعلم اجمالا بصدور بعضها، فهي و ان لم تكن متواترة لفظا و لا معنى و لكنها متواترة اجمالا، و الى هذا اشار بقوله: «و لكنه» أي هذا الاشكال عليها بانها اخبار آحاد «مندفع بانها و ان كانت كذلك» أي غير متواترة لفظا و لا معنى «إلّا انها متواترة اجمالا ... الى آخر الجملة».

(1) حاصله: ان لازم التواتر الاجمالي هو الاخذ باخص هذه الاخبار مضمونا، لان اخصها هو الذي يعلم بصدوره اما بنفسه او في ضمن ما هو اعم منه، و مختار المصنف و المشهور هو حجية خبر الثقة، فالدليل يكون اخص من المدعى لان اخص هذه الاخبار هو خبر العادل، فهو المتواتر اجمالا و هو اخص من خبر الثقة.

و الجواب عنه: انه بعد ان كان خبر العادل حجة قطعا لتواتره اجمالا، و من الواضح ايضا ان معنى حجيته هو الاخذ بمضمونه، و قد دل خبر العادل مثل الذي دل على الاخذ بروايات بني فضال على حجية خبر الثقة، و لا فرق في حجية خبر العادل في مضمونه بين ان يكون حكما من الاحكام أو حجية خبر من الاخبار، فخبر العادل الدال على الاخذ برواية بني فضال يدل على حجية خبر الثقة لوضوح عدم الخصوصية لبني فضال من دون ساير الثقات، و الى هذا اشار بقوله: «و قضيته» أي و قضية التواتر الاجمالي «و ان كان حجية خبر دل على حجيته اخصها مضمونا» و هو خبر العادل الامامي «إلّا انه يتعدى عنه» الى غيره و هو خبر الثقة «فيما اذا كان بينها» أي بين الاخبار «ما كان بهذه الخصوصية» بان كان خبر عادل «و قد دل» خبر هذا العادل «على حجية ما كان اعم» من خبر العادل و هو

ص: 3

فافهم (1).

______________________________

حجية خبر الثقة، فيكون التواتر الاجمالي دليلا على حجية خبر العادل، و خبر العادل يكون دليلا على حجية خبر الثقة الذي هو اعم من العادل.

(1) لعله اشارة الى ما يمكن ان يتوهم بان اثبات حجية خبر الثقة بخبر العادل الذي ثبتت حجيته بالتواتر الاجمالي يستلزم الدور، لان حجية خبر العادل موقوفة على التواتر الاجمالي، و التواتر الاجمالي موقوف على الطوائف الثلاث التي من جملتها الطائفة التي تضمنت حجية خبر الثقة، فاذا توقفت حجية خبر الثقة على خبر العادل لكونه على الفرض هو الدليل على حجية خبر الثقة كانت حجية خبر العادل موقوفة على ما يتوقف على حجية خبر العادل، لانها متوقفة على التواتر المتوقف على ما دل على حجية خبر الثقة، و قد قلنا ان حجية خبر الثقة موقوفة على حجية خبر العادل.

و يرده: ان هذا التوهم اشبه بالمغالطة لان حجية خبر العادل موقوفة على وجود الطائفة المتضمنة لحجية خبر الثقة لا على حجية خبر الثقة، و حجية خبر الثقة- لا وجوده- موقوف على حجية خبر العادل، فاختلف الموقوف و الموقوف عليه، فان حجية خبر الثقة متوقفة على حجية خبر العادل و حجية خبر العادل غير متوقفة على حجية خبر الثقة بل على وجوده.

و يمكن ان يكون اشارة الى انه لا داعي الى دعوى التواتر الاجمالي في مجموع الطوائف الثلاث، بل يمكن دعوى التواتر الاجمالي في نفس الطائفة الدالة على حجية خبر الثقة كما ادعى ذلك صاحب الرسائل (قدس سره)، و انها و ان لم تكن هذه الطائفة متواترة لفظا او معنى و لكنها متواترة اجمالا للعلم بصدور بعضها.

ص: 4

تقرير الاجماع على حجية الخبر من وجوه:

اشارة

فصل في الاجماع على حجية الخبر. و تقريره من وجوده (1):

الوجه الاول: دعوى الاجماع القولي

أحدها: دعوى الاجماع من تتبع فتاوى الاصحاب على الحجية من زماننا إلى زمان الشيخ، فيكشف رضاه عليه السّلام بذلك، و يقطع به، أو من تتبع الاجماعات المنقولة على الحجية (2)، و لا يخفى مجازفة هذه

______________________________

(1) لا يخفى انه سيذكر وجوها ثلاثة لتقرير الاجماع، و ثالثها هو استقرار سيرة العقلاء، و اطلاق الاجماع على السيرة انما هو لاجتماعها مع الاجماع الاصطلاحي في الكشف عن جعل الشارع لحجية الخبر.

و الفرق بينها و بين الاجماع القولي و العملي هو انهما لو تمّا لكشفا عن نفس جعل الشارع من دون واسطة، و السيرة انما تكشف عن الامضاء لعمل العقلاء و لازمه هو اعتبار حجية الخبر عنده.

(2) و هذه الدعوى ترجع الى وجهين: الوجه الاول: دعوى الاجماع المحصّل الحاصل من تتبع فتاوى العلماء من زماننا الى زمان الشيخ (قدس سره) و يحصل من هذا التتبع القطع برضاء الامام عليه السّلام من باب الحدس، فهو اجماع محصّل على طريقة الحدس.

الوجه الثاني: هو حصول الاجماع المستلزم لرضا الامام عليه السّلام من باب الحدس، لا بسبب التتبع لنفس الفتاوى من العلماء بحجية الخبر، بل السبب للقطع بحصول هذا الاجماع المستلزم للقطع برضا الامام هو تظافر الاجماعات المنقولة على حجيته بحيث يحصل من تظافرها القطع بتحقق الاجماع المحصّل الحدسي، و هو يستلزم رضاء الامام عليه السّلام.

و قد اشار الى الوجه الاول بقوله: «دعوى الاجماع من تتبع فتاوى الاصحاب على الحجية ... الى آخر الجملة». و قوله (قدس سره): «و يقطع به» اشار الى انه من الاجماع الحدسي.

ص: 5

الدعوى، لاختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من الخصوصيات، و معه لا مجال لتحصيل القطع برضائه عليه السّلام من تتبعها، و هكذا حال تتبع الاجماعات المنقولة (1)، اللهم إلا أن يدعى تواطؤها على الحجية في الجملة، و إنما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها، و لكن دون إثباته خرط القتاد (2).

______________________________

و الى الوجه الثاني اشار بقوله: «او من تتبع الاجماعات المنقولة».

و ينبغي ان لا يخفى انه اذا لم يحصل الاجماع المحصل من تتبع الاجماعات المنقولة فلا يصح دعوى كون الاجماع المنقول دليلا على حجية الخبر، لما مرّ من ان الوجه في دعوى حجيّة الاجماع المنقول هو حجية الخبر، فلا يعقل ان يكون ما يتوقف حجيّته على حجية الخبر يكون دليلا على حجية الخبر، لانه دور واضح.

(1) الوجه في هذه المجازفة هو انه يرد على تقرير الاجماع بالوجه الاول ان فتاوى العلماء غير متفقة على حجية الخبر الواحد بمضمون واحد، فان بعضهم ادعى الاجماع على حجية خبر الثقة، و بعضهم ادعى الاجماع على حجية خبر العادل المعدّل بعدل واحد، و بعضهم ادعى الاجماع على حجية خبر الواحد المعدّل بعدلين.

و مثله يرد على تقريره بالوجه الثاني، فان الاجماعات المنقولة لم تتفق على مضمون واحد، فان بعضهم نقل الاجماع على حجية خبر الثقة، و بعضهم نقله على حجية خبر العادل.

و حيث ان الاجماع المدعى في المقام من الاجماع القولي فلا بد من الاتفاق على لفظ واحد او معنى واحد، و قد عرفت الاختلاف لفظا و معنى ... فلا وجه لدعوى الاجماع بكلا وجهيه، و الى هذا اشار بقوله: «و معه لا مجال لتحصيل القطع برضائه ... الى آخر الجملة».

(2) حاصل هذه الدعوى ان اختلاف الفتاوى أو نقل الاجماع و ان لم يحصل منه الاجماع المحصّل على حجية خبر الثقة او حجية خبر العادل المعدّل بعدل واحد، الا

ص: 6

.....

______________________________

انه يحصل منه القطع بحجية اخص ما دلت عليه هذه الفتاوى و الاجماعات المنقولة، و هو حجية خبر العادل المعدّل بعدلين، و يكون حالها حال دعوى التواتر الاجمالي في طوائف الاخبار المتقدمة، فيكون المتحصّل منهما هو حجية الخبر في الجملة و هو اخصّها، فانها على الاخص متفقة، و انما الاختلاف بينها في ما زاد على ذلك، و هذا هو مراده من قوله: «إلّا ان يدعى تواطؤها على الحجية في الجملة ... الى آخر عبارته».

و الجواب عن هذه الدعوى: انه فرق بين التواتر الاجمالي في طوائف الاخبار المتقدمة، و بين فتاوى العلماء و الاجماعات المنقولة في المقام، فان اللفظ الدال على معنى اعم المحكى في الاخبار المتقدمة دال على الاخص، لوضوح دخول الفرد الاخص في المضمون الدال على معنى أعم، بخلاف المقام فان المفتي لحجية خبر الثقة لعله لا يقول بحجية خبر العادل، لاحتمال انه انما اقام على حجية خبر الثقة دليلا بحيث لو لم تتم دلالته او اختلت حجيته لما قال بحجية خبر العادل، لعدم قيام دليل عنده على حجية خبر العادل.

نعم لو علم من المفتين او ممن نقل عنهم الاجماع انهم يقولون بحجية الاخص على كل حال لكان حال دعوى الاجماع في المقام مع اختلاف المضامين حال الطوائف الثلاث، و يكون المتحصل منها قيام الاجماع المحصل الحدسي على حجية الخبر الاخص، و لكن انى لنا بهذا العلم؟ و قد اشار الى ذلك بقوله: «و لكن دون اثباته» أي دون اثبات التواطؤ على الحجية في الجملة الراجعة الى حجية الاخص مضمونا «خرط القتاد».

ص: 7

الوجه الثاني: دعوى الاجماع العملي

اشارة

ثانيها: دعوى اتفاق العلماء عملا- بل كافة المسلمين- على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها (1).

و فيه: مضافا إلى ما عرفت مما يرد على الوجه الاول، أنه لو سلم اتفاقهم على ذلك، لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون و متدينون بهذا

______________________________

(1) الفرق بين هذه الدعوى للاجماع و بين الدعوى الاولى له هي ان الدعوى الاولى هي دعوى الاجماع القولي، و هذه الدعوى الثانية هي دعوى الاجماع العملي.

و الفرق بين دعوى الاجماع العملي و دعوى الاجماع بالنحو الثالث- و هو السيرة العقلائية و عمل العقلاء- ان الاجماع العملي هو عمل العلماء و المسلمين بما هم علماء و بما هم مسلمون، فاذا تم فهو كاشف عن جعل الامام عليه السّلام و اعتباره للخبر الواحد بما ان الامام إمام لعلماء الدين و هم المطلعون على رأيه و بما انه رئيس للمسلمين، و المسلمون رعيته يتبعونه متابعة المرءوس للرئيس، بخلاف عمل العقلاء بما هم عقلاء، فانه انما يكشف عن امضاء الشارع لعملهم و إلّا لردعهم.

و على كل فحاصل هذه الدعوى هو الاجماع عملا من العلماء بما هم علماء و من المسلمين بما هم مسلمون على الاخذ بخبر الواحد في امورهم الشرعية و احكامهم، كما يظهر من تصريح المفتين في مستند فتواهم انهم انما افتوا لوجود خبر واحد دل على هذه الفتوى.

و قد اشار الى كونه من الاجماع العملي لا القولي بقوله: «دعوى اتفاق العلماء عملا» و الى عمل المسلمين بما هم مسلمون بقوله: «بل كافة المسلمين» و ان مورد اتفاقهم هو العمل منهم في امورهم الشرعية ليكون كاشفا عن جعل الشارع لحجية الخبر الواحد لهم في الاحكام الشرعية بقوله: «في امورهم الشرعية» و الى ان سبب العلم بالاتفاق العملي للعلماء- بما هم علماء- هو فتاواهم المصرحين بان المستند فيها هي اخبار الآحاد بقوله: «كما يظهر ... الى آخر الجملة».

ص: 8

الدين، أو بما هم عقلاء و لو لم يلزموا بدين، كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الامور الدينية من الامور العادية، فيرجع إلى ثالث الوجوه (1)، و هو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الاديان و غيرهم على العمل بخبر الثقة، و استمرت إلى زماننا، و لم يردع عنه نبي و لا وصي نبي،

______________________________

للمصنف (قده) على الوجه الثاني في تقرير الاجماع إيرادان

(1) اورد المصنف على هذا الوجه في تقرير الاجماع إيرادين:

الاول: هو ما اورده على التقرير الاول، و هو ان عمل العلماء غير متفق على ملاك واحد، فان عمل بعضهم مستند الى اعتبار خبر الثقة، و عمل بعضهم بحجية خبر العادل او خصوص المعدل بعدلين.

و الثاني: ان العمل دليل صامت، و كما يحتمل ان يكون عملهم يستند الى سيرة المتشرعة و انهم يعملون بما هم متشرعة حتى تتصل بعمل الشارع نفسه، يحتمل ايضا ان يكون مستندهم في عملهم بناء العقلاء و سيرتهم بما هم عقلاء على العمل بخبر الواحد الممضاة من قبل الشارع و لو بعدم الردع، فيرجع هذا الوجه الى الوجه الثالث الآتي في تقرير الاجماع.

و قد اشار اليهما بقوله: «و فيه مضافا الى ما عرفت مما يرد على الوجه الاول» من منع اتفاقهم على امر واحد في عملهم «انه لو سلم اتفاقهم على ذلك» أي لو سلم اتفاقهم في مقام العمل على امر واحد و هو الاخذ بخبر الثقة مثلا إلّا انه «لم يحرز انهم اتفقوا» على العمل به «بما هم مسلمون و متدينون بهذا الدين» حتى تكون سيرتهم سيرة متشرعية «او» انهم انما اتفقوا على العمل به لانهم عقلاء، فان العقلاء «بما هم عقلاء و لو لم يلتزموا بدين» يعملون بخبر الثقة «كما» ان العقلاء بما «هم» عقلاء «لا يزالون يعملون بها» أي بهذه السيرة العقلائية «في غير الامور الدينية من الامور العادية».

و على هذا الاحتمال «فيرجع» تقرير الاجماع على هذا الوجه الثاني «الى» تقريره على «ثالث الوجوه».

ص: 9

الوجه الثالث: دعوى استقرار سيرة العقلاء

ضرورة أنه لو كان لاشتهر و بان، و من الواضح أنه يكشف عن رضا الشارع به في الشرعيات أيضا (1).

______________________________

(1) هذا هو الوجه الثالث في تقرير الاجماع على حجية خبر الواحد، و هو ما عرفت من دعوى بناء العقلاء و سيرتهم بما هم عقلاء على الاخذ بخبر الثقة، و هي مستمرة من زمان النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم و اوصيائه عليهم السّلام بل من قبل زمانهم من أزمنة الاديان السابقة على الاسلام، و هذه السيرة بمرأى منه صلى اللّه عليه و آله و سلم و من اوصيائه عليهم السّلام، و لم يردع عنها لا هو و لا أوصياؤه عليهم الصلاة و السلام جميعا، و عدم ردعهم دليل على امضائهم لهذه السيرة العقلائية و إلّا لردعوا، و لو ردعوا لاشتهر ردعهم لان متعلق الردع من اعظم موارد الابتلاء، و كلما زاد الامر اهمية توفرت الدواعي لنقله، و لم ينقل عنهم- صلوات اللّه عليهم- ردع عن هذه السيرة العقلائية، فيكون من الواضح كشف عدم الردع من الشارع عن هذه السيرة عن رضاء الشارع بها في الشرعيات، لان اخذ العقلاء لا يختلف حاله في امور معاشهم و معادهم، و من الواضح ايضا انه لا يحتمل ان يكون عدم الردع من الشارع لمانع يمنع عن الردع.

فتلخص ان تقرير الاجماع على هذا الوجه يبتني على مقدمات ثلاث:

- بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة مطلقا، و هو محرز بالوجدان قطعا.

- و عدم الردع منهم عليهم السّلام و هو محرز ايضا و إلّا لنقل و اشتهر مع وجود الداعي الى الردع لفرض ان عمل العقلاء مطلق حتى في امورهم الدينية، فهم يعتبرون خبر الثقة منجزا لو اصاب و معذرا لو خالف، فهو عندهم طريق الى الاحكام الواقعية، و لا شبهة ان تنجيز أحكام الشرع بهذا الطريق و التعذير عند المخالفة لها لو لم يكن ممضى عند الشارع لردع عنه بما هو مشرع لاحكام يريد امتثالها و لا يرضى بمخالفتها، فانه من البديهي ان للشارع احكاما واقعية فعلية يريد امتثالها و لا يرضى بمخالفتها.

ص: 10

إن قلت: يكفي في الردع الآيات الناهية، و الروايات المانعة عن اتباع غير العلم، و ناهيك قوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و قوله تعالى: وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (1).

______________________________

- و ان هذا الردع منهم عليهم السّلام لا مانع منه بحيث لو لم يكن مرضيا و ممضى عندهم لردعوا عنه، و هو محرز ايضا، اذ لا يحتمل احتمالا عقلائيا ان هناك مانعا عن ردعهم عن هذه السيرة العقلائية.

و مع تمامية هذه المقدمات يتضح حجية خبر الثقة بامضاء الشارع لعمل العقلاء القائم على الاخذ بخبر الثقة.

و قد اشار المصنف الى ما ذكرنا جميعا بقوله: «دعوى استقرار سيرة العقلاء ...

الى آخر عبارته».

(1) حاصله: ان المقدمة الثانية ممنوعة و هي عدم الردع عن هذه السيرة.

و لا يخفى ان الردع كما يكون بدليل خاص كأن يقول لا تأخذ بخبر الثقة، او لا تاخذ بعمل العقلاء في اخذهم بخبر الثقة في امور دينك- كذلك يمكن ان يكون الردع بما هو اعم، بان يردع عن اتباع عنوان عام من جملة مصاديقه الاخذ بهذه السيرة العقلائية، و الردع و ان لم يصل الينا بعنوان خاص في مقام المنع عن الاخذ بها، إلّا انه قد وصلنا الردع بعنوان عام من جملة مصاديقه هذه السيرة.

و بيان ذلك: انه لا اشكال في كون خبر الثقة الذي قامت سيرة العقلاء على الاخذ به لا يوجب علما، لان احتمال خطأ الثقة في نقله على الاقل موجود، و مع هذا الاحتمال لا يكون خبره موجبا للعلم، و غاية ما يقتضيه خبر الثقة هو الظن، و قد وردت الآيات الناهية عن اتباع غير العلم و عن الاخذ بالظن، فخبر الثقة بعنوانين قد ورد الردع عنه، بعنوان كونه من غير العلم، و بعنوان كونه مما يوجب

ص: 11

قلت: لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك، فإنه- مضافا إلى أنها وردت إرشادا إلى عدم كفاية الظن في أصول الدين، و لو سلم فإنما المتيقن لو لا أنه المنصرف إليه إطلاقها هو خصوص الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة (1)- لا يكاد يكون الردع بها إلا على وجه دائر، و ذلك

______________________________

الظن في قوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ 4] و في قوله تعالى: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً*(1).

(1) حاصله: ان هذه الآيات لا تصلح رادعة عن السيرة لوجوه:

الاول: انها وردت في النهي عن اتباع غير العلم و عن العمل بالظن في خصوص اصول الدين كما مرت الاشارة الى هذا فيما سبق.

و لا يخفى ان هذه الآيات بناء على كونها مختصة باصول الدين تكون ارشادية لا مولوية، لحكم العقل بلزوم العلم في ما يرجع الى اصول الدين، و مع حكم العقل بذلك يكون النهي الشرعي ارشادا اليه.

مضافا الى ان اصول الدين كالاعتقاد بوجود واجب الوجود عزّ و جل و وحدانيته و صفاته و نبوة انبيائه عليهم السّلام لا يعقل ان يكون الامر الوارد بلزوم العلم فيها او النهي عن اتباع غير العلم او عن العمل بالظن فيها مولويا، لان مولوية الامر معناها هو الامر من الشارع بما هو مولى و مشرع، و يتوقف ذلك على الفراغ عن الاعتقاد به بما هو كذلك، و كون المورد اصول الدين لازمه فرض عدم المفروغية عن ذلك، الّا ان يقال ان المولوية و كونه شارعا منوط بكونه كذلك واقعا لا بالاحراز و الاعتقاد.

و لكنه يمكن ان يقال: ان الامر أو النهي المولوي عن اتباع غير العلم لا يعقل ان يتوجه الى العبد في حال علمه لحصول الغرض، و لا في حال الشك لعدم امكان

ص: 12


1- 5. ( 2) يونس: الآية 36.

لان الردع بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها، أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، و هو يتوقف على الردع عنها بها، و إلا لكانت مخصصة أو مقيدة لها، كما لا يخفى (1).

______________________________

محركية الامر أو رادعيّة النهي للشاك في وجود المولى الآمر أو الناهي، فالعقل هو المرشد بلزوم الفحص في أي حال دون الامر و النهي.

و على كل فقد اتضح ان الامر و النهي الواردين في اصول الدين لا بد و ان يكونا للارشاد، و قد اشار (قدس سره) الى ان هذه النواهي ارشادية و ان موردها اصول الدين بقوله: «فانه مضافا الى انها وردت ارشادا ... الى آخر الجملة».

الثاني: ان هذه الآيات العامة الناهية الشاملة لاصول الدين و للظن الذي ليس بحجة عند العقلاء لو كانت شاملة ايضا للظن الذي بنى العقلاء على حجيته كخبر الثقة لكانت بالنسبة الى اصول الدين او الظن غير الحجة عند العقلاء امضائية، لحكم العقل في عدم كفاية الظن و غير العلم فيهما، و بالنسبة الى الظن الذي بنى العقلاء على حجيته تأسيسيّة لإلغائها حجية ما بنى عليه العقلاء، و الجمع بين كونها تاسيسيّة في مورد و امضائية في مورد آخر بعيد جدا، فهي اما امضائية او تاسيسيّة.

و حيث ان موردها اصول الدين فلا بد و ان تكون امضائية لا تاسيسيّة، و لازم هذا ان تكون هذه النواهي اما ان يكون القدر المتيقن منها هو اتباع غير العلم في اصول الدين و في خصوص الظن غير الحجة عند العقلاء، او انه بواسطة ورودها في مورد الامضائية يكون المنصرف منها عند اطلاقها ذلك، و لا تشمل الظن الذي بنى العقلاء على حجّيّته كخبر الثقة، و الى هذا اشار بقوله: «و لو سلّم فانما المتيقن منها لو لا انه المنصرف اليه اطلاقها ... الى آخر الجملة».

(1) هذا هو الوجه الثالث، توضيحه: انه فرق بين الدليل الخاص الدال على الردع عن العمل بالسيرة العقلائية و بين الدليل العام الذي من جملة ما يدل عليه الردع عن

ص: 13

.....

______________________________

السيرة كمثل الآيات الناهية، فان المدعى انها تدل على عدم اتباع غير العلم الذي من جملته السيرة القائمة على الاخذ بخبر الثقة.

و الوجه في ذلك ان الدليل الخاص حجيته في مقام الاثبات غير متوقفة على غير ان يكون له ظهور دلالي، و المفروض وجود الظهور و لا مانع عن الاخذ به الا وجود الناسخ له و المفروض عدمه، و كون السيرة بنفسها ناسخة له غير معقول حتى لو قلنا بجواز النسخ قبل حضور وقت العمل، لان ظهور النص الخاص في تخصيصه للسيرة اقوى من دلالة السيرة بالالتزام على نسخ النص الخاص، و لذا لا اظن ان يستشكل احد في تقديم النص الخاص الرادع عن العمل بالسيرة على السيرة.

و اما الردع للسيرة بالعموم فليس كذلك، لوضوح ان العموم الرادع انما تتم حجّيّته في مقام العمل به على اطلاقه و عمومه حيث لا يكون له مخصص أو مقيد، لما عرفت ان العام او المطلق حيث انهما في معرض التقييد و التخصيص فلا تتم حجتهما الفعليّة الا بعد عدم المخصص و المقيد، و كما يمكن ان تكون العمومات رادعة عن السيرة يمكن ايضا ان تكون السيرة مخصصة او مقيدة للعموم او الاطلاق.

فيلزم من كون العمومات رادعة للسيرة دور واضح، لان كون العمومات رادعة للسيرة يتوقف على الحجية الفعلية للعمومات المتوقفة على عدم تخصيصها، و عدم تخصيصها يتوقف على ان لا تكون السيرة مخصصة لها.

و من البيّن انه كما يمكن ان تكون العمومات رادعة للسيرة يمكن ايضا ان تكون السيرة مخصصة لها، فرادعية الآيات تتوقف على عدم تخصيصها بالسيرة، و عدم تخصيصها بالسيرة يتوقف على كونها رادعة للسيرة، و الّا لو لم تكن رادعة لكانت السيرة صالحة لتخصيصها، فرادعية الآيات تتوقف على رادعيتها و هو الدور. و الى هذا اشار بقوله: «لا يكاد يكون الردع بها» أي لا يكاد يكون الردع بالآيات للسيرة «الا على وجه دائر و ذلك لان الردع بها» حيث ان المفروض انها عمومات «يتوقف على عدم تخصيص عمومها او تقيد اطلاقها» لما عرفت من ان العام حيث

ص: 14

لا يقال: على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضا، إلا على وجه دائر، فإن اعتباره بها فعلا يتوقف على عدم الردع بها عنها، و هو يتوقف على تخصيصها بها، و هو يتوقف على عدم الردع بها عنها (1).

______________________________

انه في معرض التخصيص لا تتم حجيّته الفعلية، فكون هذه العمومات رادعة للسيرة القائمة على الاخذ بخبر الثقة يتوقف على عدم تخصيصها او عدم تقييدها «بالسيرة» القائمة «على اعتبار خبر الثقة» فان السيرة بما هي سيرة عقلائية صالحة لتقييد الاطلاق و تخصيص العموم «و هو يتوقف» أي و عدم تخصيص السيرة للعمومات يتوقف «على الردع عنها» أي عن السيرة «بها» أي بالآيات «و إلّا» أي لو لم تكن الآيات رادعة للسيرة «لكانت» السيرة «مخصصة» للعمومات الناهية «او مقيّدة لها».

فالرّدع بهذه الآيات يتوقف على عدم تخصيصها بالسيرة المتوقف على كونها رادعة للسيرة، فيتوقف الردع بها على ما يتوقف على الردع بها، و هو الدور.

(1) توضيحه: ان سيرة العقلاء بما هم عقلاء على شي ء ليست دليلا بنفسها، بل تتوقف حجيتها على عدم ردع الشارع عنها، فكون السيرة حجة تامة على الاخذ بخبر الثقة يتوقف على عدم الردع للسيرة، و الردع بالآيات للسيرة و ان كان دوريا كما عرفت إلّا ان حجيّة السيرة على الاخذ بخبر الثقة ايضا دوري، لان حجيّة السيرة تتوقف على عدم الردع لها بالآيات، و عدم الردع لها بالآيات يتوقف على تخصيصها للآيات الناهية، و الّا فالآيات لو لم تكن السيرة مخصصة لها لكانت رادعة عنها، فحجية السيرة على خبر الثقة تتوقف على عدم الردع لها، و عدم الردع لها بالآيات يتوقف على كون السيرة مخصصة للآيات، و الّا لكانت الآيات رادعة للسيرة لو لم تكن مخصصة بالسيرة، و تخصيص السيرة للآيات يتوقف على ان لا تكون الآيات رادعة لها، فحجية السيرة على خبر الثقة متوقفة على عدم الردع المتوقف على كون السيرة مخصصة للآيات المتوقف على عدم الردع لها بالآيات، فعدم الردع متوقف

ص: 15

فإنه يقال: إنما يكفي في حجيته بها عدم ثبوت الردع عنها، لعدم نهوض ما يصلح لردعها، كما يكفي في تخصيصها لها ذلك، كما لا يخفى (1)، ضرورة أن ما جرت عليه السيرة المستمرة في

______________________________

على ما يتوقف على عدم الردع، فكما ان الردع في الآيات يتوقف على الردع، كذلك عدم الردع في السيرة يتوقف على عدم الردع، فلا تكون الآيات رادعة و لا تكون السيرة حجة على خبر الثقة للزوم للدور في كليهما، و بالآخرة لا تكون السيرة دليلا تاما على حجية خبر الثقة لانه يلزم من كونها حجة عليه الدور، لما عرفت من توقفها على عدم الردع المتوقف على كونها مخصصة للآيات المتوقف ذلك على عدم ردع الآيات لها.

و الى هذا اشار بقوله: «على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة الا على وجه دائر فان اعتباره بها» أي ان اعتبار خبر الثقة بواسطة السيرة و كونها حجة عليه «فعلا يتوقف على عدم الردع بها» أي كون السيرة حجة فعلا على خبر الثقة يتوقف على عدم الردع بالآيات «عنها» أي عن السيرة «و هو يتوقف على تخصيصها بها» أي عدم الردع بالآيات للسيرة يتوقف على تخصيص الآيات بالسيرة، فضمير تخصيصها يرجع الى الآيات، و ضمير بها يرجع الى السيرة «و هو يتوقف على عدم الردع بها عنها» أي تخصيص الآيات بالسيرة يتوقف على عدم ردع الآيات للسيرة، فضمير بها يرجع الى الآيات، و ضمير عنها يرجع الى السيرة، فعدم الردع للسيرة المتقوم به حجيتها الفعلية على خبر الثقة يتوقف على كونها مخصصة للآيات، و كونها مخصصة يتوقف على عدم ردع الآيات لها و هو دور ايضا.

(1) توضيح الجواب عن هذا الاشكال و ان رداعية الآيات للسيرة دوري، بخلاف السيرة على الاخذ بخبر الثقة الذي لازمه تخصيص السيرة للآيات فانه غير دوري يتوقف على بيان امر:

ص: 16

.....

______________________________

و هو ان رادعية الآيات للسيرة لا بد فيه من وصوله و ثبوته، لان الردع الواقعي غير الواصل لا يكون مانعا عن حجية السيرة، فكون الآيات حجة بالفعل في ردعها للسيرة متوقف على وصول ردعها و ثبوته و ان تكون ظاهرة في الرادعية، و قد عرفت ان كون الآيات ظاهرة في الردع دوري، فلا ظهور لها بالفعل في الرادعيّة، فرادعيتها لا وصول لها بالفعل.

و اما حجية السيرة على الاخذ بخبر الثقة فقد عرفت انها متوقفة على الامضاء الذي يكفي في استكشافه عدم ثبوت الردع لا ثبوت عدم الردع، نعم لو كان استكشاف الامضاء متوقفا على ثبوت عدم الردع للزم الدور من الجانبين، لان اثبات عدم الردع لها الذي به يستكشف الامضاء يتوقف على ثبوت تخصيصها للآيات، و ثبوت تخصيص السيرة للآيات متوقف على ثبوت عدم ردع الآيات لها، اذ لو كانت رادعة لها لما كانت السيرة مخصصة لها بل كانت مردوعة بالآيات، و مع كونها مردوعة لا تكون حجة مخصصة، و قد عرفت ان العام لا يرفع اليد عن ظهوره في العموم إلّا بحجة اقوى منه تدل على تخصيصه، فيكون ردع الآيات للسيرة دوريا، و حجية السيرة على الاخذ بخبر الثقة- ايضا- دوريا.

اما لو كانت السيرة حجيتها لا تتوقف على ثبوت عدم الردع بل كانت متوقفة على عدم ثبوت الردع و به يتم استكشاف الامضاء و عدم الثبوت لا يحتاج الى ثبوت، فكون السيرة حجة لا يتوقف على ثبوت التخصيص و ثبوت عدم الردع، بل هو متوقف على عدم ثبوت الردع، و لما كان ردع الآيات للسيرة دوريا فردعها لها لم يثبت و هذا كاف في حجية السيرة و لا يحتاج الى اثبات.

و بعبارة اخرى: ان حجية الآيات في ردعها يتوقف على العلم بالردع، و حجية السيرة في الاخذ بخبر الثقة يتوقف على عدم العلم بالردع لا على العلم بعدم الردع، و لما كان الردع دوريا فلم يعلم به، و صرف عدم العلم به كاف في حجية السيرة، فما هو المناط في رادعية الآيات لم يثبت لاستلزامه الدور لانها متوقفة على ظهورها،

ص: 17

مقام الاطاعة و المعصية، و في استحقاق العقوبة بالمخالفة، و عدم

______________________________

و لا بد من ثبوت الظهور و وصوله بالعلم به، و حجية السيرة لا تتوقف على ثبوت ظهور ايضا يدل على عدم الردع حتى يكون الدور من الجانبين، بل يكفي في ثبوت حجية السيرة عدم العلم بالرادع لها، و عدم العلم لا يحتاج الى مثبت، فما يتوقف عليه حجية السيرة متحقق و هو عدم العلم بالرادع، و ما يتوقف عليه حجية الآيات في الرادعية هو الظهور و لا بد من تحققه بالعلم به.

و بعبارة اوضح: ان ما تتوقف عليه حجية الآيات في الرادعية امر وجودي لا بد من وصول المثبت له، و ما يتوقف عليه حجية السيرة امر عدمي يكفي فيه عدم الوصول و عدم العلم، فحجية السيرة على الاخذ بخبر الثقة شرطها متحقق، و حجية الآيات في ظهورها في الردع شرطها غير متحقق.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «فانه يقال» في مقام الجواب عن لزوم الدور في حجية السيرة على حجية خبر الثقة و انه غير مستلزم للدور بخلاف رادعية الآيات للسيرة فانه دوري كما تقدم انه «انما» لا يكون دوريا لانه «يكفي في حجّيّته» أي في حجية خبر الثقة «بها» أي بالسيرة هو «عدم ثبوت الردع عنها» أي عن السيرة و الامر العدمي لا يحتاج الى مثبت، و يكفي فيه عدم ثبوت الرادع و لو «لعدم نهوض ما يصلح لردعها» كالآيات فانها لا تصلح رادعة للسيرة لاستلزام ذلك الدور، و اذا كان ذلك كافيا في حجية السيرة و لا يستلزم دورا فالسيرة كما تكون حجة في الاخذ بخبر الثقة تكون مخصصة للآيات الناهية، فالآيات الناهية لا تصلح لردع السيرة، و السيرة تصلح لان تكون حجة على خبر الثقة و مخصصة للآيات الناهية، و الى هذا اشار بقوله: «كما يكفي في تخصيصها لها ذلك كما لا يخفى» أي كما ان عدم ثبوت الردع كاف في حجية السيرة على الاخذ بخبر الثقة كذلك عدم ثبوت الردع كاف ايضا في تخصيص السيرة للآيات، فضمير تخصيصها يرجع الى السيرة، و ضمير لها يرجع الى الآيات الناهية عن اقتفاء غير العلم و عن العمل بالظن.

ص: 18

استحقاقها مع الموافقة، و لو في صورة المخالفة عن الواقع، يكون عقلا في الشرع متبعا ما لم ينهض دليل على المنع عن اتباعه في الشرعيات (1)،

______________________________

(1) حاصله: ان الضرورة قائمة على ان سيرة العقلاء جارية على العمل بخبر الثقة و هو حجة عندهم يعملون على طبقه، و ان العامل بما دل عليه خبر الثقة مطيع و غير العامل على طبقه عاص، و ان المخالف لما دلّ عليه خبر الثقة مستحق للعقوبة و ان الموافق لما دلّ عليه خبر الثقة لا يستحق عقوبة فيما لو كان خبر الثقة غير موافق للواقع فالاخذ به معذر عند المخالفة.

و الحاصل: ان خبر الثقة متبع عند العقلاء ما لم يدل دليل خاص على المنع عنه، و الى هذا اشار بقوله: «ضرورة ان ما جرت عليه السيرة المستمرة ... الى آخر الجملة».

و قوله: «يكون عقلا في الشرع متبعا» هذا خبر ان التي اسمها ما جرت عليه السيرة، و مراده من قوله يكون عقلا في الشرع متبعا هو انه بعد قيام السيرة على الاخذ بخبر الثقة التي يكفي فيها عدم ثبوت الردع و لم يثبت بالعمومات ردع لها لما عرفت، فتكون السيرة حجة على الاخذ بخبر الثقة، و لما كان العقل هو الحاكم في باب الاطاعة و المعصية و المعذرية فاذا دلّ خبر الثقة على حكم شرعي فالعقل يحكم بما ذكره من ان الاطاعة تكون باتباع ما دل عليه خبر الثقة، فان وافق الواقع كان اطاعة و ان خالف الواقع كان معذرا عنه و ان خولف فمخالفته تكون معصية.

و لما كانت المخالفة عند المصنف تقتضي استحقاق العقاب، سواء كانت مخالفة واقعية او تجريا- لما مرّ منه من ان المتجري يستحق العقاب- لذلك اطلق العبارة في المقام بقوله: «و في استحقاق العقوبة بالمخالفة».

و مراده من الدليل الذي ينهض على المنع عن السيرة هو الدليل الخاص كأن يقول الشارع لا تتبع السيرة القائمة على الاخذ بخبر الثقة في احكامي، لان الدليل العام كالعموم و الاطلاق قد عرفت انه غير قابل لان يكون مانعا و رادعا عن السيرة.

ص: 19

فافهم و تأمل (1).

______________________________

(1) اشار المصنف الى وجه امره بالفهم و التامل في هامش الكتاب 6] هو ان هناك وجها آخر لحجية السيرة، و لو قلنا بان السيرة متوقفة على ثبوت عدم الردع فيلزم الدور من حجيتها كما يلزم الدور من رادعية الآيات فلا تكون الآيات الناهية حجة في الردع و لا تكون السيرة حجة على خبر الثقة، او قلنا بان المتوقف عليه الظهور العمومي و الاطلاقي ليس ثبوت عدم التخصيص و التقييد له بل هو ايضا موقوف على عدم ثبوت المخصص و المقيد فيكون امرا عدميا كما في ثبوت الردع، فتكون الآيات حجة في الردع و تكون السيرة حجة في التخصيص و الاخذ بخبر الثقة، و حيث ان حجيتهما معا غير معقول لانهما متنافيان و فعلية المتنافيين محال، فيتساقطان في مقام التعارض و هو الاخذ بخبر الثقة.

و النتيجة على كل حال عدم كون السيرة حجة بالفعل على خبر الثقة اما للزوم الدور في الجانبين او لتساقط الحجتين.

و حاصل الوجه الذي اشار اليه في هامش الكتاب هو: ان السيرة العقلائية على الاخذ بخبر الثقة قائمة قبل نزول الآيات و غير مردوعة، لان المفروض ان ردعها لو كان لكان بالآيات الناهية، فقبل نزول الآيات الناهية كانت السيرة حجة لعدم ثبوت ردعها، و بعد نزول الآيات الناهية يدور الامر بين كون السيرة خاصّا مقدما على العام فتكون مخصصة للآيات الناهية بعمومها او اطلاقها و تكون حجة على الاخذ بخبر الثقة.

و بين كون العام ناسخا لها و رادعا لها و مانعا عن حجيتها، فيدور الامر بين تخصيص العام بالسيرة و بين نسخ العام للسيرة.

ص: 20

.....

______________________________

و قد مرّ من المصنف القول بانه كلما دار الامر بين تخصيص العام بالخاص و بين نسخ العام للخاص فالتخصيص مقدم على النسخ، و تكون النتيجة حجية السيرة، و لو فرض عدم الترجيح للتخصيص فيتكافئان، و لكن الاستصحاب في حجية السيرة قبل نزول الآيات الرادعة جار فنثبت حجيتها باستصحاب حجيتها قبل نزول الآيات.

ثم اورد هو (قدس سره) على نفسه بما حاصله: ان السيرة لما كانت مقيدة بعدم الردع فحجيتها دائما تكون مغياة بعدم ورود الردع، ففي الزمان السابق على نزول الآيات تكون السيرة حجة، و اما في زمان نزول الآيات التي ظاهرها بحسب عمومها هو الردع فلا تكون حجة لانتهاء امد غايتها بنزول الرادع.

و بعبارة اخرى: انه ليس الامر من قبيل الدوران بين التخصيص و النسخ، فان الدوران بينهما فيما اذا لم يكن احدهما مقيدا بعدم الآخر، كظهور العام في معناه و ظهور الخاص في معناه، اما مقامنا فليس من هذا القبيل فان السيرة مقيدة بعدم الردع فيدور الامر بين التخصيص للعام و بين ارتفاع قيد السيرة، و ليس ارتفاع القيد من قبيل النسخ فليس المقام من قبيل الدوران بين التخصيص و النسخ.

ثم اجاب هو عن هذا الاشكال، و توضيحه: ان الغاية للسيرة لو كانت هي عنوان عدم الردع لكان الحال كما ذكر، و لكن الشرط لحجتها هو الامضاء المستكشف بعدم الردع، و لما كانت قبل نزول الآيات غير مردوعة فقد تحقق الامضاء المستكشف بعدم الردع عنها في الزمان السابق على نزول الآيات، و الامضاء غير مغيّا بعدم الردع فحجية السيرة غير مغياة بعدم الردع دائما بل هي غاية الى ان يستكشف الامضاء، و بعد استكشافه تسقط غاية عدم الردع، و اذا لم يكن الامضاء مغيّا فظاهره الدوام و الاستمرار، فتكون حال السيرة في حجتها على خبر الثقة حال الدليل الابتدائي الدال على حجية خبر الثقة في ظهورها في الدوام و الاستمرار الى ان يثبت ما يدل على انتهاء امد الامضاء.

ص: 21

الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خبر الواحد

اشارة

فصل في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية الخبر الواحد (1).

الوجه الاول: العلم الاجمالي بصدور جملة من الأخبار

اشارة

أحدها: إنه يعلم إجمالا بصدور كثير مما بأيدينا من الاخبار من الائمة الاطهار عليهم السّلام بمقدار واف بمعظم الفقه، بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار لانحل علمنا الاجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات و سائر الامارات الى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الاخبار الصادرة المعلومة تفصيلا و الشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الامارات غير المعتبرة (2).

______________________________

و قد عرفت ان الآيات لا دلالة لها بالفعل على المنع عن الامضاء لدوريتها، فتكون السيرة بحسب هذا الوجه حجة من دون مزاحم على الاخذ بخبر الثقة و مخصصة لعموم الآيات.

(1) قد ذكروا وجوها ثلاثة عقلية لحجية خبر الواحد، و بالجملة ان القائلين بحجية خبر الواحد استدلوا لذلك بالكتاب و هي الآيات المتقدمة كآية النبأ و آية النفر، و بالسنة و هي الاخبار التي مرّ التعرّض لها، و بالاجماع و قد تقدم من المصنف بيانه ايضا بوجوه ثلاثة آخرها السيرة العقلائية، و بالعقل و هو ايضا قد ذكر بطرق ثلاثة.

(2) لا يخفى ان هذا الوجه الاول قد قرّره الشيخ الاعظم في رسائله على صورة غير هذه الصورة التي ذكرها المصنف، و حاصل ما ذكره الشيخ (قدس سره) مركب من مقدمات: الاولى: انا نعلم اجمالا بوجود احكام واقعية كثيرة في ضمن هذه الطرق من خبر الواحد و الشهرة و الاجماعات المنقولة.

الثانية: انا نعلم اجمالا ايضا بصدور اخبار كثيرة فيما بأيدينا من الاخبار، و قد تضمنت احكاما واقعية.

الثالثة: ان تلك الاخبار قد تضمنت احكاما الزامية مخالفة للاصول النافية للتكليف.

ص: 22

.....

______________________________

الرابعة: ان تلك الاخبار مجردة عن القرائن الموجبة للظن بأقربيّة ما اقترنت به، و لازم هذا العلم الاجمالي هو حجية ما بأيدينا من الاخبار، لانه بعد العلم الاجمالي بوجود تكاليف واقعية في ضمن هذه الطرق فلا بد من كونها فعلية، لوضوح ان مدلول هذه الطرق هي الاحكام الفعليّة، و بعد حصول العلم الاجمالي يكون ما بأيدينا من الاخبار قد تضمنت احكاما واقعية فعليّة، فلا بد من العمل بها، لان العلم الاجمالي بتضمنها لاحكام واقعيّة يقتضي الاخذ بها جميعا، لان كل واحد منها هو طرف للعمل الاجمالي بوجود التكاليف في ضمنها.

و قد ذكر الشيخ في الرسائل ما يدل على ان ما بأيدينا من الكتب الاربعة التي هي مجموع الاصول الاربعمائة و غيرها قد اشتملت على ما صدر من الائمة الاطهار عليهم السّلام لبيان الاحكام الواقعية.

و اما وجه المقدمة الثالثة، فلان محض العلم بصدور هذه الاخبار عنهم عليهم السّلام ما لم تكن متضمنة للعلم بتكاليف الزامية على خلاف ما تقتضيه الاصول النافية لا يكون علما يوجب الاخذ بالاخبار، لان ما يوجب التنجز هو العلم بالحكم الالزامي دون العلم بالصدور و لو كان متضمنا لنفى التكليف.

و اما وجه المقدمة الرابعة، فلان الاخبار المقترنة بالقرينة توجب انحلال العلم و انحصار الاخذ بخصوص الاخبار المقترنة بالقرائن فلا تكون النتيجة الاخذ بالاخبار التي بأيدينا كلّها.

و قد اورد الشيخ (قدس سره) على هذا الوجه بهذا البيان الذي بينه بايرادات اربعة:

الاول: و توضيحه، ان العلم الاجمالي بصدور الاخبار المتضمنة لتكاليف فعلية لا يحل العلم الاجمالي الاول، و هو علمنا بوجود تكاليف في ضمن الطرق التي منها الاجماعات المنقولة و الشهرات، لان العلم الاجمالي الاول بتكاليف فعلية في ضمن الطرق اوسع من العلم الاجمالي الثاني و هو كون الاخبار الصادرة في ضمن هذه

ص: 23

.....

______________________________

الاخبار متضمنة لتكاليف فعليّة، و اذا كان لنا علمان اجماليان كان ثانيهما اضيق دائرة من الاول لا يكون موجبا لانحلال الاول، كما لو علمنا اجمالا بوجود غنم محرمة لكونها موطوءة- مثلا- في ضمن غنم بعضها سود و بعضها بيض، ثم علمنا بوجود غنم محرمة لكونها مغصوبة مثلا في ضمن البيض، إلّا انه كان علمنا الاجمالي بوجود غنم محرمة في ضمن البيض اقل من علمنا الاجمالي الاول، و ذلك بحيث لو عزلنا من الغنم البيض مقدارا بحيث ينحل علمنا الاجمالي الثاني بحرمة الغنم التي في البيض، و ضممنا بقية الغنم البيض الى الغنم السود كان علمنا الاجمالي الاول بوجود غنم محرمة في ضمن هذه الغنم التي هي مجموع بقية الغنم البيض و الغنم السود موجودا فعلا، فان العلم الاجمالي الثاني لا يحل العلم الاول و ان احتملنا انطباق الغنم المغصوبة في علمنا الثاني على الغنم الموطوءة في علمنا الاول، إلّا ان احتمال الانطباق لما كان مع عزل مقدار من الغنم البيض الذي به ينحل العلم الاجمالي الثاني بوجود الغنم المغصوبة في ضمن البيض يكون العلم الاجمالي الاول بوجود الغنم الموطوءة باقيا على الفرض في ضمن بقية الغنم البيض و السود، فلا يكون العلم الاجمالي الثاني حالا للعلم الاول، و يجب الاحتياط في جميع اطراف الغنم التي هي الغنم البيض و السود.

و مقامنا من هذا القبيل، فان علمنا الاجمالي بوجود الاخبار الصادرة في ضمن ما بأيدينا من الاخبار لا يحل العلم الاجمالي بوجود تكاليف في ضمن الطرق التي منها الاجماعات المنقولة و الشهرات، و لذا لو عزلنا من الاخبار مقدارا ينحل به علمنا الاجمالي بوجود اخبار صادرة منهم عليهم السّلام و ضممنا بقية الاخبار الى الاجماعات المنقولة و الشهرات لعلمنا ايضا بوجود تكاليف واقعية في ضمنها ايضا، و عليه فيجب الاحتياط في الاخذ بالاجماعات و الشهرات ايضا.

و من الواضح ان الغرض من هذا الدليل العقلي هو الاخذ بخصوص الاخبار دون الاجماعات و الشهرات.

ص: 24

.....

______________________________

الثاني: و توضيحه، انه حيث كان المفروض عدم حجية الخبر الواحد بجعل تعبّدي يخصه، و انما يؤخذ به للعلم الاجمالي بوجود اخبار صادرة متضمنة لتكاليف واقعية فعلية، فيكون الاخذ بالخبر انما هو لاجل ان هذه الاخبار متضمنة للتكاليف الواقعيّة.

و من الواضح ان الخبر الواحد لا يوجب إلّا الظن بكون مؤداه هو الحكم الواقعي، و لازم ذلك هو الاخذ بكل ما يوجب الظن بالحكم الواقعي اذا كان مؤداه موافقا لمضمون الخبر و ان كان هو اجماعا او شهرة.

كما ان لازم كون الاخذ بالخبر الواحد لاجل كونه موجبا للظن بحكم اللّه هو الاخذ بالخبر الذي يظن بكون مضمونه حكم اللّه، و ان كان ذلك الخبر غير مظنون الصدور، و ترك الخبر المظنون الصدور اذا لم يحصل الظن بكون مضمونه هو حكم اللّه الواقعي.

و الحاصل: ان لازم عدم حجية الخبر بالخصوص، و انه من باب العلم الاجمالي بصدور اخبار منهم عليهم السّلام هو الاخذ بكل خبر يظن بان مضمونه هو حكم اللّه، لان العلم بصدور الاخبار لا لموضوعية الاخبار الصادرة بما هي اخبار صادرة، بل لكون الاخبار الصادرة غالبا يكون صدورها لاجل بيان الحكم الواقعي، فالمناط هو الاخذ بحكم اللّه، فكل ما كان من الاخبار مضمونه مظنون كونه حكم اللّه الواقعي هو الذي يجب الاخذ به و ان كان ضعيفا و موهوم الصدور، و لا يجب الاخذ بمظنون الصدور اذا لم يكن مضمونه مما يظن بكونه حكم اللّه و يجب الاخذ بموهوم الصدور اذا كان مضمونه ما يظن بكونه حكم اللّه.

الثالث: و توضيحه، انه اذا كان الاخذ بالخبر للعلم الاجمالي بصدور اخبار متضمنة لحكم اللّه الواقعي، فاللازم هو الاخذ بخصوص الخبر المثبت للتكليف و لا يجب الاخذ بالخبر النافي للتكليف، و الوجه فيه الاخذ بالخبر لكونه متضمنا لحكم اللّه، فالملاك في الاخذ به هو تنجز الاحكام الواقعية، و التنجز انما هو للأمر بطلب

ص: 25

.....

______________________________

الفعل او طلب تركه، اما عدم التكليف فلا تنجز له، فاذا لم يكن الخبر متضمنا لحكم اللّه بل كان نافيا للتكليف كان خارجا عن علمنا الاجمالي، فان علمنا الاجمالي يرجع الى العلم بوجود احكام منجزة، و الحكم النافي للتكليف ناف للتنجز ايضا، لما علمت ان المنجز هو التكليف لا عدم التكليف.

و اما الرابع: فهو الذي اعترف المصنف بوروده، و سيأتي بيانه بعد ذكر وجه المصنف ان شاء اللّه تعالى.

هذا حاصل وجه الشيخ و ما اورده هو عليه (قدس سره) مع توضيح ذلك.

و اما وجه المصنف في تقرير هذا الدليل العقلي الاول فهو مركب من مقدمات.

لا يخفى ان المقدمات الاربع المذكورة في وجه الشيخ لم يخالف المصنف الشيخ في ثلاث منها، انما خالفه في واحدة و هي المقدمة الثانية، و لذا ذكرنا المقدمة الاولى و الثانية لانها بحسب تقرير المصنف يكون العلم الاجمالي فيها حالا للعلم الاجمالي في المقدمة الاولى، و لذا لا يرد الايراد الاول الذي اورده الشيخ على هذا الوجه العقلي.

الاولى: هي المقدمة الاولى المذكورة في وجه الشيخ، و هو العلم الاجمالي بتكاليف فعلية في ضمن الطرق من الاخبار و الاجماعات و الشهرات.

الثانية: و هي التي خالف بها الشيخ هو العلم الاجمالي بصدور كثير مما بأيدينا من الاخبار من الأئمة عليهم السّلام المتضمنة للاحكام الواقعية، و تلك الاخبار الصادرة عنهم عليهم السّلام وافية بمعظم الفقه بحيث لو علمنا تفصيلا بتلك الاخبار الصادرة لا نحل علمنا الاجمالي بوجد تكاليف واقعية الى علم تفصيلي و شك بدوي.

و توضيحه: ان العلم الاجمالي، تارة ينحل الى علمين تفصيليين كما لو علمنا اجمالا بوجود عشرة من الغنم محرمة في ضمن غنم ثم علمنا تفصيلا بتلك العشرة، فان هذا الانحلال لازمه هو العلم بالمحرّم بعينه من الغنم و هو العشرة و بالحلال بعينه من الغنم و هو الباقي من الغنم غير هذه العشرة.

ص: 26

.....

______________________________

و اخرى: ينحل العلم الاجمالي الى علم تفصيلي و شك بدوي، كما لو علمنا بوجود غنم محرمة لا نعرف مقدارها على التحقيق، و لكنا نعلم بانها لا تزيد على العشرين مثلا، و نحتمل ان تكون اقل من ذلك و لكنها تزيد على العشرة، فلو علمنا باثني عشر منها على التفصيل بانها محرمة فان علمنا الاجمالي ينحل الى علم تفصيلي بهذه الاثني عشر و شك بدوي في بقية الغنم.

و مقامنا من قبيل الثاني، فان علمنا الاجمالي بوجود احكام في ضمن ما بأيدينا من الاخبار بحيث تكون وافية بمعظم الفقه، يوجب انحلال علمنا الاجمالي الاول الى علم بان الاخذ بما بأيدينا من الاخبار يحصل به الاخذ بمقدار من الاحكام الواقعية كثيرة، بحيث يوجب الشك في وجود احكام واقعية في غير هذا الاخبار من الطرق الاخرى كالإجماعات و الشهرات.

و يدل على انحلال العلم الاجمالي الاول بالاحكام الواقعية في ضمن مطلق الطرق بهذا العلم الاجمالي الثاني، و هو كون ما بأيدينا من الاخبار وافيا بمعظم الفقه، أي انه موجود فيه معظم الاحكام الواقعية انه لو علمنا تفصيلا بالاحكام الواقعية الموجودة في ضمن ما بأيدينا من الاخبار لانحل العلم الاجمالي الاول الى علم تفصيلي بهذه الاحكام الواقعية و شك بدوي في وجود أحكام واقعية غير هذه الاحكام في ضمن الطرق الاخرى.

لا يقال: انا بالوجدان نرى انه مع الاخذ بالاخبار يحصل لنا علم اجمالي بوجود أحكام واقعية في ضمن الطرق الاخرى من الاجماعات و الشهرات، و انكار ذلك مكابرة.

فانا نقول: انه لا ننكر هذا العلم الاجمالي و لكنه محتمل الانطباق على الاحكام التي في ضمن الاخبار.

و دعوى ان هذا العلم الاجمالي معلوم عدم الانطباق بحيث انا نعلم ان هذه الاحكام الواقعية التي في ضمن الطرق الاخرى غير الاخبار هي غير الاحكام الواقعية

ص: 27

الجواب عن ثالث ايرادات الشيخ (قده)

و لازم ذلك لزوم العمل على وفق جميع الاخبار المثبتة، و جواز العمل على طبق النافي منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له، من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب، (1) بناء على جريانه في أطراف ما

______________________________

الموجودة في ضمن الاخبار ممنوعة، بل دعواها مكابرة مع فرض ان ما بأيدينا من الاخبار واف بمعظم الفقه.

و منه تبين انه لا يرد على هذا التقرير الايراد الاول الذي اورده الشيخ (قدس سره) على التقرير الاول.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «انه يعلم اجمالا بصدور كثير مما بايدينا من الاخبار من الأئمة الاطهار بمقدار واف بمعظم الفقه» أي انا نعلم بان اخبارنا عنهم عليهم السّلام قد اشتملت على معظم الاحكام الواقعية «بحيث» يكون وجود احكام واقعية اخرى غير الاحكام الموجود في هذه الاخبار مشكوكا، فينحل العلم الاجمالي الاول بالعلم الاجمالي الثاني، و يدل على انحلاله به هو انه «لو علم تفصيلا ذاك المقدار» الموجود في ضمن هذه الاخبار من الاحكام الواقعية «لا نحل علمنا الاجمالي» الاول «بثبوت التكاليف بين الروايات و سائر الامارات الى العلم التفصيلي بالتكاليف» الواقعية «في مضامين» هذه «الاخبار الصادرة المعلومة تفصيلا» انها صادرة و متضمنة للاحكام الواقعية «و الشك البدوي في ثبوت التكليف» الواقعي «في مورد سائر الامارات غير المعتبرة» كالاجماعات و الشهرات، و مراده من الشك البدوي في ثبوتها في هذه الموارد غير الاخبار، هو الشك في ثبوتها بما انها غير منطبقة على ما هو موجود في الاخبار.

(1) يشير بهذا الى عدم ورود الايراد الثالث للشيخ لا على التقرير الاول و لا على التقرير الثاني، و ان اثر العلم الاجمالي ليس هو خصوص الاخبار المثبتة للتكاليف دون الاخبار النافية، فان السبب في الاخذ بما بأيدينا من الاخبار هو العلم الاجمالي بصدور الاخبار في ضمنها، و لا ريب انه لو علمنا بالخبر الصادر عنهم تفصيلا يجب

ص: 28

.....

______________________________

العمل على طبقه اذا تضمن اثبات التكليف و جواز العمل على طبق الخبر النافي للتكاليف، و المراد من جواز العمل على طبق الخبر النافي للتكليف هو عدم لزوم الاحتياط في مورده فيما اذا احتملنا وجوبا او حرمة، و هذا هو المراد لمن اقام الدليل العقلي على الاخذ بما بأيدينا من الاخبار، و لم يرد منه وجوب العمل على طبق جميعها باتيان ما اثبتته من التكاليف و نفي ما نفته من التكاليف حتى يرد عليهم بان لازم هذا الدليل هو الاخذ بالخبر المثبت للتكليف دون الخبر النافي، لوضوح انهم لا يريدون من العمل على طبق الخبر النافي لزوم نفي التكليف به.

و على كل فحال العلم الاجمالي بالاخبار الصادرة حال العلم التفصيلي بصدورها.

نعم هناك فرق بين العلم التفصيلي بالصادر النافي و العلم الاجمالي به، في انه مع العلم التفصيلي بصدور الخبر النافي لا يؤخذ في مورده بأصل مثبت للتكليف كقاعدة الاشتغال او الاستصحاب، و في العلم الاجمالي لا بد من الاخذ بالاصل المثبت للتكليف من قاعدة الاشتغال او الاستصحاب في مورد الخبر النافي، و انما يجوز العمل على طبق الخبر النافي حيث لا يكون في مورده اصل مثبت للتكليف.

و الوجه في هذا الفرق هو انه مع العلم التفصيلي بصدور الخبر النافي يعلم بعدم التكليف تعبدا، و مورد ثبوت التكليف بالاصل او القاعدة هو مقام الشك في التكليف لا العلم بعدم التكليف تعبدا، و في مقام العلم الاجمالي بصدور اخبار فيما بأيدينا من الاخبار لا يحصل علم تعبدا بعدم التكليف في مورد الخبر النافي، لان المفروض في العلم الاجمالي هو ان فيها ما هو صادر لا أن جميعها صادرة، و إلّا لكان علما تفصيليا، فهو مورد الشك في التكليف فيكون الاصل او القاعدة مثبتا للتكليف.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «و لازم ذلك» أي و لازم العلم الاجمالي بصدور الاخبار الكثيرة فيما بأيدينا من الاخبار هو «لزوم العمل على وفق جميع

ص: 29

علم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعضها، أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها فيه، و إلا لاختص عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال (1).

______________________________

الاخبار المثبتة» للتكليف «و جواز العمل على طبق النافي منها» للتكليف، لا كما يظهر من الشيخ من وجوب العمل على طبق المثبت للتكليف و الغاء الخبر النافي بالمرة.

و اشار الى اشتراط جواز العمل على طبق النافي بعدم وجود قاعدة او اصل في مورده بقوله: «فيما اذا لم يكن في» مورده «اصل مثبت له» أي للتكليف «من قاعدة الاشتغال او الاستصحاب».

(1) لما كان لا خلاف في جريان قاعدة الاشتغال للتكليف في اطراف العلم الاجمالي و لا تسقط الا بالتعارض، و مع عدم التعارض فلا اشكال في جريانها مع العلم الاجمالي و اثبات التكليف بها.

و اما الاستصحاب فحيث قد مر منه و يأتي في بابه التعرض له ان جريان الاستصحاب في مورد العلم الاجمالي محل خلاف، و قد مرت الاشارة الى ان الشيخ (قدس سره) يظهر منه عدم جريان الاستصحاب في اطراف العلم الاجمالي سواء أ تعارض ام لم يتعارض- فأراد المصنف ان يشير الى ان الاستصحاب انما يكون مثبتا للتكليف في مورد الخبر النافي حيث نقول بجريانه في اطراف العلم الاجمالي، و اما اذا قلنا بعدم جريانه في اطراف العلم الاجمالي فلا يكون الاستصحاب مثبتا للتكليف في مورد الخبر النافي، و يجوز حينئذ العمل على طبق الخبر النافي، و يختص عدم جواز العمل على طبق الخبر النافي بخصوص قاعدة الاشتغال لعدم الخلاف في جريانها في اطراف العلم الاجمالي، و لذا قال (قدس سره): «او الاستصحاب» أي ان الاستصحاب انما يكون مثبتا للتكليف في مورد الخبر النافي كقاعدة الاشتغال «بناء على جريانه في اطراف ما علم اجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعضها» كما لو صلينا- مثلا- الى اربع جهات في مقام الجهل بالقبلة، و علمنا بعد خروج الوقت

ص: 30

رد المصنف (قده) الدليل العقلي باختيار رابع ايرادات الشيخ (قده)

و فيه: إنه لا يكاد ينهض على حجية الخبر، بحيث يقدم تخصيصا أو تقييدا أو ترجيحا على غيره، من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم (1)، و إن

______________________________

بفساد احدى الصلوات، «او» كان الفساد في بعض الصلوات ل «قيام امارة معتبرة على انتقاضها» أي على انتقاض الحالة السابقة «فيه» أي في بعض ما علم اجمالا به، كما لو قامت البينة على فساد بعض الصلوات، فان الاستصحاب انما يجري في اثبات القضاء لصلوات عما في الذمة، و لا يؤخذ بالخبر النافي للتكليف، و هو قوله اذا خرج الوقت فقد دخل حائل حيث نقول بجريان الاستصحاب في اطراف العلم الاجمالي «و إلّا» أي و ان لم نقل بجريانه في اطراف العلم الاجمالي «لاختص عدم جواز العمل على وفق» الخبر «النافي بما اذا كان» الخبر النافي «على خلاف قاعدة الاشتغال» فقط دون الاستصحاب.

و قد ظهر مما ذكره المصنف ان الايراد الاول لا يرد على التقرير الثاني، و الايراد الثالث لا يرد مطلقا، و لم يتعرض المصنف للايراد الثاني.

(1) لما كان ايراد الشيخ الرابع واردا على التقريرين و المصنف معترف بوروده حتى على التقرير الثاني- اشار الى وروده على هذا التقرير.

و حاصله: انه لما كان الاخذ بما بأيدينا من الاخبار من باب العلم الاجمالي بصدور بعضها لا لحجية الخبر تعبدا، فلا يمكن الاخذ بالخبر الواحد على تخصص به عموما او تقيد به اطلاقا، لان رفع اليد عن عموم العام و اطلاق المطلق انما هو لقيام حجة اقوى من حجية العام في عمومه و المطلق في اطلاقه.

و من الواضح ان الاخذ بالخبر للعلم الاجمالي ليس لازمه حجية الخبر تعبدا حتى يكون الاخذ به من تقديم اقوى الحجتين، فالخبر المخصص لعموم او المقيد لاطلاق لا يكون حجة اقوى من عموم العام و اطلاق المطلق، فلا يكون نتيجته الاخذ بالخبر للعلم الاجمالي كما هو المطلوب في حجة الخبر من تخصيص العام به و تقييد المطلق به، و كما لا يخصص به عموم و لا يقيد به اطلاق كذلك لا يترجح ظهور الخبر

ص: 31

كان يسلم عما أورد عليه من أن لازمه الاحتياط في سائر الامارات، لا في خصوص الروايات، لما عرفت من انحلال العلم الاجمالي بينهما بما علم بين الاخبار بالخصوص و لو بالاجمال فتأمل جيدا (1).

ثانيها: ما ذكره في الوافية، مستدلا على حجية الاخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة، كالكتب الاربعة، مع عمل جمع به من غير رد ظاهر، و هو إنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، سيما بالاصول الضرورية، كالصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و المتاجر و الانكحة و نحوها، مع أن جل أجزائها و شرائطها و موانعها إنما يثبت بالخبر غير القطعي،

______________________________

المنطوقي على ظهور مفهوم ينافيه، فان ترجيح المنطوق على المفهوم انما هو لظهور الخبر الذي كان حجة تعبدا لا للعلم الاجمالي، و قد اشار الى ذلك بقوله: «انه لا يكاد ينهض ... الى آخر الجملة».

و قوله: «من عموم او اطلاق او مثل مفهوم» العموم له التخصيص و الاطلاق له التقييد و المفهوم له الترجيح.

(1) هذا اشارة الى عدم ورود الايراد الاول على التقرير الثاني بعد العلم الاجمالي بكون الصادر فيما بايدينا من الاخبار وافيا بمعظم الفقه، فانه به ينحل العلم الاجمالي الذي اطرافه الاخبار و ساير الطرق من الاجماعات و الشهرات كما مر تفصيله، و لذا قال: «لما عرفت من انحلال العلم الاجمالي بينهما» أي انحلال العلم بوجود احكام واقعية بين الاخبار و غيرها من الطرق بواسطة العلم الاجمالي الثاني بوجود احكام واقعية كثيرة في ضمن هذه الاخبار، و هي الاخبار الصادرة الوافية بمعظم الفقه، فالعلم الاجمالي الاول منحل «بما علم بين الاخبار بالخصوص» من الاحكام الكثيرة «و لو» كان العلم «ب» نحو «الاجمال».

ص: 32

الوجه الثاني: استدلال صاحب الوافية على حجية الكتب الأربعة

اشارة

بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور عند ترك العمل بخبر الواحد، و من أنكر فإنما ينكره باللسان و قلبه مطمئن بالايمان (1).

______________________________

(1) هذا هو الدليل العقلي الثاني و قد استدل به صاحب الوافية على حجية الكتب الاربعة، و هو مركب من مقدمتين:

الاولى: ان الكتاب الكريم و السنة القطعية قد دلا على تكاليف لا يختص بها الموجودون في عصر النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام، فنحن نقطع بان هذه التكاليف نحن مخاطبون بها فعلا و هي باقية الى زماننا كمثل الصلاة و الصوم و الحج و الزكاة و البيع و النكاح و ساير ابواب الفقه.

الثانية: انا نعلم ايضا ان هذه الماهيات مركبة من اجزاء و شرائط بحيث لو اقتصرنا على تفصيل اجزائها و شرائطها على السنة المتواترة القطعية و الاجماعات المحصلة لخرجت تلك الامور عن حقائقها، و نقطع ايضا بان ما بأيدينا من الكتب الاربعة قد تضمنت الاجزاء و الشرائط لهذه الامور بحيث لا تخرج هذه الامور عن حقائقها فجيب العمل بالكتب الاربعة.

و ملخص هذه الدليل هو انه بعد العلم بالخطاب المنجز بالامور التي ذكرها، و العلم الاجمالي بان الكتب الاربعة قد اشتملت على حقائق اجزاء هذه الامور و شرائطها فيكون اللازم من هذين العلمين لزوم الاخذ بالكتب الاربعة، لانحصار امتثال هذه الخطابات المعلومة بالضرورة في الاخذ باخبار هذه الكتب الاربعة.

و الفرق بين هذا الدليل و الدليل السابق ان متعلق العلم الاجمالي في هذا الدليل معلوم بعنوانه و هو الصلاة و الصوم و أمثالهما، و لكنه غير معلوم بالتفصيل من ناحية الاجزاء و الشرائط، و في هذا الدليل السابق متعلق العلم غير معلوم حتى بعنوانه.

و ايضا الفرق بينهما هو دعوى اشتمال خصوص الكتب الاربعة على الاخبار الصادرة المشتملة على الاجزاء و الشرائط الواقعية في هذا الدليل الثاني، و في الاول اشتمال الاخبار التي بأيدينا على تفصيل التكاليف اعم من الكتب الاربعة و غيرها.

ص: 33

اشكال شيخنا الاعظم فيه بوجهين و مناقشة المصنف فيهما

و أورد عليه: أولا: بأن العلم الاجمالي حاصل بوجود الاجزاء و الشرائط بين جميع الاخبار، لا خصوص الاخبار المشروطة بما ذكره، فاللازم حينئذ: إما الاحتياط، أو العمل بكل ما دل على جزئية شي ء أو شرطيته (1).

______________________________

و قد اشار المصنف الى المقدمة الاولى من هذا الدليل بقوله: «انا نقطع ببقاء التكليف ... الى آخر الجملة»، و الى المقدمة الثانية بقوله: «مع ان جل اجزائها ... الى آخر الجملة».

(1) المورد هو الشيخ الاعظم في رسائله، و توضيح الايراد الاول على هذا الدليل العقلي الثاني: هو ان العلم الاجمالي بوجود الاجزاء و الشرائط لهذه الامور لا يختص بخصوص الكتب الاربعة بل هو موجود في الاخبار اعم من الموجود في الكتب الاربعة و غيرها، فاللازم الاخذ بجميع ما بأيدينا من الاخبار لا خصوص الكتب الاربعة.

و لا يخفى ان الاخذ بالاخبار انما يكون بعد عدم امكان العلم بالاحتياط و الاخذ بكل ما احتملنا جزئيته او شرطيته لهذه الامور، لان اللازم بعد العلم يتنجز الخطاب بهذه الامور، و العلم بانها مركبة من اجزاء و شرائط هو الاحتياط و الاتيان بكل ما احتمل جزئيته او شرطيته، و لكنه حيث ان العلم باشتمال هذه الاخبار على ما هو واف بمعظم الأجزاء و الشرائط لذا ينحل العلم الاجمالي بالتكليف باتيان اجزاء و شرائط هذه الامور بالاخذ بما بأيدينا من الاخبار او ساير الطرق مما يدل على جزئية شي ء او شرطيته لهذه الامور، فلذا لا يجب علينا العلم بالاحتياط، و نكون بالخيار بين العمل بالاحتياط و بين العمل بكل ما يدل على جزئية شي ء أو شرطيته.

نعم اذا لم يمكن الاحتياط فحينئذ ينحصر الامر في الاخذ بكل ما يدل على جزئية شي ء او شرطيته.

ص: 34

قلت: يمكن أن يقال: إن العلم الاجمالي و إن كان حاصلا بين جميع الاخبار، إلا أن العلم بوجود الاخبار الصادرة عنهم عليهم السّلام بقدر الكفاية بين تلك الطائفة، أو العلم باعتبار طائفة كذلك بينها، يوجب انحلال ذاك العلم الاجمالي، و صيرورة غيره خارجا عن طرف العلم، كما مرت إليه الاشارة في تقريب الوجه الاول (1).

______________________________

و على كل فلا تكون نتيجة هذا الدليل هو خصوص الاخذ بالكتب الاربعة، و قد اشار الى هذا بقوله: «لا خصوص الاخبار المشروطة بما ذكره» و هي كونها خصوص الموجودة في الكتب الاربعة.

و اشار الى ان لازم العلم بتنجز هذه الامور هو الاحتياط أو العمل بكل ما اثبت جزئيته او شرطيته لا خصوص الكتب الاربعة بقوله: «فاللازم حينئذ اما الاحتياط أو العمل ... الى آخر كلامه».

(1) حاصله الايراد على ما اورده الشيخ، و هو ان الاختصاص بخصوص الكتب الاربعة انما هو لانحلال العلم الاجمالي بالاجزاء و الشرائط بالعلم بان ما في الكتب الاربعة من الاخبار الصادرة المشتملة على الاجزاء و الشرائط وافية بمعظم اجزاء و شرائط هذه الامور، و ذلك موجب لانحلال العلم الاجمالي الاول بحيث يكون الشك في وجود اجزاء و شرائط في غيرها شكا بدويا، و حاصله يرجع الى ما في تقرير الدليل العقلي الاول بالنحو الثاني لا بالنحو الذي ذكره الشيخ (قدس سره).

و الى هذا اشار بقوله: «ان العلم الاجمالي» الاول «و ان كان حاصلا بين جميع الاخبار» بل بين جميع الطرق «إلّا ان العلم بوجود الاخبار الصادرة عنهم عليهم السلام بقدر الكفاية» لتفصيل الاجزاء و الشرائط «بين تلك الطائفة» و هي الموجودة في خصوص الكتب الاربعة، او نقول باشتمال الكتب الاربعة على ما هو مقطوع الاعتبار ان لم يكن مقطوع الصدور، بحيث يكون مقطوع الاعتبار الموجود فيها وافيا بما فيه الكفاية للاجزاء و الشرائط، و الى هذا اشار بقوله: «او العلم

ص: 35

اللهم إلا أن يمنع عن ذلك، و ادعي عدم الكفاية فيما علم بصدوره أو اعتباره، أو ادعي العلم بصدور أخبار أخر بين غيرها (1)،

______________________________

باعتبار الطائفة كذلك» أي العلم بان مقطوع الاعتبار الموجود في الكتب الاربعة هو ايضا واف بما فيه الكفاية للاجزاء و الشرائط «بينها» أي بين جميع الاخبار التي بايدينا هو الذي «يوجب انحلال ذاك العلم الاجمالي» و هو العلم الاجمالي الاول بوجود الشرائط و الاجزاء في جميع ما بأيدينا من الاخبار، اما الى العلم الاجمالي بوجود الاجزاء و الشرائط بقدر فيه الكفاية و هي الاخبار الصادرة في ضمن الكتب الاربعة، او الى العلم التفصيلي بالاجزاء و الشرائط الموجودة في الكتب الاربعة اذا قلنا بان في الكتب الاربعة ما هو مقطوع الاعتبار، و بذلك ينحل العلم الاجمالي الاول الى لزوم الاخذ بخصوص الطائفة الموجود في الكتب الاربعة «و صيرورة غيره» أي غير الموجود في الكتب الاربعة من الاخبار «خارجا عن طرف العلم» الاجمالي بعد هذا الانحلال.

ثم اشار الى ان الحال في المقام هو الحال في تقرير الدليل العقلي الاول بالنحو الذي ذكره المصنف بقوله: «كما مرت اليه الاشارة ... الى آخر الجملة».

(1) حاصله: ان هذا الايراد الاول من الشيخ على صاحب الوافية انما يتم بدعوى احد امرين و هما:

- اما دعوى العلم بان ما في الكتب الاربعة غير واف بقدر فيه الكفاية للاجزاء و الشرائط، و حاصله دعوى العلم بوجود اجزاء و شرائط في غير ما هو موجود في الكتب الاربعة فلا ينحل العلم الاجمالي الاول، و يكون لازمه الاخذ بجميع ما بأيدينا من الاخبار لا خصوص الكتب الاربعة، لان ما في الكتب الاربعة سواء قلنا بان فيها ما هو مقطوع الصدور او مقطوع الاعتبار غير واف بما فيه الكفاية للاجزاء و الشرائط.

ص: 36

فتأمل (1).

و ثانيا: بأن قضيته إنما هو العمل بالاخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية، دون الاخبار النافية لهما (2).

______________________________

- و اما دعوى انا نعلم بان في غير الكتب الاربعة ما هو مقطوع الصدور ايضا فلا يكون العلم بوجود الصادر في ضمن الكتب الاربعة موجبا لانحلال العلم الاول للعلم بوجود الصادر في غيره ايضا.

و قد اشار الى الدعوى الاولى بقوله: «و ادعى عدم الكفاية» للوفاء بالاجزاء و الشرائط «فيما علم بصدوره او» علم «اعتباره من تلك الطائفة» و هي الموجود في الكتب الاربعة.

و الى الثانية اشار بقوله: «او ادعى العلم بصدور اخبار أخر بين غيرها» أي غير تلك الطائفة.

(1) يمكن ان يكون اشارة الى منع كلا الدعويين.

(2) هذا هو الاشكال الثالث الذي مر التعرض له في اشكالات الشيخ على الدليل العقلي الاول بتقريره الاول، و قد مر من المصنف الاشكال عليه.

و حاصل الاشكال: ان العلم الاجمالي بالاخبار الصادرة المتضمنة للاجزاء و الشرائط الواقعية لازمه العمل بخصوص الخبر المثبت للاجزاء و الشرائط دون الخبر النافي للجزئية و الشرطية، و قد مر من المصنف ان لازم العلم الاجمالي بوجود الصادر هو العمل على طبق المثبت للاجزاء و الشرائط، و جواز العمل على طبق النافي ما لم يكن هناك قاعدة او اصل مثبت للتكليف، و لذا لم يتعرض له هنا، و لعل عدم التعرض له لان العلم الاجمالي بوجود الصادر من الاخبار و ان كان يقتضي العمل بالخبر المثبت للتكليف لكنه لا تثبت به حجية الخبر المطلوب ثبوتها له، من تخصيص العام به و تقييد المطلق و الترجيح لمنطوقه على مثل المفهوم المعارض له كما

ص: 37

و الاولى أن يورد عليه: بأن قضيته إنما هو العمل بالاخبار المثبتة فيما لم تقم حجة معتبرة على نفيهما، من عموم دليل أو إطلاقه، لا الحجية بحيث يخصص أو يقيد بالمثبت منهما، أو يعمل بالنافي في قبال حجة على الثبوت و لو كان أصلا، كما لا يخفى (1).

______________________________

اورد المصنف به على التقرير الاول و الثاني للدليل العقلي الاول، و ذكره هنا موردا به على هذا الدليل العقلي الثاني.

و اما في النافي فهو و ان كان يجوز العمل على طبقه لكنه فيما لم يكن هناك اصل او قاعدة مثبتة للتكليف، و هذا ايضا لا يريده القائل بحجية الخبر، فان المراد من حجية الخبر المطلوب ثبوتها له هو تقديم الخبر النافي على الاصل و القاعدة المثبتين للتكليف.

(1) حاصله ما عرفت- الآن- من ان اثبات حجية الخبر بواسطة هذا العلم الاجمالي لا تؤدي الى حجية الخبر المطوب ثبوتها له من تقييد الاطلاق به و تخصيص العموم به و الترجيح لمنطوقه على مثل المفهوم المعارض له، لما عرفت من انه لا يرفع اليد عن الاطلاق و العموم و الظهور المفهومي الثابتات بالخبر المتواتر- مثلا- إلّا بحجة اقوى، و العلم الاجمالي بوجود الصادر في ضمن ما بأيدينا من الاخبار أو في الكتب الاربعة كما يريده صاحب الوافية لا يجعل الخبر المقيد أو المخصص او المعارض للمفهوم حجة اقوى من عموم العام و اطلاق المطلق و ظهور المفهوم بعد عدم معرفة الصادر بعينه، كما ان حجية الخبر النافي المطلوب فيها تقديمها على الاصل و القاعدة المثبتين للتكليف لا جواز العمل به ما لم يكن هناك قاعدة او اصل يثبت التكليف بهما.

و الى الاول اشار بقوله: «بان قضيته» أي ان قضية الخبر بواسطة هذا العلم الاجمالي لا تثبت حجية الخبر كما هو المطوب بل «انما» تقتضيه «هو الاحتياط» في الاخذ «بالاخبار المثبتة» للجزئية و الشرطية «فيما لم تقم حجة معتبرة» بتواتر و نحوه «على نفيهما» أي على نفي الجزئية و الشرطية «من عموم دليل او اطلاقه»

ص: 38

الوجه الثالث: كلام المحقق محمد تقي صاحب الحاشية (قده)

اشارة

ثالثها: ما أفاده بعض المحققين بما ملخصه: إنا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع إلى الكتاب و السنة إلى يوم القيامة، فإن تمكنا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه، فلا بد من الرجوع إليهما كذلك، و إلا فلا محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظن به في الخروج عن عهدة هذا التكليف، فلو لم يتمكن من القطع بالصدور أو الاعتبار، فلا بد من التنزل إلى الظن بأحدهما (1).

______________________________

و «لا» يثبت بواسطة هذا العلم الاجمالي «الحجية» للخبر «بحيث يخصص او يقيد بالمثبت منها» أي من هذه الاخبار، و ليس هذا المقدار هو الحجية المطلوب ثبوتها للخبر المثبت للجزئية او الشرطية.

و اشار الى الثاني بقوله: «او يعمل بالنافي» أي لا يثبت بواسطة العلم الاجمالي الحجية للخبر النافي بحيث يعمل به «في قبال حجة على الثبوت و لو كان اصلا» بل يتقدم على الخبر النافي كل حجة معتبرة و لو كانت اصلا او قاعدة، فلا ينفع اثبات الحجية للخبر بهذا العلم الاجمالي «كما لا يخفى».

(1) لا يخفى ان هذا هو الدليل العقلي الثالث لحجية الخبر، و هو للشيخ محمد تقي صاحب حاشية المعالم (قدس سره) ذكره في تعليقاته على المعالم، و هو طويل قد نقل اكثره الشيخ الآشتياني (قدس سره) في حاشيته على رسائل الشيخ الاعظم (قدس سره)، و هو على طوله و اكثاره فيه من النقض و الابرام بان قلت لكنه مشتبه المراد، فقد فهم منه الشيخ الاعظم شيئا غير ما فهمه المصنف منه.

و على كل فقد لخصه المصنف على ما استفاده من كلامه في ان مرجعه الى مقدمتين:

الاولى: نعلم باننا يجب علينا الرجوع الى الكتاب و السنة، و مراده من السنة هو السنة المحكية بالخبر الحاكي دون السنة الواقعية التي هي قول المعصوم او فعله او تقريره، لوضوح ان الرجوع اليها انما يمكن التكليف به لأهل زمان الحضور، اما في

ص: 39

.....

______________________________

زمان الغيبة فلا يعقل، فلا بد و ان يكون المراد بالتكليف بالرجوع اليها هو الرجوع الى الحاكي عنها، و الاخبار المتواترة فيها و ان كان تقيد العلم بها إلّا انه في الحقيقة يفيد العلم بان المحكي به هو مطابق للواقع من السنة، و بهذا المعنى قالوا ان الخبر المتواتر يفيد العلم بقول المعصوم: أي ان المحكي به يعلم بانه مطابق لها حقيقة. و مثله مرادهم من قوله ان نعلم بوجود الخبر الصادر من المعصوم في ضمن ما بأيدينا من الاخبار، فان مرادهم منه هو العلم بالخبر الحاكي لها المطابق لها حقيقة و واقعا، فان الواصل الينا هو قول الراوي قال الامام كذا او فعل كذا او قرر كذا، و حيث كان ما نقله الراوي متواترا فلذا نعلم بان ما حكاه الراوي هو مطابق لقول الامام الذي تكلم به و لفعله و تقريره اللذين صدرا منه مطابقة واقعية حقيقية، فلا بد و ان يكون التكليف بالرجوع الى السنة في زماننا هذا هو التكليف بالرجوع الى الحاكي عنها.

و يدل ايضا على ان مراده من السنة هو الحاكي لها هو المقدمة الثانية كما سيأتي بيانها.

هذا، مضافا الى ما ادعاه المصنف من تصريح المحقق المحشي في ذيل كلامه بان مراده من السنة هو الحاكي لها فراجع.

و قد اشار الى هذه المقدمة بقوله: «انا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع الى الكتاب و السنة الى يوم القيامة».

لا يقال: ان ظاهر اقتران السنة بالكتاب مما يدل على ان مراده من السنة نفس قول المعصوم او فعله او تقريره أي السنة الواقعية دون السنة المحكية.

فانا نقول: انه لما كان للكتاب الكريم وجود كتبي امكن الرجوع اليه بنفسه: أي الى وجوده الكتبي، و ليس للسنة وجود كتبي بل ليس الموجود لها الا الحكاية، فاقتران السنة بالكتاب لا يقتضي ان يكون مراده منها هو السنة الواقعية.

المقدمة الثانية: ما اشار اليها بقوله: «فان تمكنا ... الى آخره» و توضيحها ان المصنف قد فهم من كلام المحشي (قدس سره) ان التكليف بالرجوع الى السنة هو على

ص: 40

.....

______________________________

نحو الموضوعية كما يشير اليه قوله في آخر كلامه في مقام الايراد على الشيخ الاعظم «ان ملاكه ... الى آخره» و سيأتي بيانه ان شاء اللّه، فالرجوع اليها و ان كان على نحو الموضوعية إلّا انه لما كان المكلف به هو الرجوع الى السنة الحاكية لقول المعصوم ففي مقام الانفتاح العقل يحكم بالرجوع الى السنة الحاكية التي يعلم بمطابقتها للسنة الواقعية او يعلم بجعلها تعبدا.

و بعبارة اخرى: عند انفتاح باب العلم و العلمي لا بد من الرجوع اما الى الخبر المقطوع بموافقته للسنة الواقعية، و هو مثل الخبر المتواتر الذي نعلم بان المخبر به فيه هو الحكم الواقعي او الى الخبر المقطوع بحجيته و اعتباره، و هذا هو مراده من قوله: «فان تمكنا من الرجوع اليهما على نحو يحصل العلم بالحكم» و ذلك بالرجوع- مثلا- الى الخبر المتواتر «او ما بحكمه» و هو الرجوع الى الخبر المقطوع بحجيته.

و اما في مقام انسداد باب العلم و العلمي كما هو المفروض في مقامنا لانا في مقام اقامة الدليل العقلي على حجية الخبر، مع فرض انه هو الدليل على حجية الخبر دون الادلة التي تقدمت كالآيات و الروايات و الاجماع، فلا بد من فرض انسداد باب العلم و العلمي، و مع الانسداد فالعقل يحكم بالرجوع الى ما هو مظنون الصدور أو مظنون الاعتبار، لوضوح ان كل تكليف لا بد من امتثاله اما بالعلم او العلمي و إلّا فبالظن، و الى هذا اشار بقوله: «و إلّا فلا محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظن به في الخروج عن عهدة هذا التكليف» و هو التكليف بالرجوع الى السنة، ففي مقام الانفتاح و امكان ان نعرف السنة المامورين بالرجوع اليها لا بد من الرجوع الى السنة المقطوع بمطابقتها للسنة الواقعية او الى السنة المقطوع باعتبارها، و في مقام الانسداد فالتكليف بالرجوع الى السنة لا بد من التنزل فيه من العلم و العملي الى ما هو المظنون بصدوره او المظنون باعتباره، و لذا قال (قدس سره): «فلو لم يتمكن من القطع بالصدور او الاعتبار» كما هو فرض مقامنا «فلا بد من التنزل الى الظن باحدهما» أي لا بد من التنزل الى مظنون الصدور او مظنون الاعتبار.

ص: 41

ما أورده المصنف (قده) على كلام المحقق صاحب الحاشية (قده)

و فيه: إن قضية بقاء التكليف فعلا بالرجوع إلى الاخبار الحاكية للسنة، كما صرح بأنها المراد منها في ذيل كلامه زيد في علو مقامه إنما هي الاقتصار في الرجوع إلى الاخبار المتيقن الاعتبار، فإن و فى،: و إلى أضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقن اعتباره بالاضافة لو كان، و إلا فالاحتياط بنحو عرفت، لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره، و ذلك للتمكن من الرجوع علما تفصيلا أو إجمالا، فلا وجه معه من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره. هذا مع أن مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنة- بذاك المعنى- فيما لم يعلم بالصدور و لا بالاعتبار بالخصوص واسع (1).

______________________________

لا يقال: انه اذا كان المراد من السنة في كلام المحشي هي الاخبار الحاكية للسنة فالتكليف بالرجوع اليها معناه حجيتها، فلا وجه لهذا التكليف في حكم العقل بالرجوع اولا الى الاخبار المقطوعة الصدور ثم الاخبار المقطوعة الاعتبار في حال الانفتاح، و في حال الانسداد الى مظنون الصدور او الاعتبار، بل الاخبار كلها تكون مقطوعة الاعتبار.

فانه يقال: ان التكليف بالرجوع الى السنة الحاكية أي الاخبار ليس فيه اطلاق و انما هو في الجملة: أي ان الاجماع من الشيعة او من المسلمين او الضرورة دليل لبي لا اطلاق فيه، فهو يدل على لزوم الرجوع الى السنة الحاكية في الجملة، و لذا كان للعقل مجال في الحكم بكيفية امتثال الامر بالرجوع اليها.

(1) توضيح ما اورده المصنف على كلام المحقق المحشي، و قد اورد عليه بإيرادين:

أولهما: هو ان نتيجة كلام المحقق (قدس سره) هو القطع بالتكليف بالرجوع الى السنة الحاكية أي الاخبار التي بأيدينا، و حيث ان المفروض الانسداد و لا نعلم ما هو مقطوع الصدور و لا مقطوع الاعتبار بخصوصه فنتنزل الى الظن باحدهما، و لكن لازم هذا هو الرجوع الى متيقن الاعتبار من الاخبار، فانا و ان كنا لم نعلم بمقطوع الصدور لكنا نعلم بمتيقن الاعتبار، فان الامر بالرجوع الى هذه الاخبار في الجملة ان

ص: 42

.....

______________________________

كان على وجه يعم الخبر الموثق فلا اشكال في انه يعم الخبر الصحيح الاعلائي و هو الذي كل رجاله عدول معدلون بعدلين، فان و فى هذا النوع من الخبر بمعظم الفقه او بما نعلم بواسطة الاخذ بهذا النوع بانحلال التكليف بالرجوع الى السنة، و إلّا فنتنزل الى الاخذ بالخبر المتيقن الاعتبار بالاضافة، و هو مثل الخبر الصحيح الذي رجاله عدول و لكنهم معدلون بعدل واحد لا بعدلين، فان لم يف هذا النوع ايضا بانحلال التكليف بأن كنا مع الاخذ بهذين النوعين يبقى العلم الاجمالي بالرجوع الى الاخبار بحاله و لا ينحل الى علم تفصيلي و شك بدوي، فلا بد من العمل بالاحتياط و الاخذ بكل خبر مثبت، و لا تصل الحال الى الظن، لوضوح انه مع امكان امتثال التكليف بالعلم التفصيلي او العلم الاجمالي لا تصل النوبة الى الامتثال الظني، و في مقامنا يمكن امتثال الامر بالرجوع الى السنة، اما تفصيلا فيما اذا و فى النوع الاول او هو مع النوع الثاني بانحلال التكليف الى علم تفصيلي و شك بدوي، و ان لم يكن الاخذ بهذين النوعين وافيا فيمكن الامتثال بالعلم الاجمالي و هو الاحتياط و الاخذ بكل ما اثبت التكليف، و لا تصل النوبة الى الاخذ بالمظنون.

و قد اشار الى هذا الايراد الاول بقوله: «انما هي الاقتصار» أي ان قضية العلم ببقاء التكليف فعلا بالرجوع الى الاخبار الحاكية للسنة هي الاقتصار «في الرجوع الى الاخبار» على الرجوع الى «المتيقن الاعتبار» من الاخبار كالخبر الصحيح الاعلائي «فان و فى» بان انحل به التكليف بالرجوع الى الاخبار الحاكية للسنة «و إلّا» فنتنزل الى النوع الثاني من الخبر الصحيح و هو مراده من قوله: «و إلّا اضيف اليه الرجوع الى ما هو المتيقن اعتباره بالاضافة» أي بالاضافة الى النوع الاول من الخبر الصحيح «و إلّا» أي و ان لم يف هذان النوعان «فالاحتياط بنحو عرفت» و هو الاخذ بكل ما اثبت التكليف «لا الرجوع الى ما ظن اعتباره و ذلك» أي ان السبب في ان نتيجة ما ذكره هو الرجوع الى الاخبار الحاكية للسنة بالنحو الذي ذكرناه لها لا بالرجوع الى مظنون الاعتبار، هو انه مع امكان الامتثال اما بنحو العلم

ص: 43

.....

______________________________

التفصيلي او بنحو العلم الاجمالي لا تصل النوبة الى الامتثال الظني، و لذا قال (قدس سره): «للتمكن من الرجوع» الى السنة الحاكية بنحو يوجب رجوعنا «علما تفصيلا» بالامتثال «او» علما «اجمالا» بالامتثال، و متى امكن الامتثال اما تفصيلا او اجمالا «فلا وجه معه من الاكتفاء بالرجوع الى ما ظن اعتباره».

ثانيهما: ما اشار اليه بقوله: «مع ان مجال المنع ... الى آخره» و حاصله: انا نمنع القطع بالتكليف بالرجوع الى السنة الحاكية فعلا في حال الانسداد، فان الاجماع من المسلمين و من الشيعة انما هو على الرجوع الى السنة الحاكية المعلومة الصدور بعينها أو المعلومة الاعتبار بعينها، و ليس هناك اجماع محقق مع فرض الانسداد، و المتيقن من المسلمين و الشيعة و ان كان هو الرجوع فعلا الى السنة الحاكية إلّا أن المجمعين كلهم او جلهم ممن يرى انفتاح باب العلم و العلمي، و لم يظهر منهم الاجماع على الرجوع اليها حتى مع الانسداد.

و محصل ما ذكره الماتن هو: ان القدر المتيقن قيام الاجماع على الاخذ بالسنة الحاكية في حال الانفتاح، و في حال الانفتاح يكون الخبر المعلوم الاعتبار معلوما بعينه، و لم يثبت اجماع في فرض الانسداد ليكون الاجماع مستلزما للاخذ بالسنة في الجملة و لذا قال (قدس سره): «مع ان مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع الى السنة الحاكية بذاك المعنى» أي مع فرض الانسداد لا نعلم بانا مكلفون فعلا بالرجوع الى الاخبار الحاكية للسنة، و هو مراده من قوله: «فيما لم يعلم بالصدور و لا بالاعتبار بالخصوص»، و قوله «واسع» هو خبران: أي ان مجال المنع واسع.

ص: 44

مناقشة المصنف (قده) في ايراد الشيخ (قده) عليه

و أما الايراد عليه: برجوعه إما إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى العلم الاجمالي بتكاليف واقعية، و إما إلى الدليل الاول، لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الاخبار (1).

ففيه: إن ملاكه إنما هو دعوى العلم بالتكليف، بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة، فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه (2).

______________________________

(1) لا يخفى ان الشيخ الاعظم (قدس سره) قد اورد على ما افاده المحقق المحشي بعد ان لم يستوضح ان مراد المحشي من السنة هي السنة الحاكية في الجملة، بما حاصله ان مراد المحقق المحشي من قوله انا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع الى السنة:

اما ان يكون هو السنة الواقعية، و السنة الواقعية هي التي تتضمن الاحكام الواقعية، و تلك السنة الواقعية مطابقة لما بأيدينا من الاخبار، فيرجع كلامه الى العلم الاجمالي بالتكليف باحكام واقعية، فمرجع هذا الى دليل الانسداد، و ما ذكره هو مقدمة واحدة من مقدماته، و لا بد من ضم بقية مقدمات دليل الانسداد اليها، و نتيجتها اما الظن الواقعي من أي طريق حصل، او الظن بالطريق، او الظن بكليهما كما سيأتي بيانه مفصلا في دليل الانسداد ان شاء اللّه.

و اما ان يكون مراده من السنة هي الاخبار المعلومة الصدور، و اطلاق السنة عليها باعتبار مطابقتها حقيقة للسنة الواقعية، فيكون مرجع ما ذكره الى العلم بوجود الاخبار المعلومة الصدور فيما بأيدينا من الاخبار، و هذا هو الوجه الاول المتقدم.

و على كل فلا يكون ما ذكره دليلا عقليا ثالثا على حجية الخبر الواحد بالخصوص.

و المتحصل مما فهمه الشيخ هو الامر بالرجوع الى السنة من باب الطريقية، و عبارة المتن واضحة.

(2) حاصله: انه لا وجه للايراد على المحقق المحشي بما ذكره الشيخ، لان مراده ليس السنة الواقعية حتى يرجع الى الانسداد، و لا الاخبار المعلومة الصدور حتى يرجع

ص: 45

أدلّة حجية مطلق الظن

اشارة

فصل في الوجوه التي أقاموها على حجية الظن (1)، و هي أربعة:

______________________________

الى الدليل الاول، بل مراده هو الاخبار التي بأيدينا في الجملة. و قد ذكرنا الامارات الدالة على أن مراده من السنة هو ما ذكرناه، و لتصريحه بذلك في ذيل كلامه.

و لازم كون الرجوع الى السنة لا من باب الطريقية و ليس باعتبار مطابقتها للسنة الواقعية- هو كون الرجوع اليها من باب الموضوعية.

و اذا كان مراده هو الرجوع الى السنة الحاكية في الجملة من باب الموضوعية لا يرد عليه ما ذكره الشيخ، بل يرد عليه ما ذكرناه، و لذا قال (قدس سره): «ان ملاكه» أي ان ملاك ما ذكره المحقق المحشي «انما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع الى الروايات» التي بأيدينا «في الجملة الى يوم القيامة» و هو مراده من السنة دون السنة الواقعية و دون الاخبار المعلومة الصدور.

(1) قد اقاموا وجوها اربعة على حجية مطلق الظن، و لا يخفى ان ظاهر بعض الوجوه الآتية هو حكم العقل بحجية الظن، و هذا ينافي ما تقدم من الاصل الاولي عقلا و شرعا و هو عدم حجية الظن.

و ما يقال من انه لا منافاة بين الامرين، فان الاصل الاولي هو عدم حجية الظن بالنظر الى نفس الظن و الحجية، و ما يأتي من بعض الوجوه المقامة لحجية الظن انما هو بملاحظة حالة طارئة، و لا منافاة بين ان يكون الشي ء بالنظر الى ذاته ليس بحجة، و بالنظر الى حالة طارئة عليه حجة.

فانه يقال: ان ظاهر بعض الوجوه هو كون الظن علة تامة للظن بالعقوبة و هي علة تامة ايضا للحجية كما سيأتي بيانه، و لا يختلف حال العلية في حال من الاحوال، فان الظن بالحكم دائما يكون علة لذلك اذا تم هذا الوجه المدعى لحجية الظن، فليس هذا من قبيل الحالة الطارئة.

ص: 46

الاول: إن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي

الوجه الاول: استلزام مخالفة المجتهد لما ظنه للضرر
اشارة

مظنة للضرر، و دفع الضرر المظنون لازم.

أما الصغرى، فلان الظن بوجوب شي ء أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته أو الظن بالمفسدة فيها، بناء على تبعية الاحكام للمصالح و المفاسد (1).

______________________________

و الاولى: ان يقال في مقام الجمع بين الكلامين- حيث يكون القائل هنا بحجية الظن هو ممن يقول بعدم حجيته بالاصل الاولي-: ان النظر في مقام الاصل بالنسبة الى الظن مهمل من حيث الانفتاح و الانسداد، و النظر في المقام مقيد بكونه في حال الانسداد، و حينئذ يصح ان يقال انه لا منافاة بين ان لا يكون الشي ء بحسب ذاته علة لشي ء و ان يكون مقيدا بشي ء علة تامة له. و لعل هذا هو مراد من اجاب اولا بانه لا منافاة بين ان يكون الشي ء بالنظر الى ذاته ليس بحجة و بالنظر الى حالة طارئة عليه حجة.

(1) هذا الوجه الاول مركب من صغرى و كبرى.

اما الصغرى و هي ان ظن المجتهد بالحكم مستلزم للظن بكون مخالفة ذلك الحكم المظنون مستلزما للضرر، فالظن بالحكم مما يستلزم الظن بالضرر عند مخالفته.

و قبل توضيحه نقول انما خص الظن بالمجتهد لانه مقام الشبهة الحكمية المختصة بالمجتهد دون الشبهة الموضوعية التي يشارك المقلد المجتهد فيها.

و توضيح هذه الصغرى: انه لا ريب ان الاحكام الشرعية تابعة للمصالح و المفاسد، فالمصالح و المفاسد كعلة للاحكام الشرعية، و لا ريب ايضا ان مخالفة الحكم الشرعي علة للعقوبة، لبداهة كون مخالفة الحكم الالزامي مما يستوجب استحقاق العقاب، و من الواضح ايضا ان العقوبة من الضرر، بل هي من اعظم الاضرار، و مما لا ريب فيه ايضا ان التلازم بين العلة و المعلول من اعلى مراتب التلازم، و لا يعقل انفكاك المتلازمين في أي مرحلة من المراحل، فهما متلازمان واقعا و متلازمان

ص: 47

.....

______________________________

في مقام العلم، فان العلم باحدهما يلازمه العلم بالآخر، و الظن باحدهما يلازمه الظن بالآخر، و احتمال احدهما يلازمه احتمال الآخر. و لما كان الحكم معلولا للمصلحة او المفسدة و مخالفته علة لاستحقاق العقوبة، فيكون الظن به مستلزما للظن بعلته و هي المصلحة او المفسدة، و للظن بمعلوله و هو استحقاق العقاب على مخالفته، فالظن بالحكم مما يستلزم الظن بالعقوبة عند مخالفته، و قد عرفت ان العقوبة ضرر، فلازم الظن بالحكم هو الظن بالضرر عند مخالفته.

و قد ظهر مما ذكرنا من كون الاحكام معلولة للمصالح و المفاسد و من كون الظن بالمعلول ظنا بالعلة ان الظن بالحكم مستلزم للظن بالضرر الدنيوي من جهة ان مخالفته ترك للمصلحة الملزمة فيما اذا كان هو الوجوب، و ارتكاب للمفسدة فيما اذا كان هو الحرمة، و لا ريب ان فعل المفسدة و ترك المصلحة ضرر دنيوي، فالظن بالحكم مستلزم للظن بالضرر من ناحية علته و هي المصلحة و المفسدة و من ناحية معلوله و هي العقوبة.

و لا يخفى ان كون الحكم معلولا للمصلحة او المفسدة مبني على مذهب المشهور من العدلية، و اما كون مخالفة الحكم علة لاستحقاق العقاب فهو مسلم عند الكل.

و قد تبيّن ايضا مما ذكرنا: ان الظن بالضرر انما هو في الحكم الالزامي لانه هو الذي يكون مخالفته مستوجبة لاستحقاق العقاب، اما الحكم غير الالزامي فلا عقاب فيه حتى يكون مخالفته مما يستوجب الظن بالضرر.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «اما الصغرى فلان الظن بوجوب شي ء او حرمته» و هو الحكم الالزامي «يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته» لانها معلولة له، و الظن بالعلة يلازم الظن بالمعلول «او الظن بالمفسدة» من جهة ان الظن بالمعلول يستلزم الظن بعلته. و لما كان الحكم- بناء على مذهب المشهور من العدلية- تابعا للمصالح و المفاسد فلا بد ان يكون الظن بالحكم مستلزما للظن بكون مخالفته مستلزمة اما لترك

ص: 48

و أما الكبرى، فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون، و لو لم نقل بالتحسين و التقبيح، لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما، بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو كذلك و لو لم يستقل بالتحسين و التقبيح، مثل الالتزام بفعل ما استقل بحسنه، إذا قيل باستقلاله، و لذا أطبق العقلاء عليه، مع خلافهم في استقلاله بالتحسين و التقبيح، فتدبر جيدا (1).

______________________________

المصلحة او للوقوع في المفسدة و كلاهما مفسدة، و لذا جمعهما بقوله: «او الظن بالمفسدة فيها» أي في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم.

و لما كان ذلك مبنيا على مذهب بعض دون بعض و هو مشهور العدلية اشار الى ذلك بقوله: «بناء على تبعية الاحكام للمصالح و المفاسد».

(1) قد عرفت ان هذا الوجه مركب من صغرى و كبرى، و قد عرفت الصغرى و هي كون الظن بالحكم مما يستلزم الظن بكون مخالفته ضررا.

و اما الكبرى: فهي استقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون، فالظن بالحكم ظن بالضرر و الضرر المظنون يجب دفعه، و الناتج منهما وجوب دفع مخالفة الحكم المظنون، و دفع مخالفته ليس إلّا بامتثاله فيجب اتباع الحكم المظنون، و هذا معنى حجيّة الظن بالحكم، و قد مرّ ذكر الوجه في الصغرى.

و اما الوجه في الكبرى: و هي دعوى استقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون فحاصله: ان ملاك استقلال العقل بذلك من طريقين:

الاول: انه احد مصاديق قاعدة الحسن و القبح العقليين، فان العقلاء بنوا على مدح فاعل بعض الافعال و على ذم فاعل بعض الافعال حفظا للنظام و ابقاء للنوع، و نجدهم يذمون على ارتكاب الضرر المظنون و يمدحون على تركه، فهذا المدح و الذم في المقام هو الملاك لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون.

ص: 49

.....

______________________________

و لا يخفى ان الملاك لهذه القاعدة اذا كان الحسن و القبح العقليين فهو يتم عند من يقول بالحسن و القبح العقليين، اما مثل الاشاعرة فلا يتم الاستدلال على وجوب دفع الضرر المظنون عندهم من هذه الجهة، لانهم لا يقولون بالحسن و القبح العقليين.

الثاني: ان الملاك لاستقلال العقل بوجوب دفع الضرر المظنون هو ان العاقل لا يقدم على الضرر المظنون، بل من طبيعة كل ذي شعور هو الفرار من الضرر المظنون، و هذا مما لا يختلف فيه احد، و العقلاء كلهم قد اطبق عملهم عليه بل هو من طبيعة كل ذي شعور، فانه بجبلته يفر عن الضرر المظنون.

و لا اشكال ان العقلاء اذا اطبقوا في مقام العمل على شي ء فيصح للشارع الاعتماد على ما اطبقوا عليه في تنجيز اوامره، بل هو بما انه رئيس العقلاء فلا طريقة له غير طريقتهم، فاذا ظن المجتهد بالحكم فحيث انه يظن بالضرر في مخالفته فلو اصاب ظنه الواقع كان للشارع عقابه، و هذا هو معنى حجية الظن، فان الحجية هو التنجيز عند الاصابة للواقع و العذر عند المخالفة.

و قد اشار المصنف الى ان هذا الطريق الثاني هو الملاك لاستقلال العقل بهذه الكبرى، و هي وجوب دفع الضرر المظنون، لانه مما اطبق عليه جميع العقلاء من دون حاجة الى الاستدلال عليه بقاعدة الحسن و القبح لانها مما وقع الخلاف فيها، و لذا قال: «و اما الكبرى فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون» لانه من ما اطبق عليه العقلاء بما هم عقلاء، بل هو من جهة كل ذي شعور، فيجب دفع الضرر المظنون «و لو لم نقل بالتحسين و التقبيح العقليين لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه» أي عدم انحصار ملاك حكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون «بهما» أي بقاعدة التحسين و التقبيح العقليين «بل يكون التزامه» أي التزام العقل «بدفع الضرر المظنون بل المحتمل» أي ان العاقل بل كل ذي شعور يفرّ عن الضرر المحتمل فضلا عن الضرر المظنون بما هو عاقل و له شعور، و هذا من الامور التي التزمتها العقلاء و هو لزوم دفع الضرر المظنون بل الضرر المحتمل «بما هو كذلك» أي بما هو

ص: 50

الجواب عنه بمنع الصغرى اذا اريد بالضرر العقوبة

و الصواب في الجواب: هو منع الصغرى، أما العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف و الظن بالعقوبة على مخالفته، لعدم الملازمة بينه و العقوبة على مخالفته، و إنما الملازمة بين خصوص معصيته و استحقاق العقوبة عليها، لا بين مطلق المخالفة و العقوبة بنفسها، و مجرد الظن به بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به، كي يكون مخالفته عصيانه (1).

______________________________

ضرر محتمل فضلا عن ان يكون مظنونا من حيث انه امر جبلّي له فهو يستقل به «و لو لم يستقل العقل بالتحسين و التقبيح» العقليين، و هذا ملاك لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون في قبال ملاكه بالتحسين و التقبيح، و اذا كان العاقل ممن يرى قاعدة التحسين و التقبيح العقليين فيكون التزامه بدفع الضر المظنون لانه من جبليات العقلاء مثل التزامه بفعل ما استقل العقل بحسنة و ترك ما استقل بقبحه، و الى هذا اشار بقوله: «مثل الالتزام» هذا هو الخبر ليكون أي يكون التزامه بدفع الضرر المظنون مثل الالتزام منه «بفعل ما استقل بحسنه اذا قيل باستقلاله».

و قد اشار الى ان الملاك في وجوب دفع الضرر المظنون هو الطريق الثاني دون قاعدة التحسين و التقبيح، لان قاعدة وجوب دفع الضرر المظنون مما اطبق عليها العقلاء كلهم، مع ان قاعدة التحسين و التقبيح مما وقع الخلاف فيها، فلا بد و ان يكون الملاك فيها غير ما فيه الاختلاف بقوله: «و لذا اطبق العقلاء عليه مع خلافهم في استقلاله» أي في استقلال العقل «بالتحسين و التقبيح».

(1) قد عرفت ان الصغرى هي ان الظن بالتكليف يستلزم الظن بالضرر لانه مستلزم للظن بالعقوبة و الظن بالمفسدة.

و حاصل الجواب: ان الظن بالتكليف لا يستلزم الظن بالعقوبة فلا ظن بالضرر من جهة العقوبة، و يستلزم الظن بالمفسدة و لكنه ليس ظنا بالضرر، فمن ناحية العقوبة الظن بالتكليف لا يستلزم الظن بها عند المخالفة فلا ظن بالضرر، و من ناحية

ص: 51

.....

______________________________

المفسدة يستلزم الظن بالتكليف الظن في الوقوع فيها عند المخالفة و لكنه ليس ظنا بالضرر.

اما في العقوبة فلا ملازمة بين الظن بالتكليف و الظن بالعقوبة لان المفروض انه لم تقم حجة من الشارع على اعتبار الظن، و انما يراد اثبات الحجية للظن بهذه القاعدة، فمع الغض عن هذه القاعدة فهو مما لم يقم على اعتباره حجة، و لا اشكال ان الحاكم باستحقاق العقاب هو العقل، و العقل انما يحكم باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواصل اما بالقطع او بقيام الحجة المعتبرة عليه، و حيث لم يصل التكليف بالقطع لان المفروض انه ظن بالتكليف و لم تقم حجة معتبرة على اعتبار الظن فالتكليف على فرضه لا يكون و اصلا، و ما لم يكن التكليف و اصلا فلا تكون مخالفته مما تقتضي استحقاق العقاب.

و من الواضح ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان المراد منها هو البيان الواصل لا مطلق البيان و ان كان لم يصل، فمع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان و اصل لا يعقل ان يرى الملازمة بين الظن بالتكليف المفروض عدم وصوله من غير جهة وجوب دفع الضرر المحتمل و الظن بالعقاب، مع انه يشترط في البيان الوصول، و لا يكتفى بالبيان الواقعي و ان لم يصل فليس في مخالفة التكليف و ان كان مظنونا ظن بالعقوبة، و لا ملازمة بين الظن بالتكليف و الظن بالعقوبة، و اما وصول التكليف بقاعدة وجوب دفع الضرر المظنون فهو دور واضح، لان كونه ضررا مظنونا يتوقف على وصوله، فاذا كان وصوله متوقفا على كونه ضررا مظنونا لزم الدور.

و على كل فقد اتضح ان الملازمة بين عصيان التكليف- و هو مخالفة التكليف الواصل بالحجة المعتبرة- و بين استحقاق العقاب، و لا ملازمة بين مطلق مخالفة التكليف- و ان لم يصل- و استحقاق العقاب، فلا ملازمة بين الظن بالتكليف المفروض عدم قيام الحجة المعتبرة عليه، و بين الظن بالعقوبة على مخالفته، و لذا قال (قدس سره): «اما العقوبة» أي كون الظن بالتكليف مما يستلزم الظن بالعقوبة «ف»

ص: 52

إلا أن يقال: إن العقل و إن لم يستقل بتنجزه بمجرده، بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته، إلا أنه لا يستقل أيضا بعدم استحقاقها معه، فيحتمل العقوبة حينئذ على المخالفة، و دعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدا (1)، لا سيما إذا كان هو العقوبة

______________________________

ممنوع «لضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف» غير الواصل بحجة معتبرة «و الظن بالعقوبة على مخالفته لعدم الملازمة بينه» أي بين مطلق الظن بالتكليف و ان لم يصل «و العقوبة على مخالفته و انما الملازمة بين خصوص معصيته» و هي مخالفة التكليف الواصل بحجة معتبرة «و» بين «استحقاق العقوبة عليها لا بين مطلق المخالفة» للتكليف و ان لم يصل «و العقوبة بنفسها» أي ليس بين نفس المخالفة مطلقا و بين نفس العقوبة ملازمة «و» ان من الواضح ان «مجرد الظن به» أي بالتكليف «بدون دليل على اعتباره» أي على اعتبار هذا الظن بالتكليف لا يكون ذلك التكليف و اصلا بمجرد قيام هذا الظن عليه الذي لا دليل على اعتباره، فلا يكون ذلك التكليف بهذا الظن و اصلا «و لا يتنجز به» أي و لا يتنجز بهذا الظن التكليف «كي يكون مخالفته» أي مخالفة هذا التكليف المظنون «عصيانه» أي عصيانا لذلك التكليف، و انما العصيان هي المخالفة للتكليف الواصل بالقطع او بحجة شرعيّة.

(1) توضيحه يتوقف على بيان امرين:

الاول: ان العقل كما يستقل بوجوب دفع الضرر المظنون كذلك يستقل ايضا بدفع الضرر المحتمل أي المشكوك، فدفع الضرر المشكوك كدفع الضرر المظنون لازم بحكم العقل كما مرّت الاشارة اليه.

الثاني: ان العقل قد يستقل بالحكم على الشي ء وجودا و عدما، كما هو حكمه عند العدلية بقبح الظلم و بأنّ ما لا ظلم فيه لا قبح فيه، و لذا حكموا بقبح مخالفة المولى في ترك حكمه الواصل الى المكلف، لانه ظلم من العبد لمولاه و خروج منه عن

ص: 53

.....

______________________________

رسم العبودية و زي الرقيّة، و بعدم قبح المخالفة عند عدم وصول التكليف لان مخالفة العبد لتكليف المولى غير الواصل ليس ظلما منه لمولاه، و لا خروجا منه عن رسم العبودية و زي الرقيّة، بل حكموا بقبح عقاب المولى لعبده على مخالفة تكليفه غير الواصل بحجة معتبرة، و لذا قالوا بقبح العقاب بلا بيان و اصل، لانه ظلم من المولى لعبده لعدم وصول تكليفه اليه بالحجة المعتبرة، و على هذا فالعدلية يحكمون باستقلال العقل على عدم استحقاق العقاب في مخالفة التكليف المظنون فضلا عن المشكوك حيث لا تقوم حجة معتبرة على وصوله.

و قد يستقل العقل بعدم صحة قاعدة التحسين و التقبيح العقليين كما يدعيه الاشعري المنكر للحسن و القبح العقليين، فلا يرى عقل الاشعري بأسا في صحة العقاب على البيان الواقعي غير الواصل، و على هذا فالاشعري لا بد و ان يرى لزوم الاتيان بالحكم المظنون لملازمته للظن بالعقوبة بناء على رأيه و يجب دفع الضرر المظنون.

و قد يكون العقل غير مستقل بالحكم على الشي ء لا وجودا و لا عدما، كعقل من لم تتم عنده قاعدة الحسن و القبح العقليين، و لم يقل بمقالة الاشعري في صحة عقاب من لم يصل اليه التكليف، فعقل هذا القسم الثالث لا استقلال له باستحقاق العقوبة على مخالفة التكليف المظنون غير الواصل، و لا استقلال له ايضا بعدم استحقاق العقوبة على مخالفته، فهو شاك في صحة العقوبة على مخالفة و عدم صحتها.

و لازم هذا القسم الثالث هو لزوم اتيان التكليف المظنون، لانه و ان كان لا يقطع بالملازمة بين الظن بالتكليف و الظن بالعقوبة، لانه لا استقلال للعقل عنده باستحقاق العقوبة على مخالفة التكليف غير الواصل حتى تتحقق الملازمة بين الظن بالتكليف و الظن بالعقوبة- الّا انه حيث يحتمل صحة العقوبة على مخالفته فهو شاك في الضرر، و هي العقوبة، و دفع الضرر المشكوك كالضرر المظنون واجب، فلازم الظن بالتكليف الشك في العقوبة و العقوبة ضرر، و دفع الضرر المشكوك واجب، فهو

ص: 54

الاخروية، كما لا يخفى (1).

و أما المفسدة فلانها و إن كان الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع فيها لو خالفه، إلا أنها ليست بضرر على كل حال، ضرورة أن كل ما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله،

______________________________

لا يقول بلزوم الإتيان بالتكليف المظنون للملازمة بين الظنين، و لكنه يقول بلزوم اتيانه من حيث الملازمة بين الظن بالتكليف و الشك في العقوبة.

فظهر مما ذكرنا: ان ما في المتن- في الّا ان يقال- مبني على هذا الرأي الاخير، و لذا قال (قدس سره): «الّا ان يقال ان العقل و ان لم يستقل بتنجزه» أي بتنجز التكليف الواقعي غير الواصل «بمجرده» أي بمجرد بيانه واقعا من دون وصوله «بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته» و ان لم يصل «إلّا انه» كما لا يستقل باستحقاق العقوبة عليه كذلك «لا يستقل ايضا بعدم استحقاقها» أي بعدم استحقاق العقوبة «معه» أي مع كون التكليف مظنونا غير و اصل. و قد عرفت انه على هذا و ان كان لا ملازمة بين الظن بالتكليف و الظن بالعقوبة، الّا انه تتحقق الملازمة بين الظن بالتكليف و الشك في العقوبة على مخالفته، و لذا فرع عليه بقوله: «فيحتمل العقوبة حينئذ على المخالفة».

و اذا تمت هذه الصغرى و هي ان الظن بالتكليف مستلزم لاحتمال العقوبة يضم اليها الكبرى و هي لزوم دفع الضرر المشكوك كلزوم دفع الضرر المظنون، و لذا عقبه بقوله: «و دعوى استقلاله» أي دعوى استقلال العقل «بدفع الضرر المشكوك ك» استقلاله بدفع الضرر «المظنون قريبة جدا».

(1) وجه هذا التخصيص المشعر بالتأكيد هو ان العقوبة الدنيوية مهما كانت فهي اخف مئونة من العقوبة الاخروية لانها غضب اللّه عزّ و جل، نعوذ بلطفه من غضبه و برحمته من نقمته و هو أرحم الراحمين.

ص: 55

منع الصغرى اذا اريد بالضرر المفسدة

بل ربما يوجب حزازة و منقصة في الفعل، بحيث يذم عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلا، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) قد مرّ دعوى ان الظن بالتكليف له ملازمان: الظن بالعقوبة و الظن بالمفسدة من جهة تبعية الاحكام للمصالح و المفاسد، و قد عرفت الحال في الملازم الاول.

و اما الملازم الثاني و هو كون الظن بالتكليف يلازمه الظن بالوقوع في المفسدة في مخالفته- فشرع في الجواب عنه بقوله: «و اما المفسدة».

و يتلخص ما في المتن في اجوبة ثلاثة عنه:

الاول: مبني على تسليم تبعية الاحكام للمصالح و المفاسد في المأمور به و المنهي عنه، فلا محالة يستلزم الظن بالتكليف الظن في الوقوع في المفسدة عند المخالفة.

الا انا ننكر كون كل وقوع في المفسدة ضررا، فالظن بالتكليف و ان استلزم الظن بالوقوع في المفسدة إلّا انه لا يستلزم الظن بالضرر حتى تأتي الكبرى و هي لزوم دفع الضرر المظنون، و انما لا يستلزم ذلك لان الاحكام و ان كانت تابعة للمصالح و المفاسد في متعلقاتها إلّا ان المصالح و المفاسد فيها مصالح نوعية و مفاسد نوعية لا شخصية، و قد عرفت ان الوجه في لزوم دفع الضرر المظنون هو كونه من الجبليات لكل ذي عقل و شعور، و ان كل ذي عقل و شعور يفرّ بجبلّته من الضرر المظنون، و من الواضح ان الفرار الذي يكون عن جبلّة هو الفرار عن الضرر الشخصي دون الضرر النوعي، فالمرتكب للمفسدة القطعيّة النوعية لا يكون مرتكبا لما يفرّ العقلاء بجبلتهم عنه حتى يكون من صغريات لزوم دفع الضرر، و انما يكون مرتكبا للقبيح.

و بعبارة اخرى: ان حسن الفعل و قبحه الذي يكون مناطا للاحكام مربوط بما فيه المصلحة النوعية و المفسدة النوعية، فالمخالف للحكم الواقعي الواصل بالعلم- الذي هو عصيان قطعا و يستحق العقاب عليه جزما- قد ارتكب قبيحا و لكنه لم يرتكب ضررا، و لا ملازمة بين ارتكاب القبيح و ارتكاب المضرّ.

ص: 56

.....

______________________________

و منه يتبيّن الحال في محل الكلام، فان الظن بالتكليف- بعد ان كانت التكاليف تابعة للمصالح و المفاسد النوعية- لا يكون ملازمة بين مخالفة التكليف فيها و الظن بالضرر، و لذا قال (قدس سره): «و اما المفسدة فلانها» بناء على تبعية الاحكام للمصالح و المفاسد في متعلقاتها «و ان كان الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع فيها لو خالفه» أي الوقوع في المفسدة لو خالف التكليف، فالملازمة المسلمة هي الملازمة بين الظن بالتكليف و بين الوقوع في المفسدة عند المخالفة للتكليف «إلّا انها ليست بضرر على كل حال» أي الوقوع في المفسدة النوعية التي هي مناط التكليف ليس وقوعا في الضرر، لما عرفت من ان الضرر الذي يجب دفعه هو الضرر الشخصي لا النوعي، و قد عرفت ايضا انه لا ملازمة بين فعل الفاعل للقبيح و بين فعله لما هو ضرر عليه، و لذا قال: «ضرورة ان كلما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم ان يكون من الضرر على فاعله» كما مرّ بيانه واضحا في المخالفة القطعية للتكليف القطعي الواصل، فالعاصي و ان كان قد ارتكب قبيحا يستحق عليه العقاب قطعا، الّا انه لا يكون مرتكبا لما هو ضرر عليه، و لذا قال: «بل ربما يوجب حزازة و منقصة في الفعل بحيث يذم عليه فاعله بلا ضرر عليه اصلا».

و لا يخفى انه لما كان الغالب في مناطات الاحكام هي المصالح و المفاسد النوعية، و الّا فقد يكون المناط هو المصلحة و المفسدة الشخصيّة- اشار الى ذلك بقوله: «ربما».

و يكون المتحصّل من هذا الجواب هو نفي الايجاب الكلي، و هو كون كل ظن بالتكليف مستلزما للظن بالضرر من ناحية الوقوع في المفسدة، و قد اشار الى هذا ايضا في صدر كلامه بقوله: «ليست بضرر على كل حال».

لا يقال: ان المصنف قد اعترف بان الظن بالتكليف ملازم للظن بالوقوع في المفسدة، و المفسدة حينئذ كانت شخصية فيجب دفعها بملاك فرار كل ذي شعور من الضرر، و ان كانت نوعية فيجب دفعها بملاك قاعدة الحسن و القبح.

ص: 57

و أما تفويت المصلحة، فلا شبهة في أنه ليس فيه مضرّة، بل ربما يكون في استيفائها المضرة (1)، كما في الاحسان

______________________________

فانه يقال: ان المفسدة حيث لم يتحقق كونها شخصية فلا يجب دفعها بملاك فرار كل ذي شعور من الضرر، فلم يبق إلّا احتمال كونها نوعية، و لا بد حينئذ من انكار انطباق قاعدة الحسن و القبح عليها، و انه لا بناء من العقلاء على ذم مرتكب الضرر اذا كان ارتكابه لاجل جلب منفعة، و كيف ذلك و نرى العقلاء يرتكبون المضار المحققة اذا كان ارتكابها لاجل جلب منفعة.

و مما ذكرنا يعلم ان المفسدة اذا كانت شخصية فلا يجب دفعها ايضا بملاك فرار كل ذي شعور من الضرر، فانه انما يكون ذلك اذا لم يكن في ارتكابها جلب منفعة.

(1) هذا هو الجواب الثاني، و حاصله: انا لا نسلم ان كل ظن بالتكليف يستلزم الظن بالوقوع بالمفسدة، فان التكليف اما وجوبي او تحريمي، و التكليف التحريمي هو المعلول للمفسدة، و اما التكليف الوجوبي فهو معلول للمصلحة، فمخالفة التكليف التحريمي المظنون يستلزم الظن بالوقوع في المفسدة، و اما مخالفة التكليف الوجوبي المظنون انما يستلزم الظن بتفويت المصلحة، و فوت المصلحة فوت المصلحة لا وقوع في المفسدة، و الّا لرجع كل وجوب الى التحريم و هو واضح الفساد.

فلو سلّمنا ان بعض الظن بالتكليف يستلزم الظن بالوقوع في المفسدة و ان المفسدة مضرة، و لكن لا نسلّم ان كل ظن بالتكليف يستلزم ذلك، و انما يختص هذا التلازم في الظن بالتكليف التحريمي دون الوجوبي، فان اللازم في مخالفة التكليف الوجوبي هو الظن بفوت المصلحة دون الوقوع في المفسدة. و لا يخفى ان مرجع هذا الجواب الى نفي الايجاب الكلي.

و الحاصل: إنّا لو سلّمنا هذه الملازمة فانما نسلمها في الظن بالتكليف التحريمي دون الظن بالتكليف الوجوبي، و لذا قال: «و اما تفويت المصلحة فلا شبهة ... الى آخر الجملة».

ص: 58

بالمال (1).

هذا مع منع كون الاحكام تابعة للمصالح و المفاسد في المأمور بها و المنهي عنها، بل إنما هي تابعة لمصالح فيها، كما حققناه في بعض فوائدنا.

و بالجملة: ليست المفسدة و لا المنفعة الفائتة اللتان في الافعال و أنيط بهما الاحكام بمضرة (2)، و ليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو

______________________________

(1) كما في الزكاة فمن الواضح ان الزكاة من الاحكام الوجوبية، و هي وجوب اعطاء من ملك النصاب عشر ما فيه النصاب الى الغير.

و لا إشكال ان في هذا الحكم مصلحة عائدة الى الغير، و ليس في ترك المصلحة العائدة الى الغير مضرة على التارك، بل في الاعطاء نقص مالي على المعطي و هو ضرر عليه.

فاتضح ان مخالفة الحكم الايجابي المنبعث عن المصالح هو تفويت للمصلحة النوعيّة، و ربما يكون في اطاعته ضرر شخصي على المطيع كما عرفت في المثال، و لذا قال (قدس سره): «و اما تفويت المصلحة» بمخالفة الحكم الايجابي المنبعث عن المصلحة اللزومية «فلا شبهة في انه ليس بمضرة» و انما هو دائما تفويت المصلحة «بل ربما يكون» كما في مثل المثال «في استيفائها» أي في استيفاء المصلحة بالاطاعة «المضرة» على المطيع «كما في الاحسان بالمال» في اعطاء ماله الى الغير.

و قد عرفت ان الغرض من هذا الجواب هو رفع الايجاب الكلي و انه ليس في كل ظن بالحكم ظن بالمضرة من ناحية الوقوع في المفسدة.

(2) و هذا هو الجواب الثالث، و حاصله: ان كون الظن بالحكم مستلزما للظن بالضرر في مخالفته مع تسليمه انما هو بناء على تبعية الاحكام للمصالح و المفاسد في المتعلق للحكم، و اما لو قلنا بتبعية الاحكام للمصالح في نفس الحكم كما هو واضح في مثل الاوامر الامتحانية فلا يكون الظن بالحكم مستلزما للظن بالضرر في مخالفته من ناحية الوقوع في المفسدة، اذ على هذا ليس في المتعلق مفسدة او مصلحة حتى يكون

ص: 59

حسن ما فيه المصلحة من الافعال- على القول باستقلاله بذلك- هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إليه، و لعمري هذا أوضح من أن يخفى، فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون هاهنا أصلا (1)، و لا استقلال

______________________________

مخالفة التكليف مستلزمة للوقوع في ذلك، بل الاحكام على هذا تكون تابعة للمصلحة في نفس الحكم بها، و قد استوفيت بنفس الحكم المشرع من قبل الشارع، و المتعلق خال عما هو السبب في هذا الحكم.

و لا يخفى ان الغاية من هذا الجواب ايضا دفع الايجاب الكلي، فان المصنف لا يلتزم بان الاحكام كلها من هذا القبيل، بل في بعض الاحكام يقول بالامرين معا، فانه يلتزم بوجود المصلحة و المفسدة في المتعلق مع التزامه بالمصلحة ايضا في نفس الحكم.

و لا يخفى ان قوله: «و بالجملة» ... الى قوله «اصلا» هو تلخيص لما مرّ.

(1) حاصله: انه بناء على مذهب العدلية من استقلال العقل و عدم تردّده في حكمه باستحقاق العقاب على المعصية و فعل ما فيه المفسدة و تقبيح فاعلها، و حكمه بحسن الاطاعة و فعل ما فيه المصلحة و مدح فاعلها، مع بنائهم ايضا على تبعية الاحكام للمصالح و المفاسد في متعلقاتها، لا يستلزم الملازمة بين الظن بالتكليف و الظن بالضرر الشخصي على الفاعل في مقام مخالفته لما ظنه فيكون من الضرر المظنون الذي يجب دفعه، لان العدلية الملتزمين بهذين الامرين ملتزمون بان المصالح و المفاسد نوعيّة، و قد عرفت ان قاعدة لزوم دفع الضرر المظنون منوطة بالضرر الشخصي دون النوعي.

و الحاصل: ان حكم العقل باستحقاق العقاب و الثواب و الذم و المدح منوط بقاعدة الحسن و القبح العقليين الذي مناطهما الظلم و العدل، و ان المخالفة و العصيان ظلم في مقام العبودية و الامتثال، و الاطاعة عدل في مقام العبودية، و لا ربط له بقاعدة دفع الضرر.

ص: 60

للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة أو ترك ما فيه احتمال المصلحة (1)،

______________________________

و قد عرفت ايضا انه لا تردّد للعقل عندهم في حكمه بان ذلك في التكليف الواصل دون التكليف الذي لم يصل بحجة شرعية و لا تردّد لهم في ذلك.

و اما من ناحية تبعية الاحكام للمصالح و المفاسد حتى يكون مورد قاعدة دفع الضرر من هذه الجهة فقد عرفت ايضا انهم يقولون بتبعيّة الاحكام للمصالح و المفاسد النوعية دون الشخصية فلا ملازمة ايضا.

و قد اشار الى كلا هذين الامرين بقوله: «و ليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة».

و اشار الى ابتنائه على مذهب العدلية في المقامين بقوله: «على القول باستقلاله بذلك».

و اشار الى ان المصالح و المفاسد عندهم التي هي مناطات الاحكام نوعيّة لا شخصية بقوله: «هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله» أي ليس مناط حكم العقل بقبح المفسدة و حسن المصلحة هو المفسدة و المصلحة الشخصيّة حتى يكون الظن بالتكليف ملازما للظن بالضرر في المخالفة من ناحية علل الاحكام، لانها نوعيّة لا شخصيّة، و لذا قال (قدس سره): «فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون هاهنا اصلا» لا من ناحية الظن بالعقوبة لان المفروض ان التكليف غير واصل، و لا من ناحية المفسدة لانها نوعية لا شخصية.

(1) يشير بهذا الى ما عن شيخ الطائفة في العدّة من دعوى استقلال العقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة، و ان الاقدام على ما لا يؤمن مفسدته كالاقدام على ما علم مفسدته، و هذا مناط آخر للزوم اتباع الظن بالتكليف، فان الظن بالتكليف و ان كان لا يستلزم الظن بالمفسدة إلّا انه يلازم احتمال المفسدة، و لو لاحتمال كون المفسدة شخصية، و العقل مستقل بقبح فعل محتمل المفسدة، فعلى هذه القاعدة يلزم اتيان التكليف المظنون، لانه لا اشكال في استلزامه لاحتمال المفسدة، و ان كان لا يلازم

ص: 61

.....

______________________________

الظن بها، و لكن احتمالها كاف في الحكم بقبح الفعل الذي هو مخالفة التكليف المظنون.

فالمتحصّل من هذه القاعدة: هو لزوم الاتيان لحكم العقل بقبح المخالفة لا من جهة وجوب دفع الضرر، بل حكم العقل بالقبح هو بنفسه مدرك للزوم ترك مخالفة التكليف المظنون، و بناء على كون ترك المصلحة هو مفسدة ايضا يكون مخالفة ما فيه احتمال المصلحة داخلا في هذه القاعدة ايضا.

و لا يخفى ان ظاهر كلام الشيخ ان المراد من المفسدة ليست هي العقوبة حتى يعود الجواب الذي تقدم، بل المراد منه هو ظاهره و هو المفسدة، و لكن مدرك ترك المفسدة هو حكم العقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة، لان الشيخ في العدّة استدل على لزوم ترك محتمل المفسدة بانه كالذي علم مفسدته بقبح اخبار المخبر عمّا لا يعلم كذبه كقبح الاخبار بما علم كذبه.

و فيه اولا: منع هذه الدعوى، و انه لا استقلال للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة، و قياسه المقام بالاخبار و ان ما لم يعلم كذبه كالذي علم كذبه قياس مع الفارق، لان قبح الاخبار عما لم يعلم كذبه انما هو من ناحية القبح المخبري لا القبح الخبري، فان المدار في القبح في الاخبار هو الاخبار عما لا يعتقد صدقه، و لما كان المخبر عما لم يعلم كذبه لا يعتقد صدقه فلذا كان قبيحا، و السبب في كون المناط هو عدم اعتقاد الصدق دون الكذب المخبري هو ان المناط للمدح و الذم عندهم الامور الاختيارية، و مطابقة الواقع و عدم مطابقته ليست من الامور الاختيارية، بخلاف الاخبار عما يعتقد و ما لا يعتقد فانه من الامور الاختيارية للمخبر، فلذا كان المناط في القبح في مقام الاخبار هو المخبري دون الخبري، بل العقل انما يستقل بقبح ما علم مفسدته لا ما احتمل مفسدته، و عمل العقلاء بما هم عقلاء في الاقدام على ما فيه احتمال المفسدة خير شاهد على منع هذه الدعوى.

ص: 62

فافهم (1).

الوجه الثاني:
اشارة

الثاني: إنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح و هو قبيح (2).

______________________________

و ثانيا: منع كون ترك المصلحة من المفسدة، فهو على تقدير تماميته يتم في الظن بالتكليف التحريمي دون الوجوبي.

و ثالثا: بناء على تماميّة هذه الدعوى لا اختصاص لها بالظن بالتكليف بل تشمل ايضا الشك بالتكليف.

(1) لعله اشارة الى ما تقدم منه من الاستدلال على العقوبة المحتملة من ناحية لزوم دفع الضرر المشكوك، و حيث ان احتمال المفسدة احتمال الضرر ايضا فيمكن ان يكون لزوم اتباع الظن بالحكم من ناحية لزوم دفع الضرر المشكوك لاستلزام الظن بالحكم احتمال المفسدة.

و لا يخفى انه يتمّ في الحكم التحريمي و ان لازمه الاحتياط في مقام الشك بالتكليف ايضا.

(2) هذا هو الدليل العقلي الثاني الذي اقيم على حجية مطلق الظن بالحكم.

و حاصله: هو انه مركب من مقدمتين: الاولى: انه اذا أدّى الظن الى شي ء فيكون ما أدى اليه الظن هو الراجح، لان حقيقة الظن هو رجحان احد الطرفين بخصوصه على الطرف الآخر، فاذا ظننت- مثلا- بوجود زيد في الدار فمعناه كون وجوده في الدار ارجح من عدم وجوده فيها، فاذا قام الظن على حكم فالاخذ به أخذ بما هو المظنون و هو الراجح، و عدم الاخذ بما قام عليه الظن معناه الاخذ بالطرف الموهوم المرجوح، فانه اذا أدّى الظن الى وجوب الجمعة- مثلا- فاتيان الفرض بنحو ما ذكر في ترتيب الاتيان بصلاة الجمعة اخذ بالراجح، و اتيان الفرض بنحو ما يأتي بالظهر في ساير الايام اخذ بالمرجوح، و لذا كانت هذه المقدمة هي عبارة عن القضية المتصلة التي اشار اليها في المتن، و هي «انه لو لم يؤخذ بالظن لزم

ص: 63

و فيه: إنه لا يكاد يلزم منه ذلك إلا فيما إذا كان الاخذ بالظن أو

المناقشة في الوجه الثاني

بطرفه لازما، مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلا، أو عدم وجوبه شرعا، ليدور الامر بين ترجيحه و ترجيح طرفه، و لا يكاد يدور الامر بينهما إلا بمقدمات دليل الانسداد، و إلا كان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمي أو الاحتياط أو البراءة أو غيرهما على حسب اختلاف الاشخاص أو الاحوال في اختلاف المقدمات، على ما ستطلع على حقيقة الحال (1).

______________________________

ترجيح المرجوح على الراجح» لان عدم الاخذ بما قام عليه معناه الاخذ بعدم هذا الظن، و هو الاخذ بالطرف المقابل لهذا الظن و هو المرجوح.

و المقدمة الثانية: هو ان ترجيح المرجوح على الراجح قبيح فترك الاخذ بالظن قبيح، و من الواضح عدم صحة العمل القبيح، فترك ما قام عليه الظن عمل غير صحيح، و الى هذه المقدمة اشار بقوله: «و هو قبيح».

(1) لما كانت المقدمة الثانية مسلّمة و هي قبح ترجيح المرجوح على الراجح و عدم صحته فهي ليست محلا للمناقشة فانحصرت المناقشة في المقدمة الاولى.

و حاصل الاشكال و المناقشة فيها: ان المفروض هو كون هذا الدليل غير دليل الانسداد، و الذي هو رابع الادلة التي اقيمت على حجية الظن كما سيأتي بيانه ان شاء اللّه تعالى، و على هذا فنقول:

لا نسلّم انه لو لم يؤخذ بما قام عليه الظن يلزم ترجيح المرجوح على الراجح، لان المقام اما ان يكون مقام الفتوى من المجتهد، فنقول ان المجتهد اذا قام ظنه على حكم و لم يفت على طبق ظنه لا يلزم منه ترجيح المرجوح على الراجح، لان الاطراف للمجتهد ثلاثة الفتوى على طبق ظنه، و التوقف عن الفتوى رأسا، و الفتوى على خلاف ظنه.

ص: 64

.....

______________________________

و من الواضح ان توقفه عن الفتوى رأسا احوط له، فلا ينحصر امره بالفتوى على خلاف ظنه اذا لم يفت على طبق ظنه حتى يكون ذلك من ترجيح المرجوح على الراجح.

نعم في مقام انحصار الفتوى به و لا يسعه الافتاء بالاحتياط يكون حاله حال الفرض الثاني، و هو حال المجتهد في مقام علمه فيما اذا قام ظنه على حكم.

و على كل ففي مقام الفتوى لا يلزم من عدم الاخذ بالظن ترجيح المرجوح مطلقا كما هو ظاهر هذا الدليل.

و اما الكلام في المقام الثاني، و هو عمل المجتهد فيما اذا قام ظنه على شي ء فنقول: انما يكون الاخذ بخلاف ما قام عليه الظن من الاخذ بالمرجوح حيث تنضم الى هذه المقدمة بقية مقدمات الانسداد الآتية و هي:

قيام العلم الاجمالي بثبوت تكاليف فعلية، فانه لو لم يعلم اجمالا بثبوت تكاليف فعلية لا يكون الاخذ بخلاف ما قام عليه الظن مرجوحا، لوضوح عدم لزوم امتثال غير التكاليف الفعلية.

و انسداد باب العلم و العلمي، لانه لو لم ينسد عليه باب العلم و العلمي، بان كان باب العلم و العلمي مفتوحا، فالاخذ بالطريق العلمي المنصوب من الشارع فيما اذا قام على خلاف ما قام عليه ظنه لا يكون ذلك من ترجيح المرجوح، فاذا قام الخبر الذي ثبتت من الشارع حجيته على وجوب الظهر- مثلا- و ظن المجتهد ان الحكم هو الجمعة، فالعمل منه على طبق الخبر الذي ثبتت حجيّته لا يكون من الاخذ بالمرجوح و هو واضح، بل الاخذ بما قام عليه الظن مع فرض عدم ثبوت حجيّته من الشارع بالخصوص هو من الاخذ بالمرجوح، لصحة العقاب على ترك ما قام الخبر الثابت حجيّته عليه.

ص: 65

.....

______________________________

و انه لا يجوز لنا الاهمال و عدم التعرض لامتثال شي ء من الاحكام، فانه لو كان الاهمال جائزا لما لزمنا الاخذ بما قام عليه الظن بالتكليف، فان الاخذ بما هو جائز شرعا لا يعقل ان يكون قبيحا.

و انه لا يجب علينا الاحتياط، و لا يجوز لنا الرجوع الى الاصول، فانه لو امكن الاحتياط و وجب لا يكون ترك الاخذ بما قام عليه الظن الى الاخذ بالاحتياط من المرجوح، بل ترك الراجح الى ما هو ارجح منه و الزم، بل هو بالنسبة الى الاحتياط من المرجوح.

و كذا لو جاز شرعا الرجوع الى الاصول لا يكون الاخذ بخلاف ما أدّى اليه الظن- اذا كان هو مؤدى الاصول- من القبيح، لما عرفت من ان الأخذ بما يجوز شرعا ليس من القبيح.

نعم لو تمت هذه المقدمات يكون مجال لما ذكر، و هو انه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح و هو قبيح.

فاتضح ان هذه بعض مقدمات دليل الانسداد و ليست دليلا براسها، و المفروض كونها دليلا براسها.

و بعبارة اخرى: انه انما يتعين الاخذ بما قام عليه الظن في مقام يدور الامر بين الاخذ به او الاخذ بطرفه و هو الموهوم و المرجوح، و انما يكون ذلك فيما اذا كان لنا علم اجمالي باحكام فعلية، و انسداد باب العلم و العلمي، و علمنا بعدم جواز الاهمال، و لا يجب الاحتياط اما لعدم امكانه كما في الدوران بين محذورين، او كان مخلا بالنظام، او كان خارجا عن الطاقة، او كان ممكنا و لكنه قام الدليل الشرعي على عدم وجوبه.

و حينئذ يدور الامر بين العمل بالظن او بطرفه فيتعيّن العمل بالظن، و هذه هي مقدمات الانسداد، و بعضها ما ذكر دليلا برأسه و هو انه لو لم يؤخذ بالظن للزم ترجيح المرجوح على الراجح و هو قبيح، و لذا قال (قدس سره): «و لا يكاد يدور

ص: 66

الثالث: ما عن السيد الطباطبائي (قدس سره): من إنه لا ريب في وجود واجبات و محرمات كثيرة بين المشتبهات، و مقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالاتيان بكل ما يحتمل الوجوب و لو موهوما، و ترك ما يحتمل الحرمة كذلك، و لكن مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كله، لانه عسر اكيد و حرج شديد، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط و انتفاء الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات

______________________________

بينهما» أي بين الاخذ بالظن او بطرفه المرجوح «إلّا بمقدمات الانسداد» و تماميتها «و الّا» أي و ان لم تتم مقدمات الانسداد باختلال احدها كما عرفت «كان اللازم هو» عدم الرجوع الى الظن، بل اللازم «الرجوع الى العلم و العلمي» كما لو انفتح باب العلم و العلمي و لم ينسد بابهما «او» الرجوع الى «الاحتياط» فيما اذا انسد بابهما و لكن امكن الاحتياط، فانه يجب الرجوع اليه «او» كان الاحتياط غير واجب و لكن يجوز الرجوع الى الاصول مثل «البراءة او غيرهما» كالاستصحاب او الرجوع الى الغير و الاخذ بفتواه، فمع احد هذه الامور لا يتعين العمل بالظن.

و لما كان تمامية مقدمات الانسداد و عدم تماميتها يختلف بحسب الآراء او الاحوال اشار الى ذلك بقوله: «على حسب اختلاف الاشخاص» بان كان بعضهم مثلا يرى حجية خصوص الخبر المعدّل بعدلين في جميع طبقاته، و مثله قليل بين الاخبار التي بأيدينا و لا يكون وافيا بمعظم الفقه، فعند هذا البعض باب العلمي منسد، و اما باب العلم فهو منسد عند الاكثر، لعدم وفاء المتواتر من الاخبار و المحصّل من الاجماعات بمعظم الفقه، و لكن من يرى حجية خبر الثقة فانه عنده باب العلمي منفتح.

او لأجل اختلاف الاحوال كما في مورد الدماء و الفروج، فان المشهور على الاحتياط فيه.

ص: 67

الوجه الثالث: كلام السيد المجاهد الطباطبائي (قده) و الجواب عنه

و الموهومات، لان الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات و إدخال بعض المشكوكات و الموهومات باطل إجماعا (1).

و لا يخفى ما فيه من القدح و الفساد، فإنه بعض مقدمات دليل الانسداد، و لا يكاد ينتج بدون سائر مقدماته، و معه لا يكون دليلا آخر، بل ذاك الدليل (2).

______________________________

(1) و هو السيد محمد الحجة نجل صاحب الرياض (قدس سرهما) ... و هو مركب من مقدمتين:

الاولى: العلم الاجمالي بوجود واجبات و محرمات فعليّة كثيرة.

الثانية: ان القاعدة الاولى في العلم الاجمالي هو الاحتياط باتيان جميع الاطراف المشتبهة في مورد الوجوب و ترك جميع الاطراف في مورد الحرمة، الّا ان الاحتياط كذلك لا يجب لانه منفي بقاعدة الحرج، فالجمع بين العلم الاجمالي بالاحكام الفعلية، و بين قاعدة الاحتياط و قاعدة نفي الحرج يقتضي العمل بالمظنون دون المشكوك و الموهوم، لان العلم الاجمالي بفعلية الاحكام تقتضي الامتثال، و بعد رفع الاحتياط بقاعدة الحرج يدور الامر في الامتثال للاحكام الفعلية بين العمل بالظن فيها او الشك او الوهم، و لا اشكال انه حيث يدور الامر بين الاخذ بالمظنونات او المشكوكات و الموهومات يتعيّن الاخذ بالمظنون، لان الاخذ بالمشكوك و الموهوم و ترك المظنون مما قام الاجماع على بطلانه، فيتعيّن العمل بالظن ... هذا حاصل ما في المتن و العبارة واضحة.

(2) حاصله: ان هذا الدليل المفروض فيه انه دليل في قبال الدليل الرابع الذي هو الانسداد.

و من الواضح انه لو اقتصرنا على هاتين المقدمتين لا تنتج وجوب العمل بالظن و حجيته، لانه لو انفتح باب العلم و العلمي مثلا فلا يتعيّن الرجوع الى ما قام عليه الظن.

ص: 68

الوجه الرابع: دليل الانسداد
اشارة

الرابع: دليل الانسداد، و هو مؤلف من مقدمات، يستقل العقل مع تحققها بكفاية الاطاعة الظنية حكومة أو كشفا على ما تعرف، و لا يكاد يستقل بها بدونها، و هي خمس.

أولها: إنه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.

ثانيها: إنه قد انسد علينا باب العلم و العلمي إلى كثير منها.

ثالثها: إنه لا يجوز لنا إهمالها و عدم التعرض لامتثالها أصلا.

رابعها: إنه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا، بل لا يجوز في الجملة، كما لا يجوز الرجوع إلى الاصل في المسألة، من استصحاب و تخيير و براءة و احتياط، و لا إلى فتوى العالم بحكمها (1).

______________________________

و ان ضممنا اليهما المقدمات الآخر كان هو دليل الانسداد لا دليلا آخر في قباله كما هو المفروض.

و على كل فالمقدمتان المذكورتان هما بعض مقدمات دليل الانسداد، و لا بد من ضمّ المقدمات الآخر اليهما لينتج لزوم العمل بالظن.

و الحاصل: ان هذا الدليل باطل لوجهين: الاول: انه لو اقتصرنا عليهما لا يكون نتيجتهما هو لزوم العمل بالظن، لانهما بعض مقدمات الانسداد، بل لا بد من ضمّ بقية مقدمات الانسداد اليهما، و الى هذا اشار بقوله: «فانه بعض مقدمات دليل الانسداد ... الى آخر الجملة».

الثاني: انه مع ضمّ بقية مقدمات الانسداد اليهما لا يكون دليلا آخر في قبال دليل الانسداد كما هو المفروض فيه، فانه قد ذكر بما أنّه دليل آخر في قبال دليل الانسداد، و الى هذا اشار بقوله: «و معه لا يكون دليلا آخر بل ذاك الدليل» أي بل يكون هو دليل الانسداد بعينه.

(1) قوله: (قدس سره): «الرابع دليل الانسداد ... الخ» لا يخفى ان كلامه من هنا الى قوله: «و هي خمس» يتضمن امرين:

ص: 69

.....

______________________________

الاول: كون دليل الانسداد عقليا و اليه اشار بقوله: «و هو مؤلف من مقدمات يستقل العقل مع تحققها بكفاية الاطاعة الظنية» و الوجه في كونه عقليا مع ان بعض مقدماته شرعية- كما سيأتي بيانها- هو ان المقدمات الاربع: و هي العلم الاجمالي بالتكاليف، و انسداد باب العلم و العلمي اليها، و عدم جواز الاهمال، و عدم وجوب الاحتياط مع عدم جواز الرجوع الى الاصول هي مقدم لقضية شرطيّة، و التالي لها هي المقدمة الخامسة، و هو عدم جواز الرجوع الى الشك و الوهم، فيتعين الرجوع الى الظن.

و من الواضح ان استلزام المقدّم للتالي عقلي، و ان كان بعض اجزاء المقدم شرعيا ككون مقدمة الواجب عقلية باعتبار استلزام وجوب ذي المقدمة لوجوب ذيها، فان الوجوب و ان كان شرعيا الّا ان استلزامه لوجوب مقدمته عقلي لا شرعي، و ليست عقلية هذا الدليل باعتبار كونه قياسا مستلزما للنتيجة، فان كل قياس يستلزم نتيجته، و لكنه لا يقتضي كون المسألة عقلية، فان كون الامر دالا على الوجوب ايضا هو مركب من قياس نتيجته دلالة الامر على الوجوب، إلّا انه لا يقتضي كون هذه المسألة عقليّة، بل السبب في كون الانسداد عقليا هو استلزام المقدمات الاربع لانحصار الامتثال بالظن و هو عقلي.

و بعبارة اخرى: ان القياس المشتمل على المقدمتين هو هكذا، الظن قد انحصر به امتثال التكاليف، و كلما انحصر به امتثال التكليف يلزم العمل على طبقه، فالظن يلزم العمل على طبقه، و ليست عقلية دليل الانسداد لكون العمل بالظن نتيجة هذا القياس، بل عقليّته انما هي لكون المقدمات الاربع تستلزم عقلا انحصار الامتثال بالظن، التي هي المقدمة الخامسة، و هذا الاستلزام عقلي لا تكون نتيجة القياس هو لزوم العمل على طبق الظن.

و مما ذكرنا يتضح انه لا فرق في كون دليل الانسداد عقليا على الحكومة و على الكشف، فان عقليته بعد ان كانت لاستلزام المقدمات الاربع انحصار الامتثال به

ص: 70

.....

______________________________

- فلا فرق بعد هذا الاستلزام العقلي ان تكون النتيجة هو كون الظن حجة عقلا كالقطع، او انه مجعول شرعا، فان عقليته انما هي لاستلزام المقدمات- عقلا- للانحصار به.

و اما كون الظن بعد الانحصار به يكون حجة عقلا او حجة شرعا فلا ربط له بكون دليل الانسداد من الادلة العقليّة، و لذا قال (قدس سره): «حكومة او كشفا ... و لا يكاد يستقل» العقل «بها» أي بكفاية الاطاعة الظنية «بدونها» أي بدون المقدمات.

الامر الثاني: ما اشار اليه بقوله: «و هي خمس» فانه قد اختلف فيها هل هي اربع او خمس؟ و يظهر من الشيخ الاعظم انها اربع، و مختار المصنف انها خمس، و لذا قال و هي خمس.

و توضيح الحال: ان الشيخ ذكرها اربع، و حذف المقدمة الاولى و هي العلم الاجمالي بثبوت تكاليف فعلية، و جعل المقدمة الاولى هي انسداد باب العلم و العلمي، و لم يذكر الوجه في اسقاطه للعلم الاجمالي، و يحتمل ان يكون الداعي له وجهان:

الاول: وضوحه، و لا يخفى انه لا وجه لاسقاطه لوضوحه، فان بعض المقدمات ايضا واضحة كمثل عدم جواز الاهمال، و مثل قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

الثاني: ان اسقاطها لعدم الحاجة اليها، و لا يخفى ايضا ان عدم الحاجة اليها، اما لعدم ربط لها واقعا فيما هو الغرض في المقام.

ففيه: انه كيف يمكن ان يكون لا دخل لها فيما هو الغرض مع ان جملة من المقدمات الباقية لو لا العلم الاجمالي بثبوت التكاليف لكانت من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فان مثل انسداد باب العلم و العلمي لو لا العلم الاجمالي لكان لا موضوع له إلّا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، لوضوح انه لو لم تكن هناك تكاليف لكان عدم وجود العلم و العلمي بها من باب انه لا وجود للتكاليف، لا ان التكاليف

ص: 71

.....

______________________________

موجودة و الطريق اليها منسد، و مثل عدم وجوب الاحتياط ايضا كذلك فانه يكون عدم وجوب الاحتياط لعدم التكاليف لا لعدم امكانه او حرجيته مع وجود التكاليف.

و اما لإغناء المقدمة الثالثة عنه، بدعوى انه اذا اقام الاجماع او الضرورة على عدم جواز الاهمال فلا حاجة الى العلم الاجمالي بثبوت التكاليف، فانه لا يجوز الاهمال و لو كانت التكاليف محتملة غير معلومة اجمالا.

و فيه: ان القدر المتيقن من الاجماع او الضرورة هو عدم جواز الاهمال في حال وجود العلم الاجمالي، فان وجود العلم الاجمالي بالتكاليف متحقق قطعا، و لا نقطع بقيام الاجماع او الضرورة على عدم جواز الاهمال فيما لو لم يكن لنا علم اجمالي بثبوت التكاليف.

و قد توهم العكس، و هو كون المقدمات اربعا لإغناء العلم الاجمالي و هي المقدمة الاولى عن المقدمة الثالثة و هي عدم جواز الاهمال.

بدعوى ان العلم الاجمالي بثبوت تكاليف فعليّة يغني عن عدم جواز الاهمال، لان العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي يستدعي لزوم الامتثال عقلا، لوضوح حكم العقل باستحقاق العقاب على عدم امتثال التكاليف البالغة درجة الفعليّة، و مع حكم العقل بتنجز التكاليف الفعلية و لزوم امتثالها لا حاجة الى دعوى عدم جواز الاهمال، فان مرجعه الى لزوم الامتثال.

و فيه اولا: ان مراتب الحكم عند المصنف أربع، ثالثها مرتبة الفعليّة و رابعها مرتبة التنجز، و عدم جواز الاهمال هو مرتبة التنجز و بلوغ الحكم الى مرتبة لا يجوز اهماله و يستحق العقاب على ترك التعرض له مطلقا بنحو انحاء الامتثال، فالمقدمة الاولى هي العلم الاجمالي بتكاليف بالغة مرتبة الفعلية، و المقدمة الثالثة هي بلوغها مرتبة التنجز بحيث يستحق العقاب على عدم التعرّض لامتثالها اصلا، و يستحق الثواب بالتعرّض لامتثالها بنحو الظن حيث لا يمكن الاحتياط او لا يجب.

ص: 72

.....

______________________________

و ثانيا: لو قلنا بمساوقة مرتبة التنجز لمرتبة الفعلية، او بان مرتبة التنجز ليست من مراتب الحكم بل هي امر انتزاعي يتنزع من بلوغ الحكم للمرتبة الفعلية، و انه اذا بلغ الحكم مرتبة الفعليّة يحكم العقل بلزوم اطاعته و حرمة مخالفته و منها ينتزع التنجز.

و لكنه مع ذلك نقول بلزوم المقدمة الثالثة لان مقدمات الانسداد لا بد و ان تكون مطردة على جميع المحتملات، و حيث ان كون التكاليف فعلية في المقام لا تستوجب التنجز على جميع الآراء، لانه من يقول بعدم امكان التفكيك بين عدم وجوب الموافقة القطعية و بين عدم حرمة المخالفة القطعية، فالتكاليف على هذا الرأي و ان كانت فعلية إلّا انها لا تكون منجزة لعدم امكان الامتثال التفصيلي او لحرجيّته، فالموافقة القطعية غير واجبة قطعا اما لعدم امكانها او لحرجيتها، و اذا لم تجب الموافقة القطعية لا تحرم المخالفة القطعية، فلا يكون العلم الاجمالي بثبوت التكاليف الفعلية موجبا لتنجزها، فنحتاج الى تنجزها و هو انما يثبت بواسطة المقدمة الثالثة و هي قيام الاجماع او الضرورة على عدم جواز الاهمال.

و قد يقال: بانه لا داعي الى الجوابين المذكورين، فان الحاجة الى المقدمة الثالثة انما هو لان محض العلم الاجمالي بتكاليف لا علم بعناوينها مع انسداد باب العلم و العلمي اليها يوجب عدم فعليتها، لان الفعلية لا تكون إلّا بالوصول، و حيث لا وصول لها لانسداد باب العلم و العلمي فلا فعلية لها، فلا بد من المقدمة الثالثة لانه بها تتم فعلية العلم الاجمالي المنسد باب العلم و العلمي بسبب قيام الضرورة و الاجماع على عدم جواز الاهمال، و اللّه العالم.

و قد تبيّن مما ذكرنا: ان المقدمات خمس لا أربع كما ادعي، و لذا قال (قدس سره): «و هي خمس» كما ذكرها (قدس سره).

قوله (قدس سره): «بل لا يجوز في الجملة ... الخ» و ذلك فيما كان الاحتياط موجبا لاختلال النظام.

ص: 73

خامسها: إنه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا، فيستقل العقل حينئذ بلزوم الاطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة، و إلا لزم- بعد انسداد باب العلم و العلمي بها- إما إهمالها، و إما لزوم الاحتياط في أطرافها، و إما الرجوع إلى الاصل الجاري في كل مسألة، مع قطع النظر عن العلم بها، أو التقليد فيها، أو الاكتفاء بالاطاعة الشكية أو الوهمية مع التمكن من الظنية و الفرض بطلان كل واحد منها (1):

______________________________

قوله: «كما لا يجوز الرجوع الى الاصل ... الخ» اما لعدم جريانها في اطراف العلم الاجمالي او لانها متعارضة في بعض الاحوال، أو لأن المثبت منها للحكم قليل و النافي منها باطل لانه مساوق للاهمال الذي علم عدم جوازه.

قوله (قدس سره): «و لا الى فتوى العالم ... الخ»: لا يخفى ان دليل الانسداد المقام لحجية مطلق الظن هو في مورد الشبهات الحكمية و الاحكام الكلية التي هي وظيفة المجتهد العالم، و من الواضح ان العالم لا يجوز له الرجوع الى غيره مضافا الى ان العالم غيره اما ان يكون انسداديا فحكم الامثال سواء، و اما ان يكون انفتاحيا فلا يجوز رجوع العالم الذي يرى الانسداد اليه.

(1) ظاهر صدر عبارة المتن كون هذه هي المقدمة الخامسة، و لا يخفى ان ذيل عبارته (قدس سره) تقتضي ان قبح ترجيح المرجوح على الراجح هو دليل هذه المقدمة الخامسة، و هو اقتضاء المقدمات المذكورة لانحصار الامتثال بالاطاعة الظنية، لان بطلان الاكتفاء بالإطاعة الشكيّة و الوهميّة مع التمكن من الاطاعة الظنيّة انما هو لانه من ترجيح المرجوح على الراجح و هو قبيح.

و الاولى كون نفس قبح الترجيح هو المقدمة، لانه بعد تمامية هذه المقدمات الخمس تكون النتيجة هي التنزل الى الاطاعة الظنية، و كون هذه دليل المقدمة الخامسة، و ان المقدمات الاربع تقتضي الاطاعة الظنيّة، و دليل ذلك هو قبح الترجيح

ص: 74

المقدمة الاولى: انحلال العلم الاجمالي الكبير بما في الاخبار

أما المقدمة الاولى: فهي و إن كانت بديهية إلا أنه قد عرفت انحلال العلم الاجمالي بما في الاخبار الصادرة عن الائمة الطاهرين عليهم السّلام التي تكون فيما بأيدينا، من الروايات في الكتب المعتبرة، و معه لا موجب للاحتياط إلا في خصوص ما في الروايات (1)، و هو غير مستلزم للعسر

______________________________

- فلا يخلو من شي ء، لان الدليل على الشي ء من مقدمات الاذعان به، فقبح الترجيح مع ضمّ المقدمات الاربع تقتضي الاطاعة الظنيّة.

(1) قد تقدّم في الدليل الاول الذي اقيم على حجية الخبر ان العلم الاجمالي بوجود تكاليف فعلية لا ريب فيه، و لكنه منحل بالعلم الاجمالي بصدور اخبار فيما بأيدينا من الاخبار مشتملة على الاحكام الواقعية وافية بمعظم الفقه فهذا العلم الاجمالي المدعى في المقام منحل بالعلم الاجمالي الثاني في خصوص الاخبار الموجودة في الكتب الاربعة و غيرها من الكتب كالوسائل، فلا اثر لهذا العلم الاجمالي بوجود تكاليف فعليّة بعد الانحلال بالعلم الاجمالي الثاني، فاللازم الاحتياط في مورد العلم الاجمالي الثاني بالاخذ بكل خبر دل على ثبوت حكم و جواز العمل بالخبر النافي كما مرّ الكلام فيه.

و الى هذا اشار بقوله: «اما المقدمة الاولى» و هي العلم الاجمالي بثبوت تكاليف فعلية «بديهية» لا ريب فيها و لكنه لا اثر لهذا العلم الاجمالي لانحلاله، و لذا قال: «الّا انه قد عرفت انحلال العلم الاجمالي» الاول «بما» علمنا به اجمالا ايضا من الاحكام الواقعية «في الاخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين عليهم السّلام التي تكون» تلك الاخبار الصادرة عنهم عليهم السّلام هي «في» ضمن «ما بأيدينا من» مجموع «الروايات» الموجودة «في الكتب المعتبرة» كالكتب الاربعة و غيرها «و معه» أي و مع هذا العلم الاجمالي الثاني «لا موجب للاحتياط الا في خصوص ما» بأيدينا من «الروايات».

ص: 75

فضلا عما يوجب الاختلال، و لا إجماع على عدم وجوبه (1)، و لو سلم الاجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال (2).

______________________________

(1) قد عرفت في المقدمة الرابعة دعوى عدم وجوب الاحتياط في العلم الاجمالي الاول و هو العلم بثبوت تكاليف فعلية اما لعسره المرفوع بأدلّة الحرج، و اما لدعوى قيام الاجماع على عدم وجوبه، بل ربما يدعى حرمته لاستلزامه اختلال النظام، و هذه الدعوى لا تصح في الاحتياط فيما بأيدينا من الاخبار، فانه لا يستلزم عسرا فضلا عن ان يكون مستلزما لاختلال النظام، و ايضا لا اجماع على عدم وجوبه.

و مما ذكرنا تبيّن: انه لا يصح ان يقال ان العلم الاجمالي الثاني انما يحل العلم الاجمالي الاول بشرط كونه مؤثرا، و مع عدم وجوب الاحتياط في الاخبار التي هي اطراف العلم الاجمالي الثاني لا يكون مؤثرا، و مع عدم تأثيره لا يكون حالا للعلم الاجمالي الاول و هو العلم بثبوت تكاليف فعليّة.

و انما لا يصح لما عرفت من تأثير العلم الاجمالي الثاني، لان الاحتياط في اطرافه لا يستلزم عسرا و لا اختلالا في النظام، و لا اجماع ايضا على عدم وجوبه.

(2) حاصله: انه لو سلّمنا الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في اطراف العلم الاجمالي الاول فيما لو قلنا بعدم انحلاله بالعلم الاجمالي الثاني، لكنّا لا نسلّمه لانحلاله بالعلم الثاني، و في قوله و لو سلّم الاجماع تمريض لدعوى الاجماع.

و لعل الوجه فيه، انه لو قلنا بعدم انحلال العلم الاجمالي الاول بالعلم الاجمالي الثاني فالدليل على عدم وجوب الاحتياط ينبغي ان يكون دليل العسر لو تمّ، و على حرمته هو لزوم اختلال النظام منه.

و اما دعوى الاجماع على عدم وجوبه فلا تصح الّا على سبيل الفرض، لما تقدم من ان المشهور على انفتاح باب العلمي و قيام الحجة الشرعية القطعية عندهم على حجية الخبر بالخصوص، و مع هذا لا يصح دعوى الاجماع الّا على سبيل الفرض و التقدير، أي ان العلماء لو كانوا غير انفتاحيين و كانوا من القائلين بالانسداد لقالوا

ص: 76

المقدمة الثانية: انسداد باب العلم و انفتاح باب العلمي

و أما المقدمة الثانية: أما بالنسبة إلى العلم، فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا بيّنة وجدانية، يعرف الانسداد كل من تعرض للاستنباط و الاجتهاد.

و أما بالنسبة إلى العلمي، فالظاهر أنها غير ثابتة، لما عرفت من نهوض الادلة على حجية خبر (1) يوثق بصدقه، و هو بحمد اللّه واف

______________________________

بعدم وجوب الاحتياط و لقام الاجماع منهم على عدم وجوبه. و فيه ايضا انه لو كانوا انسداديين و قالوا بعدم وجوب الاحتياط لما كان ذلك اجماعا، لاحتمال كون المدرك لعدم وجوب الاحتياط عندهم على الفرض هو لزوم العسر او اختلال النظام، و مع احتمال المدرك لا تصح دعوى الاجماع.

(1) قد عرفت ان المقدمة الثانية هي دعوى انسداد باب العلم و العلمي، و نحن نسلّم انسداد باب العلم في زماننا، و لا نسلّم انسداد باب العلمي، و السبب في تسليمنا لانسداد باب العلم هو انه بعد العلم الاجمالي بثبوت تكاليف فعلية لا ينحل هذا العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار من الاحكام الواقعية بحيث تكون وافية بمعظم الفقه، فان الاخبار المتواترة و الاجماعات المحصلة القطعية قليلة جدا لا تفي بانحلال العلم الاجمالي الى علم تفصيلي بمقدار يفي بمعظم الفقه و شك بدوي يكون مجرى للاصول، و هذا واضح لكل من تعرّض لاستنباط الاحكام من ادلتها، فباب العلم الذي به ينحلّ العلم الاجمالي مما لا ريب في انسداده، و لكنّا لا نسلّم انسداد باب العلمي و هو الحجة الشرعية المقطوع جعلها من الشارع طريقا منجزا لو اصاب و معذرا لو خالف، لما تقدم من دلالة الآيات و الاخبار المتواترة اجمالا و قيام السيرة على حجية الخبر الموثوق، و به مع ضميمة ما قام التواتر عليه من الاحكام و الاجماعات المحصّلة ينحل العلم الاجمالي الى علم تفصيلي بالحجة الشرعية المعذرة و المنجزة الوافية بمعظم الفقه، و الى شك بدوي في غيره، فالمقدمة الثانية غير تامة لانفتاح باب العلمي و انسداد باب العلم.

ص: 77

بمعظم الفقه، لا سيما بضميمة ما علم تفصيلا منها، كما لا يخفى (1).

المقدمة الثالثة: عدم جواز إهمال الاحكام

و أما الثالثة: فهي قطعية (2)، و لو لم نقل بكون العلم الاجمالي منجزا

______________________________

و قد اشار الى تسليم انسداد باب العلم بقوله: «اما بالنسبة الى العلم فهي بالنسبة الى زماننا بيّنة وجدانيّة ... الى آخر الجملة» و الى عدم انسداد باب العلمي بقوله: «و اما بالنسبة الى العلمي فالظاهر انها غير ثابتة ... الى آخر الجملة».

(1) ظاهره هو حجية الخبر الموثوق المضمون، و بينه و بين حجية خبر الثقة عموم من وجه، لاجتماعهما في خبر الثقة المضمون، و صدق الاول بدون الثاني في الخبر الضعيف من ناحية الراوي الموثوق من ناحية مضمونه بقيام الظن على وفقه، و صدق الثاني بدون الاول في خبر الثقة الذي لا يكون مضمونه موثوقا لقيام الظن على خلافه، و قد تقدم منه ما ظاهره القول بحجيّة خبر الثقة كقوله في السيرة «دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الاديان و غيرهم على العمل بخبر الثقة».

و لعل مراده من قوله يوثق بصدقه أي يوثق بصدق المخبر بالخبر فيرجع الى خبر الثقة و اللّه العالم.

(2) المقدمة الثالثة هي انه لا يجوز اهمال التكاليف المعلومة اجمالا، و لا يجوز عدم التعرّض لامتثالها.

و بعبارة اخرى: انه من المعلوم بالضرورة او بالاجماع اهتمام الشارع بالتعرّض لامتثال احكامه المعلومة اجمالا بنحو من الامتثال.

و لا يخفى ان الكلام في هذه المقدمة انما هو بعد تسليم المقدمتين المتقدمتين، لوضوح انه لو انحل العلم الاجمالي الاول بالعلم الاجمالي الثاني فيكون الاهتمام و لزوم التعرّض و عدم جواز الاهمال انما هو في ما بأيدينا من الاخبار، و لو قلنا بالانفتاح و العلم بوجود الحجة الشرعية المجعولة بالخصوص تفصيلا كخبر الثقة فينحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بالحجة و الشك البدوي في غيره، فلا يكون لنا علم

ص: 78

مطلقا (1) أو فيما جاز، أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه، كما في المقام حسب ما يأتي، و ذلك لان إهمال معظم الاحكام و عدم الاجتناب كثيرا

______________________________

اجمالي حتى يدعى قيام الضرورة او الاجماع على عدم جواز اهماله و لزوم التعرّض لامتثاله بنحو من الانحاء.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 6 ؛ ص79

الحاصل: انه بعد تمامية المقدمتين الاوليين لا اشكال في هذه المقدمة الثالثة، و هي قيام الضرورة و الاجماع على عدم جواز الاهمال و على لزوم التعرّض لامتثال الاحكام المعلومة اجمالا بنحو من الانحاء، و قد اشار الى هذا بقوله: «فهي قطعيّة».

و اشار الى قيام الضرورة و الاجماع عليها بقوله في ذيل عبارته «و ذلك لان اهمال معظم الاحكام» و ذلك اما ب «عدم الاجتناب كثيرا عن الحرام» او بترك الامتثال لما هو الواجب «مما يقطع بانه مرغوب عنه شرعا» و هذا هو معنى قيام الضرورة على عدم جواز الاهمال شرعا.

و الى الاجماع اشار بقوله: «و مما يلزم تركه اجماعا».

(1) لا يخفى انه قد مرّ في باب القطع الكلام في كون العلم الاجمالي هل هو علة تامة للتنجز، او انه بنحو الاقتضاء فقط، او بالتفصيل بين حرمة المخالفة القطعية و وجوب الموافقة القطعيّة بكونه علة تامة في الاولى و مقتضيا بالنسبة الى الثانية؟

و قيل بالعلية التامة بالنسبة الى الاولى و هي حرمة المخالفة القطعية، و بعدم الاقتضاء فضلا عن العلية بالنسبة الى الثانية و هي وجوب الموافقة القطعية.

و ربما نسب الى بعض القول بعدم الاقتضاء و عدم العلية ايضا بالنسبة الى كلا المقامين، و سيأتي ان شاء اللّه تعالى التعرض لهذا البحث ايضا في باب البراءة و الاشتغال.

و على كلّ فلو قلنا- فرضا- بالمقالة الاخيرة و هو عدم كون العلم اجمالي مقتضيا و لا منجزا مطلقا بالنسبة الى حرمة المخالفة و الى وجوب الموافقة- فانا نقول في هذا العلم الاجمالي في المقام بالتكاليف بلزوم التعرّض لامتثال الاحكام المعلومة اجمالا

ص: 79


1- 7. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

عن الحرام، مما يقطع بأنه مرغوب عنه شرعا و مما يلزم تركه إجماعا (1).

إن قلت: إذا لم يكن العلم بها منجزا لها للزوم الاقتحام في بعض الاطراف- كما أشير إليه- فهل كان العقاب على المخالفة في سائر

______________________________

بنحو من الأنحاء لقيام الضرورة و الاجماع على عدم جواز اهمالها بالمرة، و لذا قال:

«فهي قطعية و لو لم نقل بكون العلم الاجمالي منجزا مطلقا».

(1) توضيحه: انه قد مرّ في باب القطع انه يظهر من المصنف القول بكون العلم الاجمالي مقتضيا بالنسبة الى كلا الامرين من حرمة المخالفة و وجوب الموافقة، و سيأتي منه في باب البراءة و الاشتغال القول بكونه علة تامة بالنسبة الى كلا الامرين.

الّا انه سيأتي ان كون العلم الاجمالي منجزا تاما مشروطا بعدم الرخصة في احد اطرافه: اما جوازا كما في مورد الشبهة غير المحصورة الكثيرة، او الخارج بعض اطرافها عن محل الابتلاء و ان كانت الاطراف قليلة، كما لو علمنا بنجاسة احد إناءين كان أحدهما في بلد و الآخر في بلد بعيد.

او وجوبا كما لو وجب الاقتحام في احد الاطراف بسب الاضطرار الى احد الاطراف مخيرا، كما لو علمنا بنجاسة احد الإناءين من الماء و حصل عطش مهلك اضطررنا معه الى شرب احدهما مخيرا، فان مع اهمية حفظ النفس يجب الشرب لاحدهما، او في مثل مقامنا لو كان الاحتياط موجبا لاختلال النظام، فانه يجب ارتكاب بعض الاطراف بمقدار يحفظ به النظام.

و على كل فمع جواز الاقتحام في بعض الاطراف او وجوبه لا يكون العلم الاجمالي منجزا، و لكنه مع ذلك حيث علم اهتمام الشارع و عدم جواز الاهمال لامتثال احكامه رأسا، و انه يجب التعرّض لامتثالها بنحو من الانحاء و ان كان العلم الاجمالي في المقام غير منجز لوجوب الاقتحام في بعض اطرافه او جواز الاقتحام فيها، و الى هذا اشار بقوله: «او فيما جاز او وجب الاقتحام في بعض اطرافه كما في المقام» للزوم اختلال النظام من الاحتياط التام في اطراف العلم الاجمالي بالتكاليف.

ص: 80

الاطراف- حينئذ- على تقدير المصادفة إلا عقابا بلا بيان؟ و المؤاخذة عليها إلا مؤاخذة بلا برهان (1)؟!

______________________________

(1) حاصله: ان المتحصّل من هذه المقدمة الثالثة هو كون العلم الاجمالي منجزا و لو كان الاقتحام في بعض الاطراف جائزا او واجبا، و سيأتي في باب البراءة و الاشتغال عدم امكان التفكيك بين حرمة المخالفة القطعية و وجوب الموافقة القطعية، بمعنى انه اذا لم تجب الموافقة القطعية لا يعقل ان تحرم المخالفة القطعية، لان الرخصة في ارتكاب بعض الاطراف و لو صادف المخالفة للتكليف المستلزمة هذه الرخصة عدم العقاب على المخالفة عند المصادفة تنافي حرمة المخالفة في الاطراف الأخر و العقاب على المخالفة فيها.

و بعبارة اخرى: انه من المعلوم ان الرخصة في مخالفة التكليف المعلوم تنافي العقاب على مخالفته، فهو محال و المحال لا بد و ان يكون مقطوعا بعدمه، و في مورد الترخيص في بعض اطراف العلم الاجمالي و لزوم الموافقة في اطرافه الأخر و حرمة المخالفة فيها يرجع الى جواز مخالفته لو كان في مورد الترخيص، و الى العقاب على مخالفته لو كان في غيرها و هو محال، فاذا لم تجب الموافقة القطعية بالاحتياط في جميع الاطراف، بان يرخص في ارتكاب بعض الاطراف، لا يعقل ان يحرم ارتكاب الاطراف الأخر.

و الحاصل: ان العلم اما ان يكون منجزا فيجب الاحتياط في جميع الاطراف، و اذا جاز ارتكاب بعض الاطراف فلا يعقل ان يكون العلم الاجمالي منجزا بالنسبة الى الاطراف الأخر، و اذا لم يكن العلم الاجمالي منجزا بالنسبة اليها فلا يصح العقاب على المخالفة فيها، و يكون العقاب على الاقتحام فيها من العقاب بلا بيان، لان عدم كون العلم الاجمالي منجزا معناه عدم تأثيره، و اذا لم يكن العلم الاجمالي مؤثرا فلا يصح العقاب على مخالفته، لان العقاب انما يصح على البيان المؤثر، اما البيان غير المؤثر فهو بحكم عدم البيان فلا يصح العقاب على مخالفته، و الى هذا اشار

ص: 81

قلت: هذا إنما يلزم، لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط، و قد علم به بنحو اللّم، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه، بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعاة، و لو كان بالالتزام ببعض المحتملات (1)، مع صحة دعوى الاجماع على عدم جواز الاهمال في هذا

______________________________

بقوله: «اذا لم يكن العلم بها» أي العلم الاجمالي بها اذا لم يكن «منجزا لها للزوم الاقتحام في بعض الاطراف كما اشير اليه» و ذلك فيما اذا قلنا بوجوب الاقتحام في بعض الاطراف، و حرمة الاحتياط في جميع الاطراف للزوم اختلال النظام- فلا تحرم المخالفة في الاطراف الأخر.

و على هذا «فهل كان العقاب» صحيحا «على المخالفة في ساير الاطراف حينئذ على تقدير المصادفة» و ما كان «الّا عقابا بلا بيان و» ليست «المؤاخذة عليها الّا مؤاخذة بلا برهان».

(1) حاصله: ان المنجز للعلم الاجمالي بالنسبة الى الاطراف الأخر غير ما يجب الاقتحام فيه من الاطراف ليس لاقتضاء العلم الاجمالي بذاته للتنجيز فيها، بل المنجّز له سبب آخر غير ذاته، و هو العلم باهتمام الشارع في لزوم التعرّض للامتثال بنحو من الانحاء و لو بالأخذ بأحوطها، و هو الاخذ بالمظنونات التي هي من بعض اطراف هذا العلم الاجمالي، فالعلم بهذا الاهتمام يكون كاشفا بنحو اللّم، لان الاهتمام هو العلة لتنجيز هذا العلم الاجمالي في بعض الاطراف، و كشف العلّة عن المعلول هو الكشف اللمّي، كما ان كشف المعلول عن العلة هو الكشف الإنّي.

و على كل فتنجيز العلم الاجمالي في المقام للاحتياط في بعض الاطراف انما هو للعلم بالاهتمام لا لاقتضاء العلم الاجمالي بذاته لذلك، فالعلم بالاهتمام سبب للتنجز في المقام، كما ان العلم الاجمالي بذاته هو العلة للتنجز في غير هذا المقام، و جواز العقاب و صحة المؤاخذة منوطان بتنجز العلم الاجمالي سواء كان هو علة له أو كان سبب آخر علة له و هو العلم بالاهتمام، فلا يكون العقاب على المخالفة في

ص: 82

الحال، و أنه مرغوب عنه شرعا قطعا (1)، و أما مع استكشافه (2) فلا يكون المؤاخذة و العقاب حينئذ بلا بيان و بلا برهان، كما حققناه في البحث و غيره.

______________________________

الاطراف الأخر مع كون العلم الاجمالي منجزا بالنسبة اليها من العقاب بلا بيان و من المؤاخذة بلا برهان، و لذا قال (قدس سره): «قلت هذا» أي العقاب بلا بيان و المؤاخذة بلا برهان على المخالفة في الاطراف الأخر «انما يلزم لو لم يعلم بايجاب الاحتياط» بتنجيز العلم الاجمالي فيها «و» الحال «قد علم به بنحو اللّم حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه» و هو العلة لتنجيز العلم الاجمالي في المقام «بحيث ينافيه عدم ايجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعاة» و التعرّض للامتثال «و لو كان بالالتزام ببعض المحتملات» و هي المظنونات.

(1) قد مرّ ان المحرز لاهتمام الشارع امران: قيام الضرورة عليه، و صحة دعوى الاجماع عليه، و قد اشار الى الثاني بقوله: «مع صحة دعوى الاجماع» أي صحة دعوى الاجماع على اهتمام الشارع و عدم جواز الاهمال، و الى الاول بقوله:

«و انه مرغوب عنه شرعا» أي ان الضرورة قائمة بان الاهمال مرغوب عنه شرعا.

(2) هذا معطوف على صدر عبارته و هي قوله: «انما يلزم».

و حاصله: انه انما يلزم ما ذكرتموه من كون العقاب بلا بيان و المؤاخذة بلا برهان في مخالفة العلم الاجمالي في اطرافه الأخر اذا لم نعلم بتنجزه فيها بسبب العلم باهتمام الشارع.

و اما مع استكشاف لزوم الاحتياط في اطراف العلم الاجمالي الأخر لوجود العلم بما يدل على تنجزه فيها، فلا يكون العقاب على المخالفة في هذه الاطراف الأخر التي هي غير ما يجب الاقتحام فيه من الاطراف التي يكون الاحتياط فيها موجبا لاختلال النظام من العقاب بلا بيان و من المؤاخذة بلا برهان.

ثم لا يخفى ان ظاهر سوق عبارة المتن هي ما ذكرناه من كون الاهتمام سببا لمنجزية العلم الاجمالي في ما عدا ما لا يجوز او لا يجب فيه الاحتياط.

ص: 83

و أما المقدمة الرابعة: فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام، فيما يوجب عسره اختلال النظام، و أما فيما لا يوجب، فمحل نظر بل منع، لعدم حكومة قاعدة نفي العسر و الحرج على قاعدة الاحتياط، و ذلك لما حققناه في معنى ما دلّ على نفي الضرر و العسر، من أن التوفيق بين دليلهما و دليل التكليف أو الوضع المتعلقين بما يعمهما، هو نفيهما عنهما بلسان نفيهما، فلا يكون له حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل، لعدم العسر في متعلق التكليف، و إنما هو في الجمع بين محتملاته احتياطا.

______________________________

و يمكن ان يكون غرضه هو كون نفس الاهتمام من الشارع بلزوم التعرّض لامتثال احكامه في الباقي هو المنجز لها من دون حاجة الى منجّزية العلم الاجمالي، فانه كما يمكن ان يكون العلم الاجمالي من وجوه البيان التي تتنجز بها الاحكام، كذلك نفس العلم بالاهتمام من وجوه البيان الموجب لتنجّز الاحكام بحيث لا تجري معه قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فان عبارة المتن لا تأبى عن حملها على هذا المعنى، و الضمير في قوله: عدم ايجابه الاحتياط يرجع الى العلم بالاهتمام: أي ان العلم بالاهتمام من الشارع هو بحيث ينافيه عدم ايجاب الاحتياط.

و لا يخفى ان ما ذكر من كون الترخيص في بعض الاطراف موجبا لعدم تنجز العلم الاجمالي انما هو اذا كان الترخيص في الارتكاب بمقدار المعلوم بالاجمال، و اما اذا كان الترخيص بمقدار اقل من العلم الاجمالي فالعلم الاجمالي باق على تنجيزه، كما لو علمنا بنجاسة اكثر من إناء واحد و وجب شرب اناء واحد من اطراف الشبهة، فان العلم الاجمالي بنجاسة ما هو الاكثر من الواحد باقية منجزة، فلا تغفل.

ص: 84

المقدمة الرابعة: عدم وجوب الاحتياط التام
اشارة

نعم، لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر كما قيل لكانت قاعدة نفيه محكمة على قاعدة الاحتياط، لان العسر حينئذ يكون من قبل التكاليف المجهولة، فتكون منفية بنفيه (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان المقدمة الرابعة هي عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه في الجملة، و مستند عدم الجواز هو لزوم الاختلال في النظام من الاحتياط، فالعسر الموجب لاختلال النظام الذي يستلزمه الاحتياط في اطراف العلم الاجمالي بالتكاليف لا شك في حرمته، و اما العسر الذي يستلزمه الاحتياط في اطراف العلم غير الموجب لاختلال النظام، فالمبنى في عدم وجوبه هو حكومة ادلة العسر و الحرج على ادلة التكاليف الواقعية، كقوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ 8].

و لا يخفى ان حكومة دليل الحرج انما هو على ما فهمه الشيخ من دليل الحرج لا على ما استفاده المصنف منه، فانه بناء على ما استفاده من دليل الحرج لا يكون حاكما في المقام على ادلة التكاليف الواقعية.

و توضيح ذلك: ان الحرج المنفي في مثل قوله عزّ و جل: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ هل المراد منه نفي الحكم الذي يكون سببا للحرج كالتكليف المعلوم بالاجمال الذي يستلزم امتثاله بالجمع بين اطرافه الوقوع في الحرج، فان الحرج مسبب عن الحكم، لان الحكم يقتضي الامتثال و امتثاله مستلزم للحرج، فالحكم يكون موصوفا بالحرج بالواسطة، فمدلول الآية بالمطابقة هو رفع الحرج الذي يستلزمه الحكم، و حيث لا معنى لرفع الحرج بنفسه فلا بد و ان يكون المراد منه نفي الحكم، اما باطلاق الحرج عليه مجازا من باب اطلاق الصفة و ارادة الموصوف، و اما ان يكون مبنيا على الحذف بان يكون المراد ما جعل عليكم في الدين من حكم يستلزم الحرج، و هذا المعنى هو الذي استفاده الشيخ من دليل الحرج، و عليه فتكون

ص: 85

.....

______________________________

ادلة الحرج حاكمة على ادلة التكاليف في المقام، لانها حيث كانت معلومة بالاجمال فامتثالها المستلزم للجمع بين جميع الاطراف مسبب عن اقتضاء تلك التكاليف المجهولة بعناوينها المفصّلة المعلومة بما هي احكام فعلية يجب امتثالها، و لما كان امتثالها كذلك حرجيا فادلة نفي الحرج تكون رافعة لفعلية تلك الاحكام.

او ان المراد من دليل الحرج هو رفع الحكم بلسان رفع الموضوع، فالمرفوع هو الحرج، و عليه فالمرفوع هو الحكم الذي يكون بذاته حرجيا دون الحكم الذي يستلزم امتثاله الحرج، لان الحكم تارة يكون بذاته حرجيا كالغسل- مثلا- بالماء البارد في اليوم الشديد البرد، و اخرى لا يكون الحكم بذاته حرجيا و لكن العلم بامتثاله يستلزم حرجا كما في المقام، فان الاحكام الواقعية ليست بذاتها حرجية و لكنها لما كانت غير معلومة بالتفصيل فالاتيان بجميع المحتملات لاجل حصول العلم بامتثالها هو المستلزم للحرج، و المستفاد من دليل الحرج هو رفع الحكم الذي يكون بذاته حرجيا بان يكون المراد بالحرج المنفي هو الحكم كناية او ادعاء بادعاء انه مصداق للحرج، فالمرفوع نفس الحكم الذي يكون بذاته حرجيا دون الحكم الذي يستلزم العلم بامتثاله الوقوع في الحرج.

و يؤيّد هذه الدعوى ان الظاهر كون الحرجية من صفات نفس الحكم بلا واسطة و انها وصف له بحال نفسه لا انها وصف له بحال متعلق متعلقه، فانه على الاول الحرجية ليست من صفات ذات الحكم بل هي من صفات العلم بالامتثال المتعلق بالحكم.

و قد رتّب المصنف على هذه الاستفادة- المخالفة لما استفاده الشيخ- ثمرتين:

أحدهما: ما في المقام من انه بناء على ان المرفوع هو الحكم الذي يكون بذاته حرجيّا لا تكون ادلة الحرج حاكمة على التكاليف الواقعية في المقام، لان التكاليف الواقعية بذاتها ليست بحرجية، و انما العلم بامتثالها المستلزم للاحتياط باتيان الاطراف المحتملة هو الموجب للوقوع في الحرج، و لا يستفاد من ادلة الحرج هذا المعنى بل

ص: 86

.....

______________________________

المستفاد منها هو رفع الحكم الذي يكون بذاته حرجيا، فهي اجنبية- بناء على هذا- عن الحرج الذي يستلزمه العلم بالامتثال، فلا حكومة لها في المقام على ادلة التكاليف الواقعيّة، و بعد حرمة الاحتياط المستلزم لاختلال النظام و العلم باهتمام الشارع بلزوم التعرض لامتثال احكامه فلا بد من الاحتياط في الاطراف الباقية بعد الاقتحام فيما يوجب الاحتياط فيه الاختلال.

و قد اشار الى عدم وجوب الاحتياط فيما يوجب الاختلال في النظام، و انه مما لا شك فيه لان ما يوجب الاختلال مما يقطع بحرمته فضلا عن عدم وجوبه، فلا كلام في رفع الاحتياط الموجب للاختلال بقوله: «و اما المقدمة الرابعة فهي بالنسبة الى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام في» خصوص «ما يوجب عسره اختلال النظام».

و اشار الى عدم حكومة ادلة العسر على التكاليف الواقعية في المقام في الاحتياط الحرجي في بقية المحتملات الذي لا يوجب الاختلال في النظام بقوله: «و اما فيما لا يوجب» ذلك «فمحل نظر بل منع لعدم حكومة قاعدة نفي العسر و» نفي «الحرج» كمثل قوله تعالى وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «على قاعدة الاحتياط» في المقام «و ذلك لما حققناه» في مبحث قاعدة لا حرج و لا ضرر «في معنى ما دل على نفي الضرر كقوله صلى اللّه عليه و آله و سلم: (لا ضرر و لا ضرار)(1) «و» قاعدة نفي «العسر» و الحرج كالآية المتقدمة «من ان التوفيق بين دليلهما» أي بين دليل لا ضرر و لا حرج «و دليل التكليف» كدليل وجوب الوضوء «او الوضع» كرفع السلطنة على التصرف في ما يملك اذا كان ذلك مضرا بالغير، كما في قضية سمرة بن جندب، فان النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم منع سمرة من التصرّف في نخيلة حيث كان تصرفه مستلزما لضرر الانصاري، و قال للانصاري اقلعها و ارم بها وجهه، فان مقتضى التوفيق بين

ص: 87


1- 9. ( 1) الكافي، ج 5، ص 294.

.....

______________________________

ادلة التكليف و الوضع «المتعلقين بما يعمّهما» أي بما يعمّ الحرج و الضرر، اذ ليس كل وضوء- مثلا- حرجيا، و لا كل سلطنة على التصرف ضررية، و دليل نفي الضرر و الحرج «هو نفيهما» أي نفي التكليف و الوضع «عنهما» أي عن مورد الضرر و الحرج «بلسان نفيهما» أي بلسان نفي الضرر و الحرج كناية او ادّعاءً عن التكليف و الوضع الذي يكونان بذاتهما حرجيين، و ان الحرجية وصف لهما بحال نفسهما لا بحال متعلقهما.

و على هذا «فلا يكون له» أي لدليل نفي الحرج في المقام «حكومة على الاحتياط العسر» غير المخل بالنظام فيما «اذا كان» الاحتياط «بحكم العقل» لاجل العلم بالامتثال بعد قيام الضرورة و الاجماع على اهتمام الشارع في لزوم امتثال احكامه في الجمع بين المحتملات في غير ما يوجب الاختلال، و ذلك «لعدم العسر في» نفس «متعلق التكليف» كمثل الوضوء بالماء البارد في شدة البرد «و انما هو» أي العسر «في الجمع بين محتملاته احتياطا» لاجل العلم بحصول الامتثال، فان التكليف الواقعي بذاته لا عسر فيه، و انما العسر في الاحتياط الحاكم به العقل لاجل احراز الامتثال و هو خارج عن ذات التكليف الواقعي.

ثم اشار الى ان حكومة ادلة العسر في المقام على التكاليف الواقعية انما تتم على ما استفاده الشيخ بقوله: «نعم لو كان معناه» أي معنى دليل العسر «هو نفي الحكم الناشئ من قبله العسر» برفع السبب بلسان رفع مسببه «كما قيل لكانت قاعدة نفيه» أي نفي العسر على هذه الاستفادة «محكمة على قاعدة الاحتياط» لحكومتها عليها «لان العسر حينئذ يكون من قبل التكاليف المجهولة فتكون منفية بنفيه» لان المستفاد منها رفع السبب الموجب للعسر، و الحكم المجهول هو السبب الذي اقتضى الاحتياط المستلزم للعسر، فيكون الحكم منفيا بلسان نفي مسببه و هو الاحتياط الموجب للعسر.

ص: 88

تعريض المصنف للشيخ الاعظم بانه لا موجب الاحتياط في بقية الاطراف

و لا يخفى أنه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الاطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها، بل لا بد من دعوى وجوبه شرعا، كما أشرنا إليه في بيان المقدمة الثالثة، فافهم و تأمل جيدا (1).

______________________________

(1) يشير بهذا الى الردّ على الشيخ، و توضيحه: ان الشيخ بعد قوله بحكومة ادلة نفي الحرج على التكاليف الواقعيّة فيما يوجب امتثالها العسر غير الموجب للاختلال ادعى استقلال العقل بالحكم بلزوم الاحتياط في بقية الاطراف التي لا يوجب اتيانها اختلال النظام و لا الحرج، و مرجع دعوى استقلال العقل بذلك هو منجزية العلم الاجمالي بوجوب الاحتياط في الاطراف الباقية، و قد عرفت ان العلم الاجمالي يسقط عن قابليته للتنجيز بعد الترخيص في بعض اطرافه، لعدم امكان التفكيك بين عدم حرمة المخالفة القطعية و عدم وجوب الموافقة القطعية، و لا بد ان يكون الموجب لوجوب الاحتياط في الاطراف الباقية هو العلم باهتمام الشارع دون العلم الاجمالي، لعدم امكان التفكيك، و الى هذا اشار بقوله: «و لا يخفى انه على هذا» أي على مبنى حكومة ادلة نفي الحرج على التكاليف الواقعية و رفع اثر العلم الاجمالي في التنجيز الموجب للاحتياط في تمام الاطراف «لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الاطراف» و هي الاطراف الباقية غير الموجبة للحرج «بعد رفع اليد عن» تأثير العلم الاجمالي في لزوم «الاحتياط في تمامها» أي تمام الاطراف، و السبب في عدم وجه هذه الدعوى هو ما عرفت من عدم امكان التفكيك المقتضية لسقوط العلم الاجمالي عن التأثير رأسا.

ثم اشار الى ان الاحتياط في بقية الاطراف لا بد و ان يكون مستنده ما تقدم في المقدمة الثالثة من قيام الضرورة و الاجماع على عدم جواز الاهمال بقوله: «بل لا بد من دعوى وجوبه شرعا ... الى آخر الجملة».

ص: 89

الرجوع الى الاصول و تفصيل الكلام فيها

و أما الرجوع إلى الاصول، فبالنسبة إلى الاصول المثبتة من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف، فلا مانع عن إجرائها عقلا مع حكم العقل و عموم النقل. هذا، و لو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله، بداهة تناقض حرمة النقض في كل منها بمقتضى (لا تنقض) لوجوبه في البعض، كما هو قضية (و لكن تنقضه بيقين آخر) (1) و ذلك لانه إنما يلزم فيما إذا

______________________________

(1) لا يخفى ان المقدمة الرابعة بعد تمامية المقدمة الثالثة- و هي عدم جواز الاهمال- فانه حيث علم عدم جواز الاهمال و انه لا بد للمكلف من التعرّض لما يخرج به عن اهمال التكاليف المعلومة اجمالا، و حينئذ تأتي هذه المقدمة الرابعة، فان ما يخرج به المكلف عن الاهمال اما العمل بالاحتياط و قد مرّ الكلام فيه، و اما بالرجوع الى الاصول و هذا الشق هو محل الكلام و سيأتي الكلام في غيره.

و المدعى عدم جواز الرجوع الى الاصول سواء كانت نافية للتكليف كالبراءة و الاستصحاب النافي و التخيير، او مثبتة للتكليف كالاحتياط و الاستصحاب المثبت للتكليف.

اما الاصول النافية فلازمه الاهمال و عدم العمل نتيجة، و قد عرفت عدم جواز الاهمال بحكم المقدمة الثالثة و سيأتي تعرّض المصنف لها و الجواب عن ذلك.

و اما المثبتة للتكليف و هما الاحتياط و الاستصحاب المثبت، و قد استدل على عدم جواز الرجوع اليهما بوجهين: احدهما: عام لهما، و الثاني: يختص بخصوص الاستصحاب.

فالوجه الاول- العام لهما- هو ما مرّ من ان الرجوع الى الاحتياط و الاستصحاب المثبت للتكليف في اطراف العلم الاجمالي يلزم منه العسر المخل و الحرج المرفوع بادلة العسر.

ص: 90

.....

______________________________

و فيه مضافا الى ما مرّ من الكلام في خصوص الاحتياط المستلزم للحرج ان المفروض في هذا الشق هو الرجوع الى الاصل الاحتياطي و الاستصحاب المثبتين للتكاليف في ما لا يلزم فيه عسر مخل بالنظام او موجب للحرج، و الّا لم يكن هذا الشق شقا مقابلا للاحتياط.

و الوجه الثاني- المختصّ بخصوص الاستصحاب- و هو الذي اشار اليه بقوله:

«و لو قيل بعدم جريان الاستصحاب في اطراف العلم الاجمالي لاستلزام شمول دليله ... الى آخره».

لا يخفى ان المانع من جريان الاستصحاب بل ساير الاصول في اطراف العلم الاجمالي في غير المقام، كما لو علمنا- مثلا- بنجاسة احد الإناءين المسبوقين بالعلم بالطهارة او طهارة احد الإناءين المسبوقين بالعلم بنجاستهما- سيأتي الكلام فيه في بابه على تفصيل بين ما يلزم من جريان الاصول مخالفة عملية كالاول، و بين ما لا يلزم من جريانها مخالفة عملية كالثاني، و معنى لزوم المخالفة العملية و عدم لزومها انه لو عملنا على وفق الاصول تلزم المخالفة العملية كالاول، و هو ما لو علمنا بنجاسة احد الإناءين و كان العلم السابق طهارتهما فان اجراء الاصول في الاطراف معناه طهارة الإناءين، فلو عملنا بالطهارة في كليهما تلزم المخالفة العملية لما علمنا بالاجمال و هو نجاسة احد الإناءين، فانه عند ملاقاتهما معا يعلم بنجاسة الملاقي قطعا، بخلاف الثاني فانه لو علمنا بنجاسة الإناءين سابقا ثم علمنا بطهارة احدهما، فان جريان الاصول معناه نجاسة الإناءين معا، و لا يلزم من ذلك مخالفة عملية، لان معنى نجاستهما معا تركهما معا و لا يلزم من تركهما معا مخالفة عملية.

و اما الكلام في جريان خصوص الاستصحاب في اطراف العلم الاجمالي في المقام و عدمه فقد اشار المصنف الى الوجه الذي ذكر مانعا في المقام، و هو لزوم التناقض بين صدر الدليل و ذيله الدال على حجية الاستصحاب.

ص: 91

.....

______________________________

و لا يخفى ان هذا لو تم لمنع من جريان الاستصحاب في اطراف العلم الاجمالي مطلقا سواء في المقام و في غيره، و سواء كان الاستصحاب مثبتا للتكليف كما لو علمنا بطهارة احد الإناءين المسبوقين بالعلم بنجاسة كليهما، او نافيا للتكليف كما اذا علمنا بنجاسة احد الإناءين المسبوقين بالعلم بطهارتهما، فان اليقين السابق فيهما هو عدم نجاستهما، و سواء ألزم من جريان الاستصحاب مخالفة عملية ام لا، لان ملخص هذا الدليل هو ان دليل الاستصحاب لا يشمل الاستصحاب الجاري في اطراف العلم الاجمالي مطلقا، و هو قوله عليه السّلام: (لا ينقض اليقين بالشك و لكن ينقضه بيقين آخر)(1) لان لازم شموله لاطراف العلم الاجمالي هو المناقضة بين صدر الرواية و ذيلها، لان اطلاق صدر الرواية يشمل الشك المقرون بالعلم الاجمالي، و اطلاق ذيلها يشمل اليقين الموجود في العلم الاجمالي، فان الصدر يدل على حرمة نقض اليقين بالشك و لو كان الشك مقترنا بالعلم الاجمالي، و الذيل يدل باطلاقه على جواز نقض اليقين السابق باليقين اللاحق و لو كان ذلك اليقين هو اليقين الاجمالي.

فان لم يكن الذيل قرينة على الصدر الذي لازمه دلالة الرواية على كون اليقين السابق- الذي هو الموضوع في الاستصحاب- محددا باليقين الاجمالي اللاحق، و عليه لا يكون اليقين السابق الذي هو احد ركني الاستصحاب متحققا في مورد العلم الاجمالي، لان اليقين السابق فيه ملحوق باليقين الناقض، فلا اقل من معارضة الذيل و الصدر، و لازمه الاجمال في الرواية فلا يكون لها ظهور في الشمول لمورد العلم الاجمالي.

و قبل الشروع في الجواب عنه في المقام نقول: قد تقدّم من المصنف المناقشة في هذه الدعوى، و ان اليقين في الذيل ليس له اطلاق يشمل اليقين الاجمالي، لان المستفاد

ص: 92


1- 10. ( 1) تهذيب الاحكام، ج 1، ص 8.

.....

______________________________

من الرواية هو كون اليقين اللاحق مثل اليقين السابق، و ان المتحصل منها هو نقض اليقين السابق بيقين مثله لاحق له، فيما اذا كان اليقين السابق تفصيليا فلا ينقضه الا اليقين اللاحق التفصيلي، و لا يكون اليقين الاجمالي اللاحق ناقضا له.

نعم لو كان اليقين السابق اجماليا ثم تعقبه يقين اجمالي متعلق بما تعلق به الاول كان ناقضا له، كما لو علمنا بنجاسة احد الإناءين ثم شككنا في بقاء النجس المعلوم بالاجمال فيجري الاستصحاب، و معناه بقاء ذلك النجس بالاجمال، لكنه لو علمنا بطهارة ما كان نجسا بالاجمال كان هذا العلم ناقضا له.

و الحاصل: ان المستفاد من الرواية هو كون اليقين في الذيل مؤكدا لا محددا و مقيدا، و انها تدل على ان حكم اليقين السابق لا يرتفع بالشك، و انما يرتفع فيما اذا ارتفع اليقين السابق و حلّ محلّه يقين متعلق بنقيض ما تعلق به اليقين الاول، و على هذا فالرواية تشمل الاستصحاب الجاري في مورد العلم الاجمالي.

و قد اشار المصنف الى المناقشة في اصل هذه الدعوى بنسبتها الى القيل فقال (قدس سره): «و لو قيل» أي انا لا نجيب عن هذه الدعوى في المقام بالمناقشة في اصل هذه الدعوى، بل نجيب عنها في المقام على فرض تسليمها بما سيشير اليه من الجواب الآتي عنها في خصوص المقام.

ثم اشار الى نفس الدعوى بقوله: «بعدم جريان الاستصحاب في اطراف العلم الاجمالي لاستلزام شمول دليله» أي دليل الاستصحاب و هو الرواية المتقدمة «لها» أي للاستصحابات المثبتة للتكاليف في اطراف العلم الاجمالي «التناقض في مدلوله» أي في مدلول دليل الاستصحاب «بداهة» لزوم ال «تناقض» بين «حرمة النقض في كل منها» المستفاد من صدر الرواية «بمقتضى لا تنقض» في قوله في صدرها لا تنقض اليقين بالشك الشامل باطلاقه للشك المقترن بالعلم الاجمالي، و بين وجوب النقض لليقين السابق باليقين الاجمالي المستفاد هذا الوجوب من اطلاق ذيل الرواية، فحرمة النقض الدال عليها الصدر مناقضة

ص: 93

كان الشك في أطرافه فعليا. و أما إذا لم يكن كذلك، بل لم يكن الشك فعلا إلا في بعض أطرافه، و كان بعض أطرافه الأخر غير ملتفت إليه فعلا أصلا، كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الاحكام، كما لا يخفى، فلا يكاد يلزم ذلك، فإن قضية (لا تنقض) ليس حينئذ إلا حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك، و ليس فيه علم بالانتقاض كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له (1)،

______________________________

«لوجوبه في البعض» أي لوجوب النقض في البعض «كما هو قضية» ذيل الرواية و هو قوله: «و لكن تنقضه بيقين آخر».

(1) هذا هو الجواب عن هذه الدعوى في المقام بعد تسليمها في غيره.

و حاصله: ان المتحصّل من هذه الدعوى هو عدم جريان الاستصحاب و ان كان مثبتا للتكليف في اطراف العلم الاجمالي في المقام بوجود تكاليف فعلية كما هو المفروض، لانه كما لنا علم اجمالي بوجود تكاليف فعلية في مجموعة ابواب الفقه، كذلك لنا علم اجمالي آخر و هو انه نعلم اجمالا بان بعض هذه الاستصحابات المثبتة غير صحيح، فلنا علم اجمالي بفساد بعض هذه الاستصحابات، و ان بعضها يجب نقضه لفساده.

و مع هذا اليقين الاجمالي بفساد بعضها لا وجه لجريانها كلها في المقام، لما عرفت من اشتراط جريان الاستصحاب بغير مور العلم الاجمالي، و كما لا يجري استصحاب النجاسة في كلا الإناءين بعد العلم الاجمالي بطهارة احدها للعلم الاجمالي بفساد احد الاستصحابين، كذلك لا تجري الاستصحابات المثبتة للتكاليف في مجموع ابواب الفقه للعلم الاجمالي بفساد بعضها.

و توضيح الجواب عن هذه الدعوى: انه فرق بين الاستصحابين الجاريين في المثال، و بين جريان الاستصحابات المثبتة في مجموع ابواب الفقه في المقام، لوضوح كون استنباط الاحكام للمجتهد الناظر في الفقه امرا تدريجيا، و مع كون الحال

ص: 94

.....

______________________________

تدريجيا لا تكون الاستصحابات الجارية كلها فعلية في وقت واحد، كالاستصحابين الجاريين في نجاسة الإناءين الذي علم بطهارة احدهما، فان الشك في طهارة كل واحد من الطرفين فعلي فيجريان معا، و يحصل العلم الاجمالي بالفعل بفساد احدها للعلم بطهارة احد الإناءين.

و اما في المقام فليس كذلك لتدريجيّة الاستنباط، فان المجتهد الذي له علم بحكم كلي في احد ابواب الفقه كالصلاة او الزكاة ثم يشك في بقائه فانه يجري الاستصحاب فيه، و في حال شكه في هذا الحكم لا شك له فعلي في الحكم الكلي الآخر في الموارد الأخر من ابواب الفقه، ففي حال إجرائه للاستصحاب في باب الصلاة- مثلا- لا شك له بالفعل في أحكام الزكاة و غيرها من ابواب الفقه ليكون الاستصحاب في تلك الابواب جاريا بالفعل، فيحصل العلم الاجمالي بفساد احدها، و حيث لا شك بالفعل الا الشك في باب الصلاة- مثلا- فلا استصحاب جار بالفعل الا هذا الاستصحاب، و لم تكن الاستصحابات في الابواب الأخر جارية بالفعل، لعدم الشك بالفعل فيها، لان المجتهد بالفعل غير ملتفت اليها لا يقين و لا شك له فعلي بالنسبة اليها، فلا علم اجمالي له بالفعل بفساد احدها لعدم فعلية الاستصحابات فيها.

و من الواضح ان المراد باليقين الاجمالي الناقض لليقين السابق في الرواية- لو دلّت على ذلك- هو اليقين الاجمالي الفعلي المتوقف حصوله بالفعل على حصول الشك بالفعل في جميع الاطراف، ليجري الاستصحاب في جميعها بالفعل فيحصل العلم الاجمالي بفساد بعضها. و قد عرفت عدمه لتدريجيّة الاستنباط للمجتهد، و ان المجتهد في مقام الاستنباط غير ملتفت الّا الى اليقين و الشك في احد الاحكام الذي يريد استنباطه، فهو دائما لا علم اجمالي له بالفعل في فساد احد الاستصحابات لعدم فعليتها، و الاستصحاب جار عنده دائما في بعض الاطراف لا في جميع الاطراف من ابواب الفقه، ليحصل له العلم الاجمالي بالفساد الناقض بحسب دلالة ذيل الرواية.

ص: 95

.....

______________________________

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و ذلك» أي و ما قلناه من جريان الاصول المثبتة في اطراف العلم الاجمالي صحيح، و لا يمنع منه ما قيل من دلالة الرواية على عدم جريان الاستصحابات فيما اذا علم اجمالا بفساد بعضها و عدم صحته، بان يكون اطلاق اليقين في ذيل الرواية شاملا لليقين الاجمالي، فيكون محددا لليقين السابق الذي دلّ عليه صدر الرواية، فيكون المستفاد منها ان اليقين السابق- الذي هو احد ركني الاستصحاب- مشروطة حرمة نقضه بان لا يلحقه يقين اجمالي بالخلاف كما عرفت تفصيله، و انما لا يمنع ما قيل «لانه انما يلزم فيما اذا كان الشك في جميع اطرافه فعليا» و فعليته في جميع الاطراف أي في جميع ابواب الفقه تتوقف على فعلية اليقين و الشك فيها لتجري الاستصحابات كلها، فيعلم- حينئذ- اجمالا بفساد بعضها «و اما اذا لم يكن» الحال «كذلك بل لم يكن الشك فعلا الا في بعض اطرافه» و هو المورد الذي يكون المجتهد بصدد استنباط الحكم فيه «و كان بعض اطرافه الأخر غير ملتفت اليه فعلا اصلا كما هو» المشاهد من «حال المجتهد في مقام استنباط الاحكام» فانه لا يقين و لا شك له فعلي الّا في ذلك المورد الذي هو بصدد استنباط الحكم فيه.

و حينئذ فلا يكون ما ذكروه مانعا بمانع لعدم فعلية اليقين و الشك في جميع الاطراف، فلا تكون الاستصحابات فعلية، فلا علم اجمالي بفساد بعضها «فلا يكاد يلزم ذلك» المانع الذي ذكروه «فان» المتحقق بالفعل عند المجتهد المستنبط للاحكام بالتدريج صدر الرواية لا غير من دون ذيلها و هي «قضية لا تنقض» اليقين بالشك و «ليس» للمجتهد «حينئذ الّا حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك» و هو الذي يكون استنباطه بالفعل «و ليس فيه» أي و ليس في ذلك المورد الذي هو محل استنباطه «علم بالانتقاض» لعدم تحقق موضوع الاستصحاب بالفعل في بقية الاطراف «كي يلزم التناقض في مدلول دليله» أي دليل الاستصحاب «من» جهة «شموله له» أي للمورد الذي يكون المجتهد بصدد الاستنباط فيه.

ص: 96

فافهم (1).

و منه قد انقدح ثبوت حكم العقل و عموم النقل بالنسبة إلى الاصول النافية أيضا، و أنه لا يلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها لو لم يكن هناك مانع عقلا أو شرعا من إجرائها، و لا مانع كذلك لو كانت موارد الاصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا، أو نهض عليه علمي

______________________________

(1) و لعله يشير الى ان علم المجتهد اجمالا لا بفساد بعض الاستصحابات لا يتوقف على فعلية تلك الاستصحابات، فان المجتهد الذي له علم اجمالي بتكاليف واقعية له علم اجمالي ايضا بفساد بعض الاستصحابات المثبتة للتكاليف في مواردها بادائها الى خلاف بعض التكاليف الواقعيّة، و هذا العلم حاصل له بالفعل و ان لم تكن الاستصحابات كلها فعليّة. و فرض غفلته عن ذلك مع كونه من القائلين بالانسداد الملتفت الى مقدمات الانسداد و ما قيل فيها فرض الخلف تقريبا.

فالاولى في ردّ هذه الدعوى ما سبق منه و ما يأتي في باب الاستصحاب: من عدم دلالة الرواية على نقض اليقين السابق باليقين الاجمالي اللاحق.

و يؤيد عدم صحة هذا الاشكال من دعوى شمول الرواية لليقين الاجمالي، انه لو شملت الرواية اليقين الاجمالي لما جرى استصحاب اصلا، للعلم الاجمالي بان احد الاستصحابات التي يجريها المكلف هي غير صحيحة و مخالفة للواقع، مثلا لو اجريت جملة كثيرة من الاستصحابات- مثلا- في الاناء الذي علم بنجاسته، فالشك في طهارته المستلزم لاستصحاب النجاسة في كل منها يعلم اجمالا بعدم صحة احد الاستصحابات الجارية في نجاسة كل واحد من الاناءات لطهارة احد الاناءات التي علم بنجاستها ثم شك في طهارتها.

و الحاصل: انه لو تم اشكال الشيخ لما جرى استصحاب اصلا، للعلم بالانتقاض في بعض ما يجري المكلف من الاستصحابات في مدّة عمره، و اللّه العالم.

ص: 97

بمقدار المعلوم إجمالا، بل بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط، و إن لم يكن بذاك المقدار (1)، و من الواضح أنه يختلف

______________________________

(1) لا يخفى ان المتحصّل من مجموع ما اشار اليه المصنف في المتن: ان المانع من الرجوع الى الاصول النافية و هي الاستصحاب النافي للتكليف و البراءة العقلية و النقلية و التخيير امور ثلاثة:

الاول: لزوم التناقض الذي مرّ بيانه في دليل الاستصحاب بالنسبة الى الاصول المثبتة، فانه عينا جار في الاستصحاب النافي ايضا حرفا حرفا، و قد عرفت انه لا وجه له.

و الى هذا اشار بقوله: «و انه لا يلزم محذور التناقض من شمول الدليل لها» أي للاصول النافية.

الثاني: لزوم القطع بالمخالفة العملية في اجراء الاصول النافية للقطع بوجود تكاليف واقعية في بعض مواردها، و سيأتي في بابه ان القطع بحصول المخالفة العملية مانع عقلي من اجراء الاصول، و بعد القطع بوجود تكاليف واقعية في بعض موارد الاصول النافية يحصل العلم بالمخالفة العملية لهذه التكاليف الواقعية المعلومة اجمالا فيتحقق هذا المانع العقلي.

الثالث: ما اشرنا اليه فيما سبق: من ان نتيجة اجراء الاصول النافية هو اهمال التكاليف الواقعية و عدم التعرّض لامتثالها، و قد تقدّم في المقدمة الثانية عدم جواز الاهمال للقطع باهتمام الشارع الكاشف عن ايجاب الاحتياط شرعا، و قد اشار اليها بقوله: «لو لم يكن هناك مانع عقلا او شرعا من اجرائها» أي من اجراء الاصول النافية.

و لما كان الجواب عنهما مشتركا اشار اليه بقوله: «و لا مانع ... الى آخر كلامه».

و حاصله: ان القطع بالمخالفة العملية و العلم بما لا يرضى به الشارع انما يكونان حيث لا ينحلّ العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعيّة، فانه اذا انحلّ العلم الاجمالي لا تتحقق المخالفة العملية القطعية، و لا يكون إلّا المخالفة الاحتمالية التي لا مانع من

ص: 98

.....

______________________________

اجراء الاصول النافية فيها، و كذا العلم بما لا يرضى به الشارع من الاهمال، فانه مع حصول الامتثال لمقدار من التكاليف به يتحقق الاهتمام بأوامر الشارع، فلا مانع من اجراء الاصول النافية في الباقي، لعدم حصول الاهمال الذي لا يرضى به الشارع من اجرائها.

و الانحلال يتحقق بضمّ الاصول المثبتة للتكاليف الى ما قام عليه الدليل العملي المقطوع بحجيته و هو الخبر الصحيح الاعلائي مثلا، و هو الذي كل رجاله معدلون بعدلين الى ما هو معلوم قطعا، و هو ما قام عليه الخبر المتواتر او المحفوف بالقرائن القطعيّة و ما قام عليه الاجماعات المحصلة، فانه بضمّ هذه الامور كلها ينحلّ العلم الاجمالي لحصول مقدار من التكاليف بعضها تكاليف واقعية و بعضها مما يحتمل انطباق التكاليف المعلومة بالاجمال عليها، بحيث لا يبقى لنا علم اجمالي بوجود تكاليف واقعية في الباقي و انما يحتمل ذلك، و حينئذ لا يكون اجراء الاصول النافية موجبا للعلم بالمخالفة القطعية العملية للتكاليف المعلومة بالاجمال، و انما يحتمل المخالفة لا غير، و لا مانع من احتمال المخالفة، و انما المانع هو العلم بالمخالفة.

و منه يظهر انه لا مانع ايضا من جهة لزوم الاحتياط المستكشف من اهتمام الشارع، لوضوح انه بعد تحقق هذا المقدار من التكاليف يحصل به الامتثال للاحتياط المستكشف، بل ربما يقال بان ما يحصل به الامتثال للاحتياط هو اقل من المقدار الذي ينحل به العلم الاجمالي، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و لا مانع كذلك» أي كما انه لا مانع من اجراء الاصول النافية من جهة لزوم التناقض، كذلك لا مانع من جهة المانع العقلي و هو لزوم المخالفة القطعيّة العملية «لو» انحل العلم الاجمالي بان «كانت موارد الاصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا او نهض عليه علمي بمقدار المعلوم اجمالا».

و الى عدم المانع الشرعي و هو الاحتياط المستكشف من اهتمام الشارع اشار بقوله: «بل بمقدار» أي لو حصل من الاصول المثبتة و ضميمة مقدار من الاحكام

ص: 99

باختلاف الاشخاص و الاحوال (1).

______________________________

بحيث «لم يكن معه» أي مع حصول ذلك المقدار «مجال لاستكشاف ايجاب الاحتياط» في الباقي «و ان لم يكن» ذلك المقدار الحاصل بقدر ذلك المقدار الذي انحل به العلم الاجمالي بان يكون اقل منه.

فانه حيث فرض عدم تأثير العلم الاجمالي لسقوطه عن التأثير في بعض الاطراف، و هي التي يحصل من الاحتياط فيها الاختلال او العسر بناء على جريانه كما عرفت في المقدمة الرابعة، لعدم امكان التفكيك بين حرمة المخالفة و وجوب الموافقة، فمع الرخصة في بعض الاطراف لا مجال لتأثير العلم الاجمالي الاحتياط في الطرف الآخر، و ان المانع هو الاحتياط المستكشف من الاهتمام، فالمدار على هذا المانع الشرعي، و اذا قام العلم و العلمي و الاصول المثبتة على مقدار من التكاليف و ان كانت اقل مما ينحل به العلم الاجمالي لكنها كانت بحيث لا يحرز اهتمام الشارع فيما عداها، فلا مانع من اجراء الاصول النافية، و ان لم ينحل العلم الاجمالي بها، لانه حيث كان لا تأثير له فلا مخالفة عملية له، و المانع الشرعي قد انحل بها على الفرض، فلا بأس بان تكون اقل مما ينحل به العلم الاجمالي لو كان مؤثرا.

(1) اما الاختلاف بحسب الاشخاص فلاختلافهم فيما هو من العلم و العلمي و من الاصول المثبتة، اما في العلم فكالخبر المحفوف بالقرائن القطعية، فانهم قد يختلفون في مصداق ذلك، و كالاجماعات المحصّلة فانهم ايضا يختلفون في مصاديقها.

و اما العلمي فلاختلافهم في لزوم تعديل رجاله كلهم بعدلين او كفاية عدل واحد.

و اما في الاصول المثبتة فلاختلافهم في حصول اليقين و الشك لبعضهم دون بعض آخر.

و اما الاختلاف بحسب الاحوال فللفرق الواضح بين موارد الفروج و الدماء و غيرها من الموارد في استكشاف الاهتمام و عدمه.

ص: 100

و قد ظهر بذلك أن العلم الاجمالي بالتكاليف ربما ينحل ببركة جريان الاصول المثبتة و تلك الضميمة، فلا موجب حينئذ للاحتياط عقلا و لا شرعا أصلا، كما لا يخفى (1).

كما ظهر أنه لو لم ينحل بذلك، كان خصوص موارد الاصول النافية مطلقا- و لو من مظنونات عدم التكليف- محلا للاحتياط فعلا، و يرفع اليد عنه فيها كلا أو بعضا، بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر- على ما عرفت- لا محتملات التكليف مطلقا (2).

______________________________

(1) هذا الاستظهار تفريع على ما ذكره: من ان ما يحصل من العلم و العلمي و الاصول المثبتة ربما يكون بمقدار المعلوم بالاجمال، و ربما يكون بمقدار لا يكون معه مجال لاستكشاف اهتمام الشارع، فانه يترتب على الاول انحلال العلم الاجمالي، و يترتب على الثاني عدم وجوب الاحتياط شرعا في الباقي، و لذا قال (قدس سره):

«فلا موجب حينئذ للاحتياط عقلا» و ذلك فيما اذا انحل العلم الاجمالي «و لا شرعا» و ذلك فيما اذا لم يجب الاحتياط شرعا بواسطة حصول ما يفي باهتمام الشارع.

(2) توضيحه: ان المشهور بعد تمامية مقدمات الانسداد كلها، و هي العلم الاجمالي، و انسداد باب العلم و العلمي، و عدم جواز الاهمال، و عدم وجوب الاحتياط، و عدم جواز الرجوع الى الاصول مطلقا نافية او مثبتة، فالنتيجة عندهم هو حجية مطلق الظن لانه ارجح المحتملات.

و الشيخ الاعظم حيث يرى جواز التفكيك بين حرمة المخالفة و وجوب الموافقة اورد عليهم بان نتيجة مقدمات الانسداد بعد تماميتها هو التبعيض في الاحتياط في جميع موارد احتمال التكليف، سواء المظنونات و المشكوكات و الموهومات لا الاخذ بخصوص المظنونات، لانه اذا لم يمكن الاحتياط التام فلا وجه لرفع اليد عنه مطلقا، و الاخذ بخصوص المظنونات.

ص: 101

.....

______________________________

و يظهر منه انه لا فرق عنده بين موارد الاصول المثبتة و النافية، لعدم جواز الرجوع الى الاصول عنده مطلقا، و انه يرى التبعيض في الاحتياط مطلقا فيما عدا ما يلزم منه الاختلال او العسر.

و على ما ذكره المصنف من جريان الاصول المثبتة، و انه لا مانع من اجرائها كما مرّ، فلا تكون نتيجة مقدمات الانسداد هو حجية مطلق الظن و لو في موارد الاصول المثبتة كما يراه المشهور، و لا تكون النتيجة عنده هو التبعيض في الاحتياط ايضا كما يراه الشيخ (قدس سره) و ذلك لجريان الاصول المثبتة ايضا.

فعلى فرض الالتزام بان نتيجة الانسداد هو التبعيض في الاحتياط لا حجية مطلق الظن لامكان التفكيك في العلم الاجمالي، و ان العلم الاجمالي مع الرخصة في بعض اطرافه يكون باقيا على تنجيزه في الاطراف، و لازمه الاحتياط في الباقي، و هو المراد من تبعيض الاحتياط، و لكن لازمه الاحتياط في خصوص الاصول النافية مطلقا و لو كانت من مظنونات عدم التكليف، لان لازم الانسداد هو التبعيض في الاحتياط دون حجية مطلق الظن كما يراه المشهور، لكن لازمه الاحتياط في خصوص الاصول النافية لا ما يعم الاصول المثبتة، لعدم الوجه في الاحتياط فيها لما عرفت من عدم المانع من اجرائها، فلا وجه لتبعيض الاحتياط مطلقا حتى في موارد الاصول المثبتة كما يراه الشيخ، لما عرفت من عدم المانع من اجراء الاصول المثبتة، فلا وجه للاحتياط في مواردها، و لذا قال (قدس سره): «كما ظهر انه لو لم ينحل» العلم الاجمالي «بذلك» أي بما علم تفصيلا او بواسطة العلمي و الاصول المثبتة «كان» اللازم هو «خصوص موارد الاصول النافية» لا ما يعم الاصول المثبتة «مطلقا و لو» كانت موارد الاصول النافية «من مظنونات عدم التكليف» فانها تكون «محلا للاحتياط فعلا و» انما «يرفع اليد عنه» أي عن الاحتياط «فيها» أي في خصوص موارد الاصول النافية و لو كانت من مظنونات عدم التكليف «كلا» بناء على الانحلال «او بعضا» بناء على عدم الانحلال، فانه يكون رفع اليد عن

ص: 102

الرجوع الى فتوى العالم الانفتاحي

و أما الرجوع إلى فتوى العالم فلا يكاد يحرز، ضرورة أنه لا يجوز إلا للجاهل لا للفاضل الذي يرى خطأ من يدعي انفتاح باب العلم أو العلمي، فهل يكون رجوعه إليه بنظره إلا من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل (1)؟

______________________________

الاحتياط بناء على عدم الانحلال «بمقدار رفع الاختلال او رفع العسر على ما عرفت» من الكلام في خصوص ادلة العسر و «لا» وجه للاحتياط في «محتملات التكليف مطلقا» و لو في موارد الاصول المثبتة.

(1) الراجع الى الغير اما ان يكون مجتهدا او غير مجتهد، و غير المجتهد خارج عن موضوع دليل الانسداد، لان المفروض قيام ذلك عند المجتهد، لان الكلام في الاحكام الكلية في موارد الشبهة الحكميّة الموكول امرها الى المجتهد.

و اما المجتهد الذي يرى انسداد باب العلم كما هو المفروض، فاما ان يرجع الى من يرى الانسداد، فحكم الراجع هو حكم المرجوع اليه لعدم اختلاف حكم الامثال.

و اما ان يكون المجتهد المرجوع اليه ممن يرى الانفتاح فلا يجوز ان يرجع اليه من يعتقد خطأه في بنائه على الانفتاح، فانه من رجوع العالم الى الجاهل بحسب نظر المجتهد الراجع الى غيره، لان المفروض كون الراجع يعتقد الانسداد و المرجوع اليه يرى الانفتاح، و من الواضح ان المعتقد بالانسداد خطأ من يرى الانفتاح، و الى هذا اشار بقوله: «فلا يكاد يجوز» أي لا يكاد يجوز رجوع العالم الذي يرى الانسداد الى فتوى عالم غيره، لانه إن كان انسداديا فحالهما سواء، و ان كان انفتاحيا فلا يجوز ايضا «ضرورة انه لا يجوز» الرجوع «الا للجاهل لا للفاضل» كما هو المفروض، فان المفروض كون الراجع هو المجتهد الذي يرى الانسداد «الذي» لازمه ان «يرى خطأ من يدعي انفتاح باب العلم او العلمي فهل يكون رجوعه اليه بنظره الّا من قبيل رجوع الفاضل الى الجاهل».

ص: 103

المقدمة الخامسة: قبح ترجيح المرجوح على الراجح

و أما المقدمة الخامسة: فلاستقلال العقل بها، و أنه لا يجوز التنزل- بعد عدم التمكن من الاطاعة العلمية أو عدم وجوبها- إلا إلى الاطاعة الظنية دون الشكية أو الوهمية، لبداهة مرجوحيتهما بالاضافة إليها، و قبح ترجيح المرجوح على الراجح (1).

______________________________

و المراد من الجاهل هو المخطئ للواقع، و حيث كان الراجع انسداديا فهو يرى ان من لا يرى الانسداد قد أخطأ الواقع، فهو جاهل بالواقع بحسب نظره، فلا يجوز رجوعه اليه لانه من رجوع العالم الى الجاهل.

(1) توضيحه: انه بعد ان ثبت بحسب المقدمة الثالثة عدم جواز الاهمال و لزوم التعرض للامتثال، و بحسب المقدمة الرابعة حرمة الامتثال بالاحتياط فيما يلزم منه الاختلال، و عدم وجوب الامتثال بالاحتياط فيما يلزم منه العسر، و عدم جواز الرجوع الى الاصول- فيدور الامر بعد لزوم التعرض للامتثال بين الامتثال بالاطاعة الظنية بالاخذ بالمظنونات، و بين الامتثال بالاطاعة الشكية، او الاطاعة الوهمية.

و لا اشكال بعد البلوغ الى هذا الحد من استقلال العقل بلزوم الاطاعة الظنية و الاخذ بالظن لرجحانه عليهما، فانه حيث يدور الامر بين الراجح و المرجوح فالعقل حاكم بقبح ترجيح المرجوح على الراجح، و لا يمكن الجمع بين الامتثال بالاخذ بالظن و بالشك و بالوهم، لان معناه الاحتياط التام المحرم او غير الواجب، و لا اشكال في رجحان الظن على الشك و الوهم، فالعقل مستقل بلزوم الاخذ بخصوص الظن دون الشك و الوهم، للزوم ترجيح الراجح على المرجوح، فان ترجيح المرجوح على الراجح قبيح، و لذا قال (قدس سره): «و اما المقدمة الخامسة» التي كانت نتيجتها هو الاخذ بالظن لقبح ترجيح المرجوح على الراجح فلا اشكال فيها «لاستقلال العقل بها و انه لا يجوز التنزل» عند العقل «بعد عدم التمكن من الاطاعة العلمية» بالجمع بين جميع المحتملات لحرمته شرعا، حيث يلزم منه الاختلال «او عدم وجوبها» أي الاطاعة العلمية لادلة العسر «الا الى الاطاعة

ص: 104

عدم تمامية المقدمة الاولى و الرابعة

لكنك عرفت عدم وصول النوبة إلى الاطاعة الاحتمالية، مع دوران الامر بين الظنية و الشكية أو الوهمية، من جهة ما أوردناه على المقدمة الاولى من انحلال العلم الاجمالي بما في أخبار الكتب المعتبرة، و قضيته الاحتياط بالالتزام عملا بما فيها من التكاليف، و لا بأس به حيث لا يلزم منه عسر فضلا عما يوجب اختلال النظام. و ما أوردناه على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الاصول مطلقا، و لو كانت نافية، لوجود المقتضي و فقد المانع لو كان التكليف في موارد الاصول المثبتة و ما علم منه تفصيلا، أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلوم بالاجمال، و إلا فإلى الاصول المثبتة وحدها، و حينئذ كان خصوص موارد الاصول النافية محلا لحكومة العقل، و ترجيح مظنونات التكليف فيها على غيرها، و لو بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة شرعا، بعد عدم وجوب الاحتياط التام شرعا أو عقلا- على ما عرفت تفصيله- هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النظر الدقيق، فافهم و تدبر جيدا (1).

______________________________

الظنيّة» لرجحانها «دون» الاطاعة «الشكية أو الوهميّة لبداهة مرجوحيتهما بالاضافة اليها» أي الاطاعة الظنيّة «و قبح ترجيح المرجوح على الراجح» مما لا اشكال فيه.

(1) توضيحه: ان المقدمة الخامسة الموجبة لحجية الظن مطلقا على المشهور انما تتحقق بعد تمامية المقدمات الاربع، و لا اشكال عند المصنف في تحققها لو تمت المقدمات الاربع، لان قبح ترجيح المرجوح على الراجح مما لا اشكال فيه، و كون الظن ارجح من الشك و الوهم ايضا لا اشكال فيه، الّا انه قد مرّ عدم تمامية المقدمة الاولى.

و لا يخفى ايضا انه قد مرّ منه (قدس سره) المناقشة في المقدمة الثانية- و هي انسداد باب العلم و العلمي- بانفتاح باب العلمي، بما مرّ من الادلة على حجية خبر الثقة، و لم يشر الى المناقشة فيها كما اشار الى المناقشة في المقدمة الاولى و الرابعة، و لعله

ص: 105

.....

______________________________

حيث اراد المناقشة في هذا الدليل الرابع الذي هو دليل الانسداد بما هو دليل الانسداد، و لا يكون دليلا كذلك الّا بعد تسليم الانسداد، لذا أعرض عن الاشارة الى المناقشة في المقدمة الثانية، و اشار الى المناقشة في خصوص المقدمة الاولى و الرابعة.

اما المناقشة في المقدمة الاولى فقد اشار اليها بقوله: «من جهة ما اوردناه على المقدمة الاولى ... الى آخره».

و حاصله: ان العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعيّة الفعلية منحلّ بالعلم الاجمالي بوجودها في ضمن الاخبار التي بأيدينا الموجودة في الكتب المعتبرة و ربما في غيرها، و لازمه الاحتياط في خصوص الاخبار بالاخذ بكل خبر يدل على حكم الزامي، و لا يلزم من هذا الاحتياط عسر فضلا عن اختلال في النظام، و الى هذا اشار بقوله:

«من انحلال العلم الاجمالي بما في اخبار الكتب المعتبرة ... الى آخر كلامه».

و قد اشار الى المناقشة في المقدمة الرابعة بقوله: «و ما اوردناه على المقدمة الرابعة ... الى آخره».

و حاصله: ان المقدمة الخامسة انما يأتي دورها بعد بطلان شقوق المقدمة الرابعة كلها، و انحصار الامر بدورانه بين الاطاعة الظنية او الشكية أو الوهمية، فتتعيّن الاطاعة الظنية بحكم المقدمة الخامسة، الّا ان الشقوق التي ابطلوها في المقدمة الرابعة هي ثلاثة: عدم الاحتياط المخل و الموجب للعسر، و عدم جواز الرجوع الى الاصول مطلقا مثبتة او نافية، و عدم جواز الرجوع الى فتوى الغير.

و قد عرفت المناقشة منه في حكومة دليل العسر، و لكنه حيث كانت المناقشة فيه مبنائية لذا أعرض عن الاشارة اليه، و قد مرّ منه المناقشة في عدم جواز الرجوع الى الاصول المثبتة بنقض ما ذكروه مانعا عن اجرائها، و بعد اجرائها و انضمامها الى ما علم قطعا كالاحكام المدلول عليها بالخبر المتواتر و المحفوف بالقرائن القطعية و الاجماعات المحصّلة و ما قام عليه علمي مقطوع بحجيته كالخبر الواحد الصحيح

ص: 106

.....

______________________________

الاعلائي ينحل العلم الاجمالي و وجوب الاحتياط المستكشف بمقتضى المقدمة الثالثة، فلا مانع من اجراء الاصول النافية.

و على فرض عدم الانحلال و بقاء العلم بوجوب الاحتياط فيما عدا ذلك فاللازم حجية الظن في خصوص موارد الاصول النافية.

و لما كان نتيجة الانسداد عنده هو حجية الظن حكومة لا كشفا كما سيأتي التعرض له في فصل يخصّه ارسله هنا ارسالا.

و الى ما ذكرناه اشار بقوله: «و ما اوردناه على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع الى الاصول مطلقا و لو كانت نافية لوجود المقتضي» من ناحية صدر الرواية «و فقد المانع» من ناحية ذيلها.

و لا يخفى ان هذا مشترك بين الاصول المثبتة و النافية.

ثم اشار الى ما يخص الاصول النافية لانحلال العلم الاجمالي بقوله: «لو كان التكليف في موارد الاصول المثبتة و ما علم منه تفصيلا» بمثل الخبر المتواتر «او نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلوم بالاجمال» او كان بمقدار لا يستكشف معه وجوب الاحتياط، و انما لم يشر اليه لوضوحه «و الّا» أي و ان لم ينحل العلم الاجمالي بهذا المقدار او استكشف وجوب الاحتياط فيما عدا ذلك فلا وجه للرجوع الى الاصول النافية، و يختص الرجوع الى الاصول بالاصول المثبتة، و لذا قال «فإلى الاصول المثبتة وحدها» دون النافية «و حينئذ» أي و حين ما يكون الرجوع مختصا بالاصول المثبتة وحدها لفرض وجود العلم الاجمالي، و عدم جواز الاهمال في موارد الاصول النافية فتكون نتيجة المقدمات هو حجية الظن حكومة في خصوص موارد الاصول النافية، و لذا قال: «كان خصوص موارد الاصول النافية محلا لحكومة العقل و ترجيح مظنونات التكليف فيها على غيرها» من المشكوكات و الموهومات و لو لغير العلم الاجمالي بان لا نقول بتأثيره، و لكن حيث احرزنا اهتمام الشارع و عدم جواز الاهمال لاحكامه كانت النتيجة حكم العقل بلزوم الاخذ

ص: 107

الظن بالطريق و الظن بالواقع

فصل هل قضية المقدمات على تقدير سلامتها هي حجية الظن بالواقع، أو بالطريق، أو بهما؟ أقوال (1):

______________________________

بالمظنونات في خصوص موارد الاصول النافية، و لذا قال: «و لو بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة شرعا» بمقتضى المقدمة الثالثة «بعد عدم وجوب الاحتياط التام شرعا» بموجب ادلة العسر «او عقلا» فيما يوجب اختلال النظام «على ما» مر «و عرفت تفصيله».

(1) لا يخفى انه وقع الخلاف في ان نتيجة مقدمات الانسداد على فرض تماميتها، هل هي حجية الظن بالواقع دون الظن بالطريق؟ فيما اذا لم يوجب الظن بالطريق الظن بالواقع، و إلّا فلا تترتب الثمرة فيما اذا حصل من الظن بالطريق الظن بان مؤداه هو الواقع ايضا، و هو واضح. و الى هذا ذهب جماعة من المحققين.

او ان نتيجة الانسداد هو خصوص الظن بالطريق؟ فلو ظن بالواقع من طريق غير مظنون الحجية عند الشارع كالظن بالحكم من الشهرة فلا تقتضي مقدمات الانسداد حجية مثل هذا الظن، و الى هذا ذهب صاحب الفصول تبعا لاخيه المحقق الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية.

او ان المقدمات المذكورة للانسداد تقتضي حجية الظن بالاعم من الواقع او بالطريق؟ فالظن المتعلق بحكم من طريق غير مظنون الحجية مبرئ اتيانه للذمة، كما ان الظن بالطريق و ان لم يوجب الظن بان مؤداه هو الواقع ايضا اتيان ما قام عليه مبرئ للذمة، و الى هذا ذهب الشيخ الاعظم، و اختاره المصنف و جملة من المحققين المتأخرين ايضا.

و الى هذا اشار بقوله: «هل قضية المقدمات» أي مقدمات الانسداد «على تقدير سلامتها» و الغض عما مر من المناقشات من انحلال العلم الاجمالي بالعلم الاجمالي في خصوص ما بأيدينا من الاخبار، و عدم انسداد باب العلمي بقيام الادلة

ص: 108

مختار المصنف (قده) حجية الظن بالاعم من الواقع و بالطريق

و التحقيق أن يقال: إنه لا شبهة في أن هم العقل في كل حال إنما هو تحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة، من العقوبة على مخالفتها، كما لا شبهة في استقلاله في تعيين ما هو المؤمن منها، و في أن كلما كان القطع به مؤمنا في حال الانفتاح كان الظن به مؤمنا حال الانسداد جزما، و إن المؤمن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلف به الواقعي بما هو كذلك، لا بما هو معلوم و مؤدى الطريق و متعلق العلم، و هو طريق شرعا و عقلا، أو بإتيانه الجعلي، و ذلك لان العقل قد استقل بأن الاتيان بالمكلف به الحقيقي بما هو هو، لا بما هو مؤدى الطريق مبرئ للذمة قطعا. كيف؟ و قد عرفت أن القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يد الجعل إحداثا و إمضاء، إثباتا و نفيا، و لا يخفى أن قضية ذلك هو التنزل إلى الظن بكل واحد من الواقع و الطريق (1)، و لا منشأ لتوهم الاختصاص

______________________________

القطعية على حجية خبر الثقة، فانه لو قلنا بتماميتها مطلقا في الاصول النافية و المثبتة، او قلنا بتماميتها في خصوص موارد الاصول النافية، فهل تقتضي «هي حجية» خصوص «الظن بالواقع» دون الظن بالطريق، فيما اذا لم يحصل الظن بكون مؤداه هو الواقع «او» انها تقتضي خصوص حجية الظن «بالطريق» دون الظن بالواقع الذي لم يقم عليه مظنون الطريقية «او» انها تقتضي حجية الظن «بهما» معا «اقول» قد عرفت القائلين بها.

(1) قد عرفت ان مختار المصنف هو حجية الظن بالاعم من الظن بالواقع و الظن بالطريق، فهو يقول بان النتيجة تقتضي حجية الظن بهما معا.

و قد استدل على مختاره بدليل أشار الى مقدماته في طي عبارته:

الاولى: انه بعد ان كان لنا تكاليف فعلية معلومة بالاجمال فهمّ العقل هو تحصيل المؤمن من العقاب في اطاعة تلك التكاليف، و انما كان همّ العقل ذلك لحكم العقل باستحقاق العقاب لو لم يطع العبد مولاه، و بعدم استحقاقه العقاب لو اطاعه، و لما

ص: 109

.....

______________________________

كان المدار على استحقاق العقاب و عدمه فالعقل يحكم بأن المهم للعبد هو ان يحصل على ما يأمن به من العقاب، و ليس السبب في حكم العقل بلزوم اطاعة العبد هو لاجل لزوم تحصيل العبد للمصالح و اجتنابه عن المفاسد الداعية لحكم المولى عليه بالايجاب و التحريم، لما سبق من ان غالب الاحكام مصالحها و مفاسدها نوعية لا شخصية، و لا ملزم من العقل بوجوب تحصيل الامور النوعية على الشخص كما مر بيانه مفصلا، بل المهم عند العقل ما عرفت من لزوم تحصيل المؤمن من العقاب.

و قد أشار الى هذه المقدمة بقوله: «انه لا شبهة في ان هم العقل ... الى آخر الجملة».

الثانية: انه كما ان العقل حاكم بالاستقلال بلزوم تحصيل الأمن من تبعة العقاب كذلك هو الحاكم بالاستقلال ايضا في تعيين ما هو المؤمن للعبد من العقاب.

و الحاصل: ان العقل هو الحاكم المستقل مفهوما و مصداقا بالنسبة الى الاطاعة، فكما انه هو المرجع في مفهوم الاطاعة كما عرفته في المقدمة الاولى، كذلك هو المرجع في مصداق الاطاعة، فهو المعين لما يحصل به الأمن من العقوبة، كما انه هو الحاكم في لزوم تحصيل الأمن من العقوبة.

و بعبارة اخرى: ان المرجع في الاطاعة و كيفيتها هو العقل و لا تصرف للشارع في ذلك.

و الى هذه المقدمة اشار بقوله: «كما لا شبهة في استقلاله في تعيين ما هو المؤمن منها» أي من العقوبة.

الثالثة: ان نتيجة مقدمات الانسداد هو كون الظن في حال الانسداد له ما للعلم في حال الانفتاح، لما عرفت في المقدمة الرابعة و الخامسة انه بعد عدم التمكن من الاطاعة العلمية فالعقل يحكم بالتنزل الى الاطاعة الظنية.

و من الواضح ايضا ان العقل في حال الانفتاح كما يرى ان القطع باتيان المكلف به واقعا مؤمن من العقاب، كذلك يرى ايضا ان الاتيان بالواقع الجعلي مؤمن من

ص: 110

.....

______________________________

العقاب ايضا، و المراد من الواقع الجعلي هو الاتيان بما قام عليه الطريق المجعول، و لا يخفى ان القطع طريق عقلي الى تحصيل الاطاعة، و الطريق المجعول طريق جعلي الى تحصيلها ايضا، فالقطع و الطرق المجعولة كلاهما طريقان الى التكليف.

و بعبارة اخرى: ان الكلام في القطع الطريقي في حال الانفتاح و في الطرق القائمة مقام القطع الطريقي، و ما لم ينكشف الخلاف فالعقل مستقل ببراءة الذمة باتيان ما قطع به او باتيان ما قام الطريق المجعول عليه، و لما كان المفروض الطريقية فيهما الى الواقع فلا يكون التكليف الواقعي مقيدا بالقطع أو بالطريق، بل المدار على الاتيان بالتكليف واقعا، و قد تقدم ايضا انه لا اشكال عند اصابتهما الواقع من براءة الذمة، و عند مخالفتهما للواقع فالقاعدة الاولى تقتضي الاعادة في الوقت و القضاء في خارجه، إلّا ان يدل دليل من الشارع على غير ذلك.

و من هنا يتضح ان المكلف به هو التكليف الحقيقي و ان الاتيان به انما كان مبرئا للذمة، لانه اتيان بما هو المكلف به واقعا و انه امتثال للتكليف الواقعي بما هو تكليف واقعي من دون تقييد له بقطع او طريق.

اذا عرفت هذه المقدمات- تعرف ان نتيجة الانسداد هو حجية الظن المتعلق بالاعم من الواقع و الطريق، لانه اذا كان همّ العقل هو تحصيل المؤمن من العقاب، و ان تعيين المؤمن هو بيد العقل ايضا، و كان المؤمن من العقاب في حال الانفتاح هو الاتيان اما بما تعلق به العلم او بما قام عليه الطريق المجعول قطعا، و كان للظن في حال الانسداد ما للقطع في حال الانفتاح، فلا بد و ان يكون الظن في حال الانسداد ان كان متعلقه الحكم كان الاتيان بما تعلق به الظن مبرئا للذمة، و ان كان متعلقه الطريق كان الاتيان بما قام عليه الطريق مبرئا للذمة ايضا، لانه كما ان الاتيان بما تعلق به القطع مبرئ للذمة في حال الانفتاح، كذلك الاتيان بما قام القطع على حجيته مبرئ للذمة ايضا في حال الانفتاح. و لما كان الظن في حال الانسداد كالقطع في حال الانفتاح

ص: 111

.....

______________________________

فلا بد و ان يكون الاتيان بما تعلق به الظن من الحكم الواقعي مبرئا للذمة، و الاتيان بما تعلق به الظن بحجيته مبرئا للذمة ايضا.

فلا فرق في حال الانسداد بين قيام الظن على الحكم او قيامه على طريق الحكم، و لذا كان مختار المصنف هو حجية الظن بالواقع و بالطريق معا، لا خصوص الظن بالواقع، و لا خصوص الظن بالطريق، لان الظن في حال الانسداد طريق كالقطع الطريقي في حال الانفتاح، و الاتيان بما تعلق القطع به او بما تعلق بحجيته مبرئ للذمة، فالاتيان بما تعلق الظن به أو بما تعلق بحجيته مبرئ للذمة ايضا.

و قد اشار الى هذه المقدمة بقوله: «ان كلما كان القطع به مؤمنا في حال الانفتاح كان الظن به مؤمنا حال الانسداد جزما».

ثم اشار الى القطع المؤمن في حال الانفتاح بقوله: «و ان المؤمن في حال الانفتاح هو القطع باتيان المكلف به الواقعي بما هو كذلك» أي بما هو اتيان للواقع و كان القطع طريقا اليه «لا بما هو معلوم و مؤدى الطريق» بان يكون الواقع مقيدا بقيام القطع عليه، و إلّا كان القطع موضوعيا في جميع الاحكام و هو خلف، فليس الواقع مقيدا بالعلم «و» اتيانه اتيان له بما هو هو تكليف واقعي لا بما هو «متعلق العلم و» العلم «هو طريق» الى الواقع «شرعا و عقلا».

اما شرعا فلأنه ليس للشارع بما هو شارع طريق آخر غير العلم.

و اما عقلا فلما عرفت من حجيته عند العقل ذاتا لا بجعل جاعل «او باتيانه الجعلي» هذا معطوف على اتيان المكلف به الواقعي: أي ان في حال الانفتاح كما يحكم العقل ببراءة الذمة باتيان المكلف به الواقعي كذلك يحكم ببراءتها باتيان ما قام عليه الطريق المقطوع بجعل طريقيته من الشارع، و هو المراد باتيانه الجعلي: أي باتيان المكلف به تعبدا او جعلا بسبب اعتبار الشارع للطريق المؤدى اليه، فهو واقع جعلا و تنزيلا «و ذلك لان» الفرض لما كان فرض الطريقية فان «العقل قد استقل بان الاتيان بالمكلف به الحقيقي بما هو هو لا بما هو مؤدى الطريق مبرئ للذمة قطعا»

ص: 112

وجه القول باختصاص النتيجة بالظن بالواقع

بالظن بالواقع إلا توهم أنه قضية اختصاص المقدمات بالفروع، لعدم انسداد باب العلم في الاصول، و عدم إلجاء في التنزل إلى الظن فيها (1)،

______________________________

و «كيف» لا يستقل العقل بذلك «و قد عرفت ان القطع الطريقي بنفسه» ك «طريق لا يكاد تناله يد الجعل احداثا و إمضاء اثباتا و نفيا» كما مرّ مفصلا في بحث القطع.

و قد اشار الى ان هذه المقدمات تقتضي كون الظن في حال الانسداد حجة مطلقا سواء تعلق بالواقع او بالطريق بقوله: «و لا يخفى ان قضية ذلك» أي ان قضية المقدمات الثلاث المذكورة «هو التنزل الى الظن» المتعلق «بكل واحد من الواقع و الطريق».

(1) قد عرفت ان الاقوال في المسألة ثلاثة: التعميم كما هو مختار المصنف و قد مرّ بيان برهانه.

و اختصاص حجية الظن الانسدادي بخصوص الظن بالواقع دون الظن بالطريق.

و عمدة ما استدل به لهذا القول هو ان حجية الظن في حال الانسداد انما هو بمقدار ما تقتضيه مقدمات الانسداد من حجية الظن فيه، و لا تقتضي حجية الظن فيما قام عليه الظن إلّا بجريان مقدمات الانسداد في ذلك، فمقدمات الانسداد ان جرت في خصوص الاصول و الطرق كانت نتيجتها هي حجية الظن بالطرق دون الظن بالواقع، و ان جرت في خصوص الفروع كانت نتيجتها هي حجيّة الظن المتعلق بالواقع دون الطريق، و ان كانت جارية في كليهما كانت النتيجة حجية الظن بالاعم من الواقع و الطريق.

و لا ريب في عدم جريانها في خصوص الطرق، لان المقدمة الاولى منها هو العلم الاجمالي بالتكاليف لا بطرق التكاليف.

و المقدمة الثانية انسداد باب العلم بالتكليف و العلمي بالتكليف لا انسداد باب العلم بالطريق و العلمي بالطرق.

ص: 113

.....

______________________________

و من الواضح عدم جريان المقدمة الرابعة ايضا، لانه مع قلة الاصول و الطرق لا يلزم من الاحتياط فيها عسر مخل و لا حرج.

و من الواضح انفتاح باب العلم و العلمي في اغلب الطرق كالاصول العقلية مثل مقدمة الواجب، و عدم جواز اجتماع الامر و النهي، و مسألة الضد و النهي و الظواهر و ما يدل عليه الامر، و جملة اخرى من مسائل الاصول.

و مما ذكرنا يتضح عدم جريان مقدمات الانسداد في خصوص الطرق، و عدم جريانها في كليهما.

فيتعين جريانها في خصوص الاحكام و الفروع، و لازم ذلك اختصاص حجية الظن الانسدادي بخصوص الظن المتعلق بالفروع دون الاصول و الطرق.

و الى هذا اشار بقوله: «و لا منشأ لتوهم الاختصاص» لحجية الظن الانسدادي «بالظن بالواقع» دون الظن بالطرق «الّا توهم انه قضيته» أي ان الانسداد يقتضي حجية الظن المتعلق بالواقع دون الظن المتعلق بالطرق لاجل «اختصاص المقدمات» المتقدمة، و هي المقدمة الاولى و الثانية و الرابعة «بالفروع»، و كلما كان مجرى لمقدمات الانسداد كانت النتيجة حجية الظن الانسدادي بذلك المقام دون غيره.

ثم اشار الى عدم جريان المقدمة الثانية في الطرق بقوله: «لعدم انسداد باب العلم في الاصول» أي في الطرق لانها من الاصول.

و اشار الى عدم جريان المقدمة الرابعة بقوله: «و عدم إلجاء في التنزل الى الظن فيها» أي في الاصول، لان الإلجاء الى التنزل الى الظن مرتب على انسداد باب العلم و العلمي، فحيث لا انسداد لا تنزل.

ص: 114

و الغفلة عن أن جريانها في الفروع موجب لكفاية الظن بالطريق في مقام تحصيل الأمن من عقوبة التكاليف، و إن كان باب العلم في غالب الاصول مفتوحا، و ذلك لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك بين الظنين (1)،

______________________________

(1) توضيح الجواب: ان المقدمات المذكورة للبرهان على حجية الظن الانسدادي في الاعم من الفروع و الاصول: أي في الاعم من الظن بالواقع و بالطريق، كما ان لها مدخلا في النتيجة المختارة و هو حجية الظن بالاعم، كذلك يكون جوابا عن القولين الآخرين.

اما عن القول باختصاص حجية الظن بخصوص الفروع أي بخصوص الظن بالواقع دون الظن بالطريق.

فحاصل الجواب عنه هو: انه بعد ان بيّنا ان همّ العقل هو تحصيل المؤمن من العقاب، و انه هو المرجع ايضا في تعيينه، و ان الظن الانسدادي له ما للقطع في حال الانفتاح- يتضح ان مقدمات الانسداد و ان لم تجر في الاصول لانفتاح باب العلم فيها، إلّا انه لما كان المهم هو تحصيل المؤمن باي نحو كان، و ان غاية ما يلزم به العقل و يستقل به هو حصول الامتثال بنحو يأمن العبد من العقاب.

و لا اشكال ان الظن المتعلق بكون هذا الطريق من الطرق المجعولة للشارع بحيث لو قطعنا به لكان الاتيان بما يؤدي اليه الطريق موجبا للامتثال قطعا عند العقل، فلا بد و ان يكون الظن به في حال الانسداد موجبا للظن بالامتثال، و لما كان الظن في حال الانسداد هو كالقطع في حال الانفتاح، فلازم ذلك- عقلا- كون الاتيان بمؤدى الطريق المظنون موجبا لتحصيل المؤمن من العقاب في حال الانسداد.

و الحاصل: انا نسلم عدم الانسداد في الطرق، و لكن نقول ان نتيجة المقدمات المذكورة هو لزوم تحصيل المؤمن من العقاب، و هو يحصل في الاتيان بما قام عليه الطريق المظنون طريقيته دون مؤداه، فان مؤداه و ان لم يكن مظنونا إلّا ان نفس

ص: 115

وجه القول باختصاص النتيجة بالظن بالطريق
اشارة

كما أن منشأ توهم الاختصاص بالظن بالطريق وجهان (1):

______________________________

الطريق لما كان مظنون الطريقية فلا بد و ان يكون الاتيان بمؤداه موجبا للأمن من العقوبة.

و لا فرق عند العقل في حكمه بالأمن من العقوبة بين الاتيان به او بالحكم الواقعي المتعلق بنفسه للظن.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و الغفلة عن ان جريانها» في خصوص «الفروع موجب لكفاية الظن المتعلق بالطريق في مقام تحصيل الأمن من عقوبة التكاليف» و هو كالظن المتعلق بنفس التكاليف في هذه النتيجة، و هي تحصيل الامن من العقوبة «و ان كان باب العلم في غالب الاصول مفتوحا و ذلك لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك» أي في تحصيل المؤمن من العقوبة «بين الظنين» أي بين الظن المتعلق بالواقع و الظن المتعلق بالطريق و ان كان باب العلم منفتحا في الطرق، لان مقدمات الانسداد لما كانت ملزمة بتحصيل المؤمن من العقوبة في تبعة التكاليف المعلومة بالاجمال، و هو منحصر فيما قام الظن به، و كان الظن المتعلق بالحكم و الظن المتعلق بالطريق سواء في تحصيل المؤمن الظني، كانت النتيجة هي الاعم و ان لم ينسد باب العلم في الطرق.

(1) لا يخفى انه لما كان مختاره (قدس سره) هو حجية الظن بالأعم، كان عليه نفي دعوى الاختصاص باحدهما، و قد ذكر دعوى اختصاص حجية الظن الانسدادي بخصوص الظن بالواقع و اجاب عنها.

اشار الى دعوى اختصاص الظن الانسدادي بخصوص الظن المتعلق بالطرق دون الظن المتعلق بالواقع، و قد ذكر لهذه الدعوى وجهين: الوجه الاول ما ذكره في الفصول تبعا لأخيه المحقق صاحب الحاشية، و الثاني ما اختص به صاحب الحاشية (قدس سره).

ص: 116

أحدهما: ما أفاده بعض الفحول و تبعه في الفصول
اشارة

أحدهما: ما أفاده بعض الفحول و تبعه في الفصول، قال فيها: إنا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة، لا سبيل لنا بحكم العيان و شهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع، و لا بطريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه، أو قيام طريقه مقام القطع (1) و لو

______________________________

(1) قد عرفت ان هذا الوجه- و هو الوجه الاول- مما اشترك به صاحب الحاشية و هو المعني بقوله بعض الفحول، و صاحب الفصول، و لذا قال: «و تبعه في الفصول»، و هو مؤلف من مقدمتين:

الاولى: هو انا نعلم اجمالا بتكاليف كثيرة واقعية فعلية لا طريق لنا الى معرفتها بالقطع بها، و لا سبيل لنا ايضا الى القطع بطريق خاص معين منصوب من الشارع لها، فان الفرض انسداد باب العلم و العلمي، فكما لا علم لنا بها كذلك لا علم لنا بالطريق الشرعي المنصوب لها، فإن المفروض عدم القطع بحجية خبر الثقة- مثلا- ليقوم خبر الثقة مقام القطع، فان مرجع اعتبار الشارع للطريق هو جعله قائما مقام القطع فيما للقطع من الاحكام من المنجزية و المعذرية، و ايضا لم يقم دليل قطعي على طريق يكون مؤداه حجية طريق شرعي الى الاحكام.

و بعبارة اخرى: ان الطريق المعين لخبر الثقة لم يثبت بنفسه، و لا بطريق يؤدي الى حجيته، فلم يثبت الطريق و لا طريق الطريق.

و توضيحه: ان الدليل تارة يقوم على حجية الطريق كأن يقوم الخبر المتواتر على حجية خبر الثقة، و اخرى يقوم الدليل على طريق يؤدي الى حجية الطريق، كأن يقوم الخبر المتواتر على حجية الشهرة مثلا، و الشهرة تقوم على حجية خبر الثقة، فيكون خبر الثقة ثابتا بطريقه لقيام الخبر المتواتر على حجية الشهرة القائمة على حجيته، فالاحكام الواقعية الفعلية لا قطع لنا بها، و لا قطع لنا بحجية الطريق الخاص لها، و لا قطع لنا بحجية طريق يؤدي الى حجية طريقها.

ص: 117

عند تعذره (1)، كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الاحكام طريقا مخصوصا، و كلفنا تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة، و حيث أنه لا سبيل غالبا إلى تعيينها بالقطع، و لا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص، أو قيام طريقه كذلك مقام القطع و لو بعد تعذره (2)،

______________________________

و الى هذا اشار بقوله: «لا سبيل لنا بحكم العيان و شهادة الوجدان الى تحصيل كثير منها» أي من تلك الاحكام المعلومة اجمالا «بالقطع» فان القطع بها انما يحصل بحصول الطرق الموجبة للعلم كالتواتر و الاحتفاف بالقرائن القطعية و الاجماعات المحصلة، و الوجدان شاهد بانه لا تواتر عندنا و لا اجماع و لا ما هو محتف بالقرائن القطعية في كثير من الاحكام «و» ايضا «لا» ثبوت لتلك الاحكام المعلومة بالاجمال «ب» واسطة ثبوت «طريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه» مقام القطع: أي ان التواتر- مثلا- لم يقم ايضا على حجية خبر الثقة ليكون خبر الثقة القائم على الحكم قائما مقام القطع المتعلق بالحكم، و لم يقم التواتر ايضا على حجية الشهرة- مثلا- القائمة على حجية خبر الثقة فيكون ثابتا بطريقه، و هو مراده من قوله: «او قيام طريقه» أي قيام طريق الطريق «مقام القطع».

(1) يشير بهذا الى ان جعل الطريق تارة نقول بامكانه و لو مع امكان تحصيل القطع، و اخرى نقول بامكانه بشرط تعذر القطع، كما مر تفصيله في اول مبحث الظن.

فحاصل هذه المقدمة هو انا نقطع اجمالا بانا مكلفون باحكام فعلية لا طريق لنا اليها مقطوع به، سواء كان الطريق هو القطع المتعلق بها أو المتعلق بطريقها الخاص الشرعي او بطريق طريقها.

(2) هذه هي المقدمة الثانية، و حاصلها: انه لنا علم اجمالي ثان يوجب انحلال العلم الاجمالي الاول، و هو انه كما نعلم اجمالا باحكام فعلية لا طريق لنا اليها، كذلك نعلم اجمالا ايضا بان لنا طرقا شرعية قد تضمنت الاحكام الواقعية، فان الشارع كما جعل الاحكام ايضا قد جعل طرقا موصلة لتلك الاحكام، و لازم هذا العلم

ص: 118

فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيته، لانه أقرب إلى العلم، و إلى إصابة الواقع مما عداه (1).

______________________________

الاجمالي الثاني انحلال العلم الاجمالي الاول، فيكون الامر راجعا الى انا مكلفون بالاحكام الذي تضمنتها الطرق المجعولة الشرعية، لان العلم الاجمالي بعد انحلاله لا اثر له، و حيث فرض انحلاله بالعلم الاجمالي الثاني فالتكليف الفعلي الذي له الاثر هو الاتيان بما قامت الطرق عليه، و لا اثر للعلم الاجمالي بنفس التكاليف الواقعية المجردة عن الطرق، و من الواضح ان الطرق المنصوبة من الشارع المعلومة لنا اجمالا ايضا لا قطع لنا بها، و لا قطع لنا بطريقها و لا بطريق طريقها كما مر شرح ذلك في المقدمة الاولى.

و قد اشار الى هذا العلم الاجمالي الثاني بقوله: «كذلك نقطع بان الشارع قد جعل لنا الى تلك الاحكام» الواقعية «طريقا مخصوصا و كلفنا تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة» لان هذا العلم الاجمالي الثاني ينحل به العلم الاجمالي الاول، فيرجع تكليفنا الفعلي الى العمل بمؤدى الطرق.

و اشار الى ان حال هذا العلم الاجمالي الثاني كالاول في عدم القطع به و لا بطريقه و لا بطريق طريقه بقوله: «و حيث انه لا سبيل غالبا الى تعيينها» أي تعيين تلك الطرق الخاصة «بالقطع و لا بطريق يقطع من السمع ... الى آخر الجملة».

(1) لا يخفى انه لازم المقدمتين المذكورتين هو كون نتيجة دليل الانسداد هي حجية الظن المتعلق بالطرق دون الظن المتعلق بالواقع، لان انحلال العلم الاجمالي الاول بالعلم الاجمالي الثاني يوجب عدم الاثر للعلم الاول، و يقتضي ايضا ان التكليف الفعلي هو العمل بمؤدى الطرق، فتكون مقدمات الانسداد هكذا:

- الاولى: هي العلم الاجمالي بانه لنا احكام فعلية في خصوص مؤديات الطرق.

ص: 119

ايرادات المصنف (قده) على القول باختصاص النتيجة بالظن بالطريق

و فيه: أولا- بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصة باقية فيما بأيدينا من الطرق غير العلمية، و عدم وجود المتيقن بينها أصلا (1)- أن قضية

______________________________

- و الثانية: انسداد باب العلم و العلمي الى الطرق.

- و الثالثة: هي عدم جواز اهمال العمل بالطرق.

- و الرابعة: عدم امكان الاحتياط و الرجوع الى الاصول فيها و لا الى قول الغير.

- و الخامسة: لزوم العمل بالظن المتعلق بالطرق لعدم جواز ترجيح المرجوح على الراجح.

و لذا قال (قدس سره): «فلا ريب ان الوظيفة في مثل ذلك» أي انه لا اشكال بعد تمامية المقدمتين الموجبة لترتيب مقدمات الانسداد كما ذكرناها تكون الوظيفة «بحكم العقل» في حال الانسداد «انما هو» حجية الظن بالطريق، و لا بد من «الرجوع في تعيين ذلك الطريق الى الظن الفعلي» المتعلق به دون الظن المتعلق بالواقع، و هذا الظن في حال الانسداد هو «الذي لا دليل على حجيته» بالخصوص و انما يكون حجة لاجل حكم العقل في حال الانسداد بلزوم التنزل الى الظن «لانه اقرب الى العلم و الى اصابة الواقع مما عداه».

(1) لا يخفى ان المصنف قد اورد على الدليل المذكور ايرادات:

الاول: ما اشار اليه بقوله: «بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصة» و حاصله:

ان الملاك في كون الدليل موجبا لحجية الظن بخصوص الطرق هو انحلال العلم الاجمالي الاول بالعلم الاجمالي الثاني، و نحن لا نسلم ان لنا علما اجماليا ثانيا يكون الشارع قد نصب طرقا خاصة منه للتكاليف الواقعية، فان الشارع ليس له طرق خاصة تأسيسية قد عبدنا بالرجوع اليها، و انما طرق الشارع هي الطرق العقلائية المتبعة عندهم في مقام عملهم، و اذا لم يكن للشارع طرق خاصة لا يكون لنا علم اجمالي ثان ينحل به العلم الاول.

ص: 120

.....

______________________________

و لا يسع صاحب الفصول ان يريد من الطرق الشرعية ما يعم الطرق الامضائية لفرضه انسداد باب العلم الى الطرق الشرعية، و الطرق الامضائية لم ينسد الطريق اليها لانها هي الطرق العقلائية الموجودة عند العقلاء المعروفة بتمامها.

الثاني: ما اشار اليه بقوله: «باقية فيما بأيدينا من الطرق غير العلمية» و حاصله: لو سلمنا العلم بنصب الشارع طرقا تأسيسية منه الى احكامه، لكنا لا نسلم العلم ببقائها في ضمن ما بأيدينا من الطرق غير العلمية، و لعلها ضاعت و لم تصل الينا كما ضاع غيرها من مهمات الامور التي اخبر بها الهداة عليهم السّلام.

و على هذا فلا ينحل العلم الاجمالي الاول لعدم العلم الاجمالي بالفعل بالطرق المتضمنة لاحكام بقدر المعلوم بالاجمال الاول، لينحل بهذا العلم الثاني العلم الاول.

و هذا هو مراده من قوله: «باقية فيما بأيدينا من الطرق غير العلمية» أي لو سلمنا العلم بالطرق الخاصة الشرعية فلا نسلم العلم ببقائها الى زماننا فيما بأيدينا من الطرق حتى يحصل بها الانحلال.

الثالث: ما اشار اليه بقوله: «و عدم وجود المتيقن بينها»، و توضيحه:

انه لو اغمضنا النظر عما ذكرنا من انه لا يسع صاحب الفصول ان يريد من الطرق الخاصة الشرعية ما يعم الامضائية منها، و قلنا بارادته ما يعم الطرق الامضائية، و على هذا الفرض نقول ان العلم الاجمالي الثاني بوجود الطرق الشرعية منحل بالعلم التفصيلي بوجود القدر المتيقن من الطرق، فيجري الاصل النافي في غيرها مما يشك فيه بدوا، و اما القدر المتيقن الذي ينحل به العلم الاجمالي بالطرق فهو الخبر الواحد، لانه لا شبهة ان الطرق الشرعية هي طرق ظنية، و ان الغرض من جعلها هي الطريقية الى الاحكام الواقعية، و مما لا شبهة فيه ايضا ان الخبر من اقوى الظنون كما صرح به صاحب المعالم، بل ادعى جملة من الاكابر كونه من مراتب

ص: 121

ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق المعلومة بالاجمال لا تعيينها بالظن (1).

______________________________

العلم لحصول الاطمئنان من ان خبر الثقة و الاطمئنان من مراتب العلم المتعارف، فانه يصح اطلاق العلم عرفا و الاعتقاد على مرتبة الاطمئنان.

و من الواضح ايضا ان ما يتضمنه الخبر من الاحكام واف بمقدار العلم الاجمالي الاول، فيكون لازم ما ذكره من الدليل على اختصاص حجية الظن بخصوص الطرق هو انحلال العلم الاجمالي الثاني بهذا الطريق الذي هو قدر متيقن، و حيث انه واف بمعظم الاحكام فلازمه- ايضا- الخلف و عدم الانسداد، فتأمل.

و على كل، فالعلم الاجمالي الاول اما باق، و لازمه حجية الظن بالواقع و الطريق كما ذكرنا لعدم انحلاله بالعلم الاجمالي الثاني، حيث ان العلم الاجمالي الثاني قد انحل بوجود القدر المتيقن، و مع انحلاله لا بد ان لا يكون حالا للعلم الاجمالي الاول و إلا لانتفى الانسداد، و اما ان لا يكون العلم الاجمالي الاول باقيا لانحلاله بالعلم الاجمالي الثاني المنحل بوجود المتيقن فلا انسداد ايضا.

(1) هذا هو الاول بحسب سوق عبارة المتن، لانه بعد حذف التسليم يكون تقدير العبارة «و فيه اولا ان قضية ... الى آخره» و لكنه بعد ما عرفت من الاجوبة الثلاثة التي اشار اليها في ضمن التسليم يكون هذا جوابا رابعا.

و حاصله: انه بعد تسليم العلم الاجمالي الثاني و انحلال العلم الاول و عدم انحلال العلم الاجمالي الثاني به، فالنتيجة تكون هو العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي باتباع الطرق المعلومة اجمالا المجهولة تفصيلا.

و من الواضح ان القاعدة الاولى في العلم الاجمالي المنجز هي لزوم الاحتياط باتيان جميع اطراف ما تعلق به العلم الاجمالي دون العمل بالظن المتعلق بالطرق، لوضوح انه مع امكان الامتثال العلمي لا تصل النوبة الى الامتثال الظني، و الامتثال العلمي في خصوص الطرق المعلومة بالاجمال ممكن، و عليه فلا تكون نتيجة ما ذكره

ص: 122

لا يقال: الفرض هو عدم وجوب الاحتياط، بل عدم جوازه (1)، لان الفرض إنما هو عدم وجوب الاحتياط التام في أطراف الاحكام، مما يوجب العسر المخل بالنظام، لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطرق (2). فإن قضية هذا الاحتياط هو جواز رفع اليد عنه في غير

______________________________

من البرهان هو اختصاص حجية الانسداد بالظن بالطريق لعدم وصول النوبة الى الظن، لامكان الاحتياط في الطرق المحتملة كونها مجعولات شرعية، و الى هذا اشار بقوله: «ان قضية ذلك هو الاحتياط في اطراف هذه الطرق ... الى آخر الجملة».

(1) و حاصله: انه من جملة المقدمات الخمس المذكورة هو عدم وجوب الاحتياط في اطراف المعلوم بالاجمال، و مع عدم وجوب الاحتياط و بقاء العلم الاجمالي اما على منجزيته للمقدمة الثالثة، او كشف المقدمة الثالثة عن لزوم التعرض للمعلوم بالاجمال و عدم جواز اهماله.

و على كل فحيث يكون لا بد من الامتثال و التعرض للاتيان بالمعلوم بالاجمال، مع ضم عدم وجوب الاحتياط كما هو فرض المقدمة الرابعة، فلا بد من التنزل الى الظن، و حيث كان العلم الاجمالي منحصرا في الطرق فلا بد من التنزل الى الظن بالطرق، و هذا هو مراده من قوله: «الفرض هو عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه» أي ان المفروض جريان الانسداد الذي من جملة مقدماته عدم الاحتياط، اما جوازا لأدلة العسر و الحرج او لزوما لكونه مخلا بالنظام.

(2) هذا هو الجواب عن «لا يقال»، و حاصله: انا نقول: انما يكون الفرض في مقدمات الانسداد هو عدم الاحتياط حيث يكون المدار على العلم الاجمالي الاول، و هو العلم اجمالا بوجود تكاليف واقعية فعلية يجب التعرض لامتثالها.

و من الواضح ان الاحتياط في الاتيان بكل ما يحتمل كونه تكليفا موجب اما لاختلال النظام او للعسر و الحرج، و اما اذا كان معلومنا الاجمالي هو في خصوص الطرق فلا يلزم من امتثاله بالاحتياط في اطرافه عسر فضلا عن اختلال نظام.

ص: 123

موارد رفع اليد عن الاحتياط في الطرق

مواردها، و الرجوع إلى الاصل فيها و لو كان نافيا للتكليف (1)، و كذا

______________________________

و من الواضح انه حيث كان دليل الانسداد من الادلة العقلية فكل مقدماته هي بحسب ما يدركه العقل و يحكم به في مقام وضعها و في مقام ما تستلزمه من النتائج، فاذا كان متعلق العلم الاجمالي الذي لا بد من التعرض لامتثاله هو الاحكام يكون للمقدمة الرابعة محل واضح و يأتي دور المقدمة الخامسة بعدها، و اما اذا كان متعلق العلم الاجمالي هو خصوص الطرق فتكون مقدمات الانسداد اربعا و المقدمة الرابعة هي الاحتياط، و لا يأتي دور المقدمة الخامسة من لزوم التنزل الى الظن، و لذا قال (قدس سره): «لان الفرض» أي انه لا يكون الفرض في مقدمات الانسداد هو عدم وجوب الاحتياط او عدم جوازه و «انما» يكون الفرض «هو عدم وجوب الاحتياط التام» فيما اذا كانت المقدمة الاولى هي العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية الفعلية، فان الاحتياط التام «في اطراف الاحكام» المعلومة بالاجمال «مما يوجب العسر المخل بالنظام» او المرفوع بأدلة الحرج.

و اما اذا كانت المقدمة الاولى هي العلم الاجمالي بالتكليف باتباع الطرق فلا يكون الفرض في مقدمات الانسداد هو عدم وجوب الاحتياط التام في الاطراف لعدم لزوم العسر و الحرج فضلا عن اختلال النظام في الاحتياط التام في اطراف الطرق.

و الحاصل: ان فرض عدم وجوب الاحتياط انما هو في الاحكام «لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطرق».

(1) توضيحه: انه اذا تم ما ذكره صاحب الفصول من دليله المركب من المقدمتين فالنتيجة هي الاحتياط في اطراف ما بأيدينا من الطرق، و لا يلزم منه اختلال في النظام و لا عسر و لا حرج، لان الاحتياط في الطرق يرفع اليد عنه في مقامات، و بعد رفع اليد عنه في هذه المقامات لا يبقى مجال لاحتمال الاختلال و لا العسر و الحرج. و اما تلك المقامات:

ص: 124

.....

______________________________

فالاول منها ما اشار اليه بقوله: «في غير مواردها» و المراد من قوله في غير مواردها هو موارد الطرق: أي يرفع اليد عن الاحتياط في الطرق في غير موارد الطرق الداخلة في اطراف العلم الاجمالي، فان العلم الاجمالي هو العلم اجمالا بنصب طرق خاصة شرعية، فالطرق التي علم بكونها غير مجعولة و لا ممضاة من الشارع تكون خارجة عن دائرة هذا العلم الاجمالي و غير داخلة في اطرافه فلا يجب الاحتياط فيها «و» لا مانع من «الرجوع الى الاصل فيها» أي في تلك الموارد و هي الطرق الخارجة عن دائرة العلم الاجمالي «و لو كان» الاصل «نافيا للتكليف» لوضوح ان ما كان خارجا عن دائرة المعلوم بالاجمال لا مانع من جريان الاصل النافي فيه.

و الحاصل: ان الحكم المحتمل كونه حكما واقعيا شرعيا فيما اذا لم يقم عليه طريق اصلا او قام عليه طريق علم عدم اعتباره شرعا لا مانع من جريان الاصل فيه، لعدم منافاة الاصل للمعلوم بالاجمال، و حيث لا علم اجمالي فالاصل النافي لا يلزم منه الترخيص المنافي للعلم الاجمالي.

و اما الاصل المثبت فلا اشكال في جواز جريانه فيه، لوضوح عدم منافاة الاصل المثبت للتكليف في اطراف العلم الاجمالي بالتكليف الا ما تقدم من دعوى المناقضة بين الصدر و الذيل، و هو:

اولا: مخصوص بالاصل الاستصحابي.

و ثانيا: قد تقدم عدم المناقضة، و عدم دلالة الذيل على نقض اليقين السابق باليقين الاجمالي اللاحق، و لهذا جعل الاصل النافي من الترقي، فقال و لو كان الاصل نافيا.

ص: 125

فيما إذا نهض الكل على نفيه (1)، و كذا فيما إذ تعارض فردان من بعض الاطراف فيه نفيا و إثباتا مع ثبوت المرجح للنافي، بل مع عدم رجحان المثبت في خصوص الخبر منها، و مطلقا في غيره بناء على عدم ثبوت الترجيح على تقدير الاعتبار في غير الاخبار (2)، و كذا لو

______________________________

(1) هذا هو المقام الثاني مما يجوز رفع اليد عن الاحتياط فيه، و هو الحكم المحتمل الذي قامت جملة من الطرق التي يعلم اجمالا بحجية احدها شرعا على نفي ذلك الحكم المحتمل، فانه في مثل هذا لا مجال للاحتياط فيه، لان محل الاحتياط ما احتمل العقاب على ترك التعرض لامتثاله، و بعد قيام الحجة الشرعية المعلومة اجمالا على نفي هذا التكليف لا مجال لاحتمال العقاب حتى يكون من موارد الاحتياط، و هذا مراده من قوله: «و كذا» أي كما لا يجب الاحتياط في المقام السابق كذلك لا يجب الاحتياط في هذا المقام، و هو «فيما اذا نهض الكل على نفيه» أي نهض ما علم اجمالا بحجيته شرعا على نفي ذلك التكليف المحتمل.

و لا يخفى انه لا مجال في هذا المقام للاصول اصلا نافية او مثبتة.

اما النافية فلوجود الامارة المقدمة على الاصول، فلا مجال للرجوع الى الاصل المنوط بالشك، لانه مع قيام الامارة لا شك بمقتضى حكومة الامارة على الاصول، فلا مجال للاصل، مضافا الى لزوم اجتماع المثلين.

و اما الاصول المثبتة فائضا لا وجه للرجوع اليها لقيام الامارة على نفي التكليف، و الامارة الشرعية مما ينقض بها اليقين السابق و هي بيان ايضا، فلا وجه للرجوع الى الاصول المثبتة ايضا، و لذا لم يتعرض للرجوع الى الاصل في هذا المقام. و يشترك هذا المقام مع المقام الاول في عدم الاحتياط.

(2) هذا هو المقام الثالث مما يجوز رفع اليد عن الاحتياط فيه، و هو المورد الذي تعارض فيه فردان من الامارة و كانا من نوع واحد كالخبرين او الاجماعين المنقولين، اما في الخبرين فغالبا و اما في غير الخبرين كالاجماعين فمطلقا.

ص: 126

.....

______________________________

و توضيح ذلك: انه اذا تعارض خبران فان كان بينهما عموم و خصوص من وجه فالقاعدة الاولية تقتضي تساقطهما و الرجوع الى غيرهما من الادلة الأخر او الاصول.

و اما بحسب القاعدة الثانية الواردة في الاخبار من جواز التمييز بالاخذ باحدها، فان اختصت القاعدة الثانية من التخيير بخصوص ما اذا كان الخبران متنافيين بنحو التباين سلبا و ايجابا فلا مانع من عدم الاحتياط في الخبرين المتعارضين بنحو العموم و الخصوص من وجه، لتساقطهما في الحجية الفعلية بالتعارض فيخرجان بذلك عن دائرة العلم الاجمالي.

و اذا شملت القاعدة الثانية و هي التخيير في الاخبار المتعارضة ما كان بينها عموم و خصوص من وجه فلا مانع من عدم الاحتياط ايضا، لجواز اختيار الخبر النافي فيكون هو الحجة الفعلية على نفي التكليف، و مع قيام الحجة الفعلية على نفي التكليف فلا مانع من رفع اليد عن الاحتياط كما هو واضح.

و اما اذا كان الخبران متعارضين بنحو التباين، فتارة لا يكون لاحدهما مزية على الآخر بان يتساوى الخبر النافي للتكليف و الخبر المثبت للتكليف في المزية و لا يكون لاحدهما مزية على الآخر اصلا، فالقاعدة الاولى في التعارض و ان كان تقضي التساقط و لكن القاعدة الثانية قد دلت على التخيير بينهما، و لما كان التخيير جائزا فيهما فلا مانع من رفع اليد عن الاحتياط ايضا في ذلك، لامكان اختيار الخبر النافي، و مع اختياره يكون هو الحجة الفعلية، فلا مانع من عدم الاحتياط فيما اذا كانت الحجة الفعلية نافية للتكليف.

و اخرى تكون المزية للخبر النافي فيكون جواز رفع اليد عن الاحتياط على هذا الفرض اوضح، لاختصاص الحجة الفعلية بالخبر النافي بناء على لزوم الترجيح لما له المزية، و قد فرض كون المزية للخبر النافي فهو الحجة الفعلية دون الخبر المثبت، و بناء على عدم لزوم الترجيح لذي المزية و القول بالتخيير مطلقا فانه ايضا لا مانع من رفع

ص: 127

.....

______________________________

اليد عن الاحتياط لامكان اختيار الخبر النافي للتكليف لو قلنا بالانفتاح و حجية الخبر كما عرفت.

و ثالثة: تكون المزية للخبر المثبت للتكليف، و قلنا بلزوم الاخذ بما له المزية، ففي مثل هذا الفرد لا وجه لرفع اليد عن الاحتياط، لدخول الحجة الفعلية في اطراف المعلوم بالاجمال الذي قلنا بلزوم الاحتياط فيه، و ليس بمشمول لادلة التخيير حتى يمكن ان يختار الخبر النافي لفرض لزوم الترجيح و الاخذ بما له المزية، و قد فرضناها في الخبر المثبت دون النافي.

و الحاصل: انه في هذا الفرض بالخصوص لا وجه لرفع اليد عن الاحتياط، فانه لو قلنا بانفتاح باب العلمي فمثل هذا الخبر حجة شرعية خاصة على التكليف، ففي باب الانسداد و لزوم الاخذ بما احتمل كونه طريقا شرعيا يكون هذا الخبر داخلا في دائرة العلم الاجمالي، فلا بد من الاحتياط في مورده بالاخذ به، هذا كله فيما اذا تعارض فردان من نوع واحد و كان النوع هو الخبر.

و مما ذكرنا ظهر: ان التعارض في خصوص الخبرين يقتضي عدم الاحتياط غالبا، اذ في جميع الصور عدا الصورة الاخيرة لا يجب الاحتياط.

نعم في الاخيرة لا بد من الاحتياط و لذا كان في الخبرين غالبا.

و اما اذا تعارض فردان من نوع واحد و كانا من نوع غير الخبر، كما لو تعارض اجماعان منقولان فلا مانع من رفع اليد عن الاحتياط فيهما مطلقا، و لو كانت المزية للاجماع المثبت للتكليف بناء على ان لزوم الاخذ بذي المزية انما يختص بخصوص الاخبار المتعارضة دون كل متعارضين. و ان لم يكونا من نوع الخبر فلا اثر للمزية في احد الاجماعين، و القاعدة فيهما اما التساقط بالتعارض بناء على اختصاص ادلة التخيير في المتعارضين بخصوص الاخبار ايضا، او شمول ادلة التخيير لهما ايضا.

و قد عرفت انه لا مانع من رفع اليد عن الاحتياط في المتعارضين نفيا و اثباتا، اما لخروجهما عن دائرة العلم الاجمالي بالتساقط و عدم الحجية الفعلية فيهما، او

ص: 128

.....

______________________________

لدخولهما فيما هو حجة فعلا لدلالة الادلة الخاصة على التخيير بينهما و عدم سقوطهما رأسا، و لكن لما كان احدهما نافيا للتكليف و يجوز الاخذ به فلا مانع من جواز رفع اليد عن الاحتياط في مثل ذلك.

فاتضح ان الامارتين المتعارضتين من غير نوع الخبر كالاجماعين المنقولين او الشهرتين لا مانع من رفع اليد عن الاحتياط في موردهما مطلقا، سواء كان لاحدهما مزية او لا، و سواء كانت المزية في طرف المثبت للتكليف او النافي له.

و قد أشار الى ما ذكرنا بقوله: «و كذا فيما اذا تعارض فردان من بعض الاطراف فيه» أي في التكليف الشخصي، و في تعبيره بالفردين من بعض الاطراف يشير الى كونهما من نوع واحد «نفيا و اثباتا» بان كان احدهما مثبتا للتكليف و الثاني نافيا له.

و اشار الى صورة ما اذا كانت المزية الموجبة للترجيح في الخبر النافي بقوله: «مع ثبوت المرجح للنافي» و اما تقييد ذلك بخصوص الخبر فيدل عليه ما يأتي من قوله في ذيل هذه الجملة: «في خصوص الخبر منها».

و اشار الى صورة ما اذا لم يكن لاحدهما مزية او كانت المزية في كل واحد منهما بقوله: «بل مع عدم رجحان المثبت» للتكليف.

و منه يفهم الصورة الثالثة و هي ما كان المزية في خصوص الخبر المثبت للتكليف، فانه مورد عدم جواز رفع اليد عن الاحتياط فيه.

ثم اشار الى ان هذا التقييد مختص بخصوص ما اذا كان المتعارضان فردين من نوع الخبر دون غيره بقوله: «في خصوص الخبر منها» أي ان هذا في خصوص الفردين المتعارضين من نوع الخبر.

ثم اشار الى جواز رفع اليد عن الاحتياط مطلقا في الفردين المتعارضين من نوع غير الخبر من دون التقييد المذكور في المتعارضين من الخبر بقوله: «و مطلقا في غيره»

ص: 129

تعارض اثنان منها في الوجوب و التحريم (1)، فإن المرجع في جميع ما ذكر من موارد التعارض هو الاصل الجاري فيها و لو كان نافيا، لعدم

______________________________

أي في الفردين المتعارضين من غير نوع الخبر كالاجماعين المنقولين يجوز رفع اليد عن الاحتياط فيهما مطلقا و ان كانت المزية في الاجماع المنقول المثبت للتكليف.

ثم اشار الى مدرك الاطلاق في المتعارضين من غير نوع الخبر بقوله: «بناء على عدم ثبوت الترجيح على تقدير الاعتبار» بادلة الترجيح و دلالتها على لزومه، كما سيأتي الكلام فيه في باب التعارض ان شاء اللّه تعالى «في غير الاخبار» المتعارضة فلا أثر للمزية في احدها اذا لم يكن المتعارض من نوع الخبر.

و لا يخفى ان هذا الكلام كله في مسألة جواز رفع اليد عن الاحتياط و عدمه في هذا المقام الثالث، و اما الكلام في جريان الاصول نافية او مثبتة فيه فسيأتي التعرض له من المصنف في المقام الرابع.

(1) هذا هو المقام الرابع و هو ما اذا تعارض فردان من الامارة سواء كانا من نوع واحد او من نوعين، كما لو تعارض خبر و اجماع منقول، او اجماع و شهرة، و الحال في هذا المقام كما لو تعارض فردان من نوع واحد من غير نوع الخبر في عدم وجوب الاحتياط مطلقا، و لو كان ذو المزية هو المثبت للتكليف بناء على اختصاص الترجيح لذي المزية بخصوص الخبرين المتعارضين.

و اما في التخيير بينهما فان قلنا باختصاصه ايضا بالخبرين المتعارضين فالامارتان في هذا المقام يسقطان بالمعارضة و يخرجان عن دائرة العلم الاجمالي، و ان قلنا بشمول التخيير لهما فالحكم ايضا جواز رفع اليد عن الاحتياط في موردهما، لامكان اختيار الامارة النافية.

و على كل فلا مانع من جواز رفع اليد عن الاحتياط في هذا المقام، و لذا عطفه في المتن على المتعارضين من نوع واحد من غير الخبر بقوله: «و كذا لو تعارض اثنان منها» أي اثنان من نوعي الامارة كخبر و اجماع «في الوجوب و التحريم».

ص: 130

نهوض طريق معتبر و لا ما هو من أطراف العلم به على خلافه (1)،

______________________________

و من الواضح انه لو تعارضت الامارتان في الوجوب و التحريم فلا مجال للاحتياط لعدم امكانه، حيث ان المكلف لا يخلو عن الفعل أو الترك، و كل واحد منهما اما واجب او حرام، فانه اذا كان الحكم هو الوجوب فالترك حرام، و ان كان هو الحرمة فالفعل حرام، فالاحتياط في هذا المورد غير ممكن عقلا، لبداهة انه لا يعقل ان يفعل المكلف ما يعلم بانه قد اصاب الواقع قطعا، و انما خص الوجوب و التحريم لان مورد الاحتياط مورد احتمال احدهما، لانهما من الحكم اللزومي، و لا ريب في اختصاص الاحتياط بمورد احتمال الحكم اللزومي دون مطلق الحكم.

(1) قد عرفت ان مورد التعارض الذي يجوز رفع اليد عن الاحتياط فيه هو الخبران المتساويان، او ما كان الخبر النافي ارجح، و الامارتان من غير نوع الخبر كالاجماعين المنقولين، و الامارتين من نوعين كخبر و اجماع.

و لما ذكر حال الاحتياط بالنسبة الى هذه الموارد- أراد ان يشير الى حال جريان الاصول في هذه الموارد المتعارضة.

و حاصل ما افاده انه لا مانع من جريان الاصول فيها، لان المانع من جريان الاصول في اطراف العلم الاجمالي اما المانع من ناحية الثبوت، او المانع من ناحية الاثبات.

اما المانع من ناحية الثبوت عند المصنف فهو قبح الاذن و الترخيص فيما يلزم منه مخالفة عملية للمعلوم بالاجمال، كما لو علمنا بنجاسة احد الإناءين و اقتضت الاصول طهارتهما معا بأن كانا مسبوقين بالطهارة، فانه يلزم من جريان الاصول مخالفة عملية للمعلوم بالاجمال.

اما لو كانت الاصول تقتضي نجاستهما كما لو كان الاناءان متيقني النجاسة، و علمنا بطهارة احدهما فلا مانع من جريانهما لعدم المخالفة العملية، لان المراد من

ص: 131

.....

______________________________

المخالفة العملية هي المخالفة للحكم الالزامي، و الطهارة ليست حكما الزاميا، بخلاف النجاسة لاقتضائها لزوم اجتناب النجس.

و لما كانت الحجتان في هذه الموارد متعارضتين فلا مانع من الاذن و الترخيص حتى فيما يلزم منه مخالفة عملية، لان المخالفة العملية القبيحة هي المخالفة الفعلية المعلومة بالاجمال، و حيث فرضنا تعارض الحجتين فلا حجة فعلية حتى يكون الاذن و الترخيص في مخالفتها قبيحا.

و اما المانع من ناحية الاثبات فهو دلالة الرواية بحسب ذيلها على ان العلم الاجمالي ناقض للعلم التفصيلي، و لكنه ايضا اليقين الاجمالي الناقض لليقين التفصيلي هو اليقين الاجمالي المنجز، و لما كان المعلوم بالاجمال من الحجتين هو الحجتين المتعارضتين فلا علم اجمالي منجز بوجود الحجة في هذه الموارد، و لا يقين اجمالي من غير ناحية الحجة لبداهة ان مورد جريان الاصل واحد اما اثباتا او نفيا، فليس هناك إلّا يقين واحد تفصيلي و شك لاحق.

فاتضح انه لا مانع ايضا من ناحية الاثبات من جريان الاصول في هذه الموارد.

و مما ذكرنا يظهر وجه الترقي في قوله: «و لو كان نافيا» أي و لو كان الاصل نافيا، لان الاصول المثبتة في موارد الحجتين المتعارضتين نفيا و اثباتا لا يلزم من جريانهما مخالفة عملية، لوضوح ان الحجة النافية للتكليف لا الزام فيها بعدم التكليف حتى يلزم من اجراء الاصول المثبتة بالنسبة اليها مخالفة عملية، بخلاف ما اذا كان الاصل نافيا، فانه يلزم من اجرائها مخالفة عملية للامارة المثبتة للتكليف الالزامي، و لكنه لما كانت الامارة المثبتة متعارضة بالامارة النافية فلا امارة فعلية يقبح الترخيص في مخالفتها، و لذا قال (قدس سره): «فان المرجع في جميع ما ذكر من موارد التعارض» الثلاثة المذكورة «هو الاصل» العملي «الجاري فيها» أي في مواردها «و لو كان» الاصل «نافيا» للتكليف «لعدم نهوض طريق معتبر» تفصيلي،

ص: 132

فافهم (1).

______________________________

لفرض كون المقام باب الانسداد، فالمفروض هو العلم الاجمالي بالطرق المعتبرة دون التفصيلي.

و ايضا لا مانع من جريان الاصول من ناحية العلم الاجمالي بالطرق المعتبر، لفرض التعارض في الموارد المذكورة، و العلم الاجمالي بالطريق المعتبر المانع من جريان الاصول هو الطريق المعتبر غير المبتلى بالمعارض، و لذا قال (قدس سره): «و لا ما هو من اطراف العلم به» أي من اطراف العلم بالطريق المعتبر «على خلافه» أي على خلاف الاصل الجاري، لما عرفت من ابتلائه بمعارض مثله في الاعتبار.

(1) لعله يشير الى ان من موارد التعارض المذكورة هو ما اذا كان الخبر النافي ارجح، فانه يكون هو الحجة الفعلية على خلاف الاصول المثبتة، و لكنه قد عرفت انه لا مانع من جهة الثبوت، لان المانع من ناحية الثبوت هو المخالفة العملية، و لا مخالفة عملية للامارة النافية، مضافا الى ان الخبر النافي الراجح ليس بحجة فعلية متعينة، لفرض انسداد باب العلم و العلمي. نعم هو داخل في دائرة الطرق التي ينبغي الاحتياط فيها، و لما كان نافيا للتكليف فليس له عمل حتى يحتاط فيه، و لا مخالفة عملية له لانه لا عمل له، فلا مانع ثبوتا من جريان الاصل المثبت.

نعم قد يتوهم المانع من جهة الاثبات و هي دلالة الرواية على ان اليقين الاجمالي المعتبر القائم على خلاف اليقين التفصيلي ينقض به اليقين التفصيلي، و الخبر النافي الراجح من دائرة الطرق المعلومة بالاجمال فينقض به الاصل المثبت للتكليف.

و لكنه توهم فاسد، فان الرواية انما تدل على نقض اليقين التفصيلي باليقين الاجمالي على خلافه، و الخبر النافي في الراجح في المقام غايته ان يكون من دائرة الطرق الشرعية المعلومة بالاجمال، و لكنه لا يوجب اليقين الاجمالي بالانتقاض، و حيث لم تتعين الطرق فلا يقين اجمالي ايضا بالطريق المعتبر الناقض لليقين التفصيلي، فلا مانع من جهة الخبر النافي لا ثبوتا و لا اثباتا، و اللّه العالم.

ص: 133

و كذا كل مورد لم يجر فيه الاصل المثبت، للعمل بانتقاض الحالة السابقة فيه إجمالا بسبب العلم به، أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه، بناء على عدم جريانه بذلك (1).

______________________________

(1) هذا هو المقام الخامس الذي لا مانع من رفع اليد عن الاحتياط فيه، و مراده من هذه الموارد التي لم تجر فيها الاصول المثبتة و لا النافية: هو ما اذا قامت امارات متعددة نافية لتكاليف متعددة علم اجمالا بكون احدها حكما واقعيا او طريقا خاصا شرعيا، فان الذي يظهر من المصنف في المقام هو عدم جريان الاصل المثبت للتكليف في هذه الموارد.

و الظاهر ان المانع من جريان الاصول في المقام هو المانع من ناحية الاثبات دون الثبوت، لعدم المخالفة العملية كما مرّت الاشارة اليه، و لكن هذه الموارد مشمولة للرواية الدالة على نقض اليقين التفصيلي باليقين الاجمالي، بناء على نقض اليقين الاجمالي لليقين التفصيلي، ففي هذه الموارد لا تجري الاصول المثبتة للتكليف، للعلم اجمالا بان بعض هذه الاصول المثبتة للتكليف قد ثبت على خلافها نفي التكليف بالامارة المعتبرة، و اما النافية فلا حاجة اليها لفرض نفي الامارة للتكليف، و لكن لا يجب الاحتياط فيها ايضا لما عرفت من ان كون الحكم الواقعي هو عدم التكليف او كون الطريق المعتبر نافيا للتكليف لا الزام فيه، فلا يكون العلم الاجمالي بالطرق الملزمين باتباعها مما يقتضي الاحتياط فيه، فالاصول المثبتة و ان كانت لا تجري إلّا ان العلم الاجمالي لا يقتضي الاحتياط ايضا، فلا مانع من رفع اليد عن الاحتياط في هذه الموارد، و لذا عطف هذا المقام الخامس على المقامات الاربعة المتقدمة، الذي قال في صدر عبارته- بعد ان اورد على صاحب الفصول بان برهانه لو تمّ لكانت النتيجة هي الاحتياط في الطرق لا العمل بالظن-: «فان قضية هذا الاحتياط هو جواز رفع اليد عنه في مقامات»، ثم عدّدها و عطف هذا المقام الخامس عليها، فقال: «و كذا» أي و مثل الموارد السابقة في عدم وجوب الاحتياط هو «كل مورد

ص: 134

و ثانيا: لو سلم أن قضيته لزوم التنزل إلى الظن، فتوهم أن الوظيفة حينئذ هو خصوص الظن بالطريق فاسد قطعا، و ذلك لعدم كونه أقرب

______________________________

لم يجر فيه الاصل المثبت للعلم بانتقاض الحالة السابقة فيه اجمالا بسبب العلم به» و ذلك كما لو علمنا بان بعض هذه الامارات النافية للتكاليف حكمها هو حكم واقعي «او» علمنا بكون بعضها امارة خاصة شرعية، فيكون ذلك علما «بقيام امارة معتبرة عليه» أي على الانتقاض «في بعض اطرافه» أي في بعض اطراف الاصل المثبت للتكليف.

ثم اشار الى ان ذلك مبني على القول بالمانع من ناحية الاثبات و هو دلالة الرواية على نقض اليقين التفصيلي باليقين الاجمالي بقوله: «بناء على عدم جريانه بذلك» أي بناء على عدم جريان الاصل بسبب العلم بالانتقاض اجمالا.

و لا يخفى انه يظهر من بعض اساتذتنا المحققين في المقام: ان مراد المصنف من الاصل المثبت الذي لم يجر و لا يجب في مورده الاحتياط هو الاصل المثبت في المقامات المتقدمة عدا المقام الثاني و هو ما نهض الكل على نفيه، و هذا بعيد جدا لما يظهر من المصنف من جريان الاصل المثبت في المقامات المتقدمة لدلالة الترقي في قوله: «و لو كان» الاصل «نافيا» على جريان الاصل المثبت، و لظهور قوله: «نهوض طريق معتبر و لا ما هو من اطراف العلم به على خلافه» على انه ليس في مورد الاصل مثبتا كان او نافيا طريق معتبر و لا علم اجمالي على خلاف الاصل، و تصريحه في هذا المقام بان السبب في عدم جريان الاصل المثبت هو العلم بانتقاض الحالة السابقة اجمالا بسبب العلم به، او بقيام امارة معتبرة على خلاف العلم التفصيلي في بعض اطراف المعلوم بالاجمال. و اللّه العالم.

ص: 135

ايراد المصنف ثانيا على كلام الفصول

إلى العلم و إصابة الواقع من الظن، بكونه مؤدى طريق معتبر من دون الظن بحجية طريق أصلا، و من الظن بالواقع، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) قد عرفت ان الايراد الاول هو ان لازم العلمين هو الاحتياط دون التنزل الى الظن، و بضمه الى ما اشار اليه من عدم العلم بنصب طرق خاصة شرعية، و من انه لو فرض العلم بذلك فلا علم ببقاء تلك الطرق الخاصة فعلا فيما بأيدينا من الطرق، و من انه على فرض العلم ببقائها فلها قدر متيقن يوجب انحلال العلم الاجمالي به، فتكون الايرادات المتقدمة أربعة.

و حاصل هذا الايراد الذي اشار اليه بقوله: «و ثانيا لو سلم ... الى آخره» أي على فرض تسليم ما مرّ و ان العلمين يوجبان التنزل الى الظن دون الاحتياط، و لكن لا نسلّم ان ما يوجبانه هو خصوص الظن بالطريق المعتبر دون الظن بالواقع و دون الظن بكونه مؤدى طريق معتبر، و لكن لم يقم الدليل المعتبر عليه.

و توضيح ذلك: انه تارة نظن بان حكم العصير العنبي هي الحرمة واقعا من دون أن نظن بان فيما بأيدينا من الطرق طريقا معتبرا يدل على الحرمة.

و اخرى: نظن بان العصير العنبي مما قام على حرمته دليل معتبر فيما بأيدينا، و لكن لا نعرفه بعينه.

و ثالثة: نظن بان الطريق القائم عليه- و هو خبر الثقة مثلا- هو طريق معتبر عند الشارع.

و ظاهر الفصول على ما فهمه المصنف منه ان لازم العلمين المذكورين في كلام الفصول هو كون النتيجة هي حجية خصوص الثالثة، و هي حجية الظن المتعلق بكون الطريق الكذائي طريقا معتبرا.

و لا اعتبار بالظن بكون حكم العصير- واقعا- هي الحرمة، و لا اعتبار ايضا بالظن بكون العصير مما قام على حرمته طريق معتبر و لكن لا نعرفه بعينه.

ص: 136

.....

______________________________

و لكنّا بعد تسليم المقدمتين و ان لازمهما التنزل الى الظن لا نسلم اختصاص الحجية بخصوص الثالثة، و هي الظن بالطريق دون الظنين المتقدمين، بل النتيجة تقتضي حجية الظن بحرمة العصير سواء تعلق الظن بكون الحرمة هي حكمه الواقعي او تعلق الظن بكون الحرمة مما قام عليها دليل معتبر لا نعرفه، او تعلق الظن بكون الدليل الدال على حرمة العصير هو طريقا معتبرا شرعا.

و البرهان على عدم الاختصاص بعد كون النتيجة هي التنزّل الى الظن، هو انه بعد تعذر العلم و العلمي المعلوم بعينه نتنزّل الى الظن، و لا نرى ان الظن بخصوص كون هذا الطريق طريقا معتبرا اقرب الى براءة الذمة من الظن بكونه حراما واقعا، و لا اقرب من الظن بكونه مؤدى طريق معتبر.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «و ثانيا لو سلم ان قضيّته» أي لو سلّم ان قضية المقدمتين هي «لزوم التنزل الى الظن» دون الاحتياط، و لكن لا نسلّم ان لازم المقدمتين هي حجية خصوص الظن المتعلق بالطريق دون الظنين المذكورين «فتوهّم ان الوظيفة حينئذ» أي حين تسليم المقدمتين «هو» اقتضاؤهما حجية «خصوص الظن بالطريق» هو توهم «فاسد قطعا».

ثم اشار الى البرهان على فساد هذا التوهّم بقوله: «و ذلك لعدم كونه» أي لعدم كون خصوص الظن بالطريق «اقرب الى العلم و اصابة الواقع» الذي به تحصل براءة الذمة «من الظن بكونه» أي من الظن بكون حكم العصير هو «مؤدى طريق معتبر من دون الظن بحجية طريق اصلا و» ايضا ليس خصوص الظن بالطريق هو اقرب الى العلم و اصابة الواقع «من الظن بالواقع» و ان حكم العصير واقعا هي الحرمة.

ص: 137

صرف التكاليف الى مؤديات الطرق أو تقييدها بها

لا يقال: إنما لا يكون أقرب من الظن بالواقع، إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه إلى مؤديات الطرق و لو بنحو التقييد (1)، فإن

______________________________

(1) حاصله: ان لا بد من اختصاص النتيجة بعد التنزل الى الظن بخصوص الظن بالطريق دون الظن بالواقع و دون الظن بكونه مؤدّى طريق معتبر لم نعرفه، لان المقدمة الثانية و هي انا مكلفون باتباع خصوص الطرق الشرعية لكون مؤدياتها وافية بالتكاليف الواقعية المعلومة بالاجمال، كما هي قضية المقدمة الاولى تقتضي انحلال العلم الاجمالي الاول الكبير بالعلم الاجمالي الثاني الصغير، و لازم الانحلال هو انحصار التكليف الفعلي باتباع الطرق، و بعد الانحلال لا اثر للعلم الاجمالي الاول و هو انا نعلم اجمالا باحكام فعلية، فان العلم الاجمالي المنحل لا اثر له و انما الاثر للحال للعلم الاجمالي، و لما كان الحال للعلم الاجمالي الاول هو العلم الاجمالي بان التكليف الفعلي هو اتباع خصوص الطرق الذي هو العلم الاجمالي الثاني، فلا يكون للظن بالواقع اثر لأنّا غير مكلفين بامتثال الواقع حتى يكون الظن بالواقع قائما مقام العلم بالواقع.

و اما الظن بكونه مؤدّى طريق معتبر لم نعرفه لازمه عدم حصول الظن الفعلي بطريق اليه، و مرجعه الى عدم وصول طريقه الينا، و لازم ذلك خروجه عن دائرة المعلوم بالاجمال الثاني، و مع خروجه عنه لا اثر للظن المتعلق بما هو خارج عن المعلوم بالاجمال.

و الحاصل: ان لازم العلم الاجمالي هو كون التكليف الفعلي هو اتباع خصوص مؤديات الطرق، و لو بنحو تقييد المعلوم بالاجمال الاول بكونه مما لا بد ان يؤدّي اليه طريق، و مع هذا التقييد لا يكون للظن بالواقع اثر، و لا للظن بكونه مؤدّى طريق معتبر غير واصل الينا في ضمن هذه الطرق، و تختص حجية الظن بخصوص الظن بالطريق، و لذا قال: «لا يقال انما لا يكون» الظن بخصوص الطرق «اقرب من الظن بالواقع» اذا لم ينحل العلم الاجمالي الاول بالعلم الاجمالي الثاني، لانه

ص: 138

دخل الامارة في الحكم- تصورا- على أنحاء أربعة

الالتزام به بعيد (1)، إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا، فلا أقل من كونه مجمعا على بطلانه، ضرورة أن القطع بالواقع يجدي في الاجزاء بما هو

______________________________

«اذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه» أي عن التكليف الواقعي المجرد «الى» التكليف ب «مؤديات الطرق و لو بنحو التقييد» يكون الظن بالواقع مثل الظن بالطريق، و لا يكون الظن بالطريق اقرب الى اصابة الواقع ببراءة الذمة من الظن بالواقع.

اما اذا صرف التكليف الفعلي الاول الى التكليف الفعلي الثاني المقيّد بخصوص مؤديات الطرق فلا بد من انحصار اصابة الواقع ببراءة الذمة بخصوص الظن بالطرق.

(1) هذا هو الجواب عمّا ذكره في لا يقال، و توضيحه يتوقف على بيان امر ليتضح ما اورده عليه و هو ان دخل الامارة في الحكم- تصورا- على انحاء اربعة:

الاول: ان تكون الامارة دخيلة في الحكم في مراتبه الثلاث: الاقتضاء و الانشاء و الفعلية، و لا بد من تبعية الدخل في مرتبة التنجز لتبع مرتبة التنجز لمرتبة الفعلية، اذ التنجز ليس الا كون الحكم الفعلي بالغا مرتبة التنجز، و دخالة الامارة في الحكم بمراتبه الثلاث محال لاستلزامه الدور، لوضوح ان معنى دخالة الامارة في الحكم هو كون الامارة دخيلة في موضوع الحكم، فيكون موضوع الحكم هو قيام الامارة على الحكم.

و لا يخفى انه لازم هذا ان لا يكون هناك حكم واقعي قبل قيام الامارة، و ان ما قامت عليه الامارة هو الحكم الواقعي، و حيث ان الامارات متعددة و مختلفة فلا بد من تعدد الاحكام الواقعية بمقدار تعدد الامارات، و هذا مما يستلزم الدور، بتقريب ان الحكم اذا كانت الامارة دخيلة فيه بنحو الموضوعية فقبل قيام الامارة لا حكم، فيكون الحكم- بما هو حكم- متوقفا على الامارة، و حيث ان الامارة القائمة على الحكم لا بد لها من حكم تتعلق به و تقوم عليه، فيتوقف تعلق الامارة بالحكم على الحكم، و لازم هذا كون الحكم- بما هو حكم- موقوفا على قيام الامارة، لتوقف

ص: 139

.....

______________________________

الحكم على موضوعه، و توقف قيام الامارة على الحكم، لانها مما لا بد لها من متعلق، و المفروض ان المتعلق لها هو الحكم، فيكون الحكم متوقفا على الامارة المتوقفة عليه، و يكون قيام الامارة موقوفا على الحكم المتوقف على قيام الامارة.

و الى مثل هذا يرجع دعوى المصوّبة من انه لا حكم واقعا الا ما ادى اليه نظر المجتهد، و ان اللّه احكاما واقعية بعدد آراء المجتهدين.

و الفرق بينهما هو ان ما ذكرناه انه لا حكم واقعا قبل قيام الامارة و ان اللّه احكاما واقعية بعدد ما قامت عليه الامارات، و المصوّبة يقولون بمثله بالنسبة الى المجتهدين و ليس هذا بفارق.

و قد رفعوا الدور بان الحكم بوجوده الواقعي في مراحله الثلاث متوقف على الامارة، أي على الظن المتعلق بماهية الحكم، لبداهة ان الظن من موجودات عالم النفس فلا يعقل تعلقه بالموجود الخارج عن افق النفس، و الذي يوجد في افق النفس هو ماهية الحكم لا وجوده الخارج عن افق النفس، فالحكم الواقعي بمراحله الثلاث متوقف على الظن أي على الامارة المتعلقة بماهية الحكم، و الظن متوقف على ماهية الحكم لا على وجود الحكم خارجا، فاختلف الموقوف و الموقوف عليه، فان الموقوف أي الحكم بوجوده الخارجي موقوف على الظن المتعلق بماهية الحكم، و الظن او الامارة متوقفة على ماهية الحكم لا على الحكم بوجوده الخارجي، و مع اختلاف الموقوف و الموقوف عليه و لو بحسب نشأتي الوجود من النفسي و الخارجي يرتفع الدور، لان محاليّة الدور هي لزوم توقف الشي ء على نفسه، و اذا كان الحكم بوجوده الحكمي متوقفا على الظن المتعلق بماهية الحكم لا بوجوده الخارجي يكون الموقوف غير الموقوف عليه فلا يكون هناك توقف للشي ء على نفسه، لبداهة توقف الحكم بوجوده الخارجي على الظن أي الامارة المتعلقة بماهية الحكم لا بوجوده فلا دور، كما انه لا تقدم و لا تأخر طبعي، لبداهة ان المتأخر هو الحكم بوجوده الواقعي، و المتقدم هو ماهية الحكم لا وجوده فلا يكون المتأخر متقدما، لان المتقدم

ص: 140

.....

______________________________

الذي هو متعلق الظن هو ماهية الحكم و المتأخر هو وجود الحكم واقعا، فلا يلزم محذور تقدّم المتأخر و تأخير المتقدم.

و لكنه ينبغي ان لا يخفى ان دخالة الامارة واقعا في الحكم بنحو الموضوعية في جميع مراتبه، و ان لم يلزم منه الدور بحسب ما مرّ، من امكان دخالتها على نحو لا يستلزم الدور إلّا انه يستلزم المحال إما فرضا او امتثالا.

و ذلك لان دخالة الامارة في الحكم ان كانت دخالتها في وجود الحكم الواقعي بما له من الوجود المختص به، فمعناه كون الواجب واقعا هو الواجب الذي قامت عليه الامارة، و لازم ذلك الدور عروض الوجوب على الوجوب، و عروض الشي ء على نفسه محال لاستلزامه تقدم الموضوع طبعا- بما هو موضوع- و تأخره طبعا بما هو حكم عارض على الموضوع. مضافا الى الخلف بنحو آخر، و هو انه بعد ان كان المفروض دخالتها في وجود الحكم الواقعي فهذا فرض وجود للحكم الواقعي من دون الامارة، و قد فرضنا دخالتها فيه، فهذا فرض يلزم من وجوده عدمه.

و ان كانت دخالتها في الحكم الواقعي بنحو تركب موضوعه من مفهوم الامارة و مفهوم الحكم فيكون العارض هو وجود الحكم الواقعي على موضوعه، و هو ماهية الحكم و مفهومه لا وجوده، فلا يلزم عروض الشي ء على نفسه، فهو و ان كان لا يلزم منه عروض الشي ء على نفسه الّا أن لازمه عدم امكان امتثاله، لضرورة لزوم قيام الامارة على الحكم الذي قامت عليه الامارة، و لا ريب ان الامارة انما تقوم على الحكم لا على الحكم الذي قامت عليه الامارة، مضافا الى انه على الفرض ان موضوع الحكم الفعلي هو قيام الامارة على الحكم بمفهومه لا بوجوده الواقعي، و لما كانت الامارة تقوم على الحكم الواقعي فموضوع الحكم الفعلي لم يتحقق و هو قيام الامارة على الحكم بمفهومه لا بوجوده الواقعي.

ص: 141

.....

______________________________

و بعبارة اخرى: ان الظن المتعلق بماهية الحكم ان كانت هذه الماهية المتعلقة للظن قد تعلق الظن بها بما انها لها مطابق خارجي، فيلزم الخلف، لان المفروض ان الحكم بوجوده الخارجي متوقف على الظن المتعلق بماهيته.

و ان لم يكن لها مطابق خارجي فلا يعقل ان يتعلق الظن بهذه الماهية، لانه مع العلم بانه لا حكم واقعا كيف يتعلق الظن بماهية الحكم الذي علم انه لا مطابق له؟

فاتضح ان دخالة الامارة في الحكم بنحو الموضوعية محال اما فرضا او امتثالا، فالتصويب بمعنى انه لا حكم واقعا قبل قيام الامارة، و ان الحكم الواقعي هو ما قامت عليه الامارة محال اما فرضا او امتثالا.

الثاني: ان يكون دخالة الامارة في الحكم في مرحلة الفعلية فقط، بان يكون الحكم الواقعي في مرحلة الانشاء غير مأخوذ فيه شي ء اصلا سوى موضوعه المتعلق به كالصلاة و الصوم مثلا، و لكنه اذا قامت الامارة عليه يضمحل الحكم الواقعي الانشائي و ينشأ حكم على نحو ما قامت عليه الامارة سواء اصابت الامارة حتى لا يلزم التماثل أو أخطات الامارة حتى لا يلزم التضاد و التناقض.

و هذا ايضا إمّا محال او مما قام الاجماع على خلافه، لوضوح ان الموضوع للامارة هو الشك في الحكم الواقعي، فان كان حدوثا و بقاء فهو خلف، لان المفروض في هذا الامر الثاني هو اضمحلال الحكم الواقعي بقيام الامارة، و بعد قيام الامارة لا بقاء للحكم الواقعي، و مع العلم بعدم بقائه كيف يبقى الشك فيه؟ و مع ارتفاع الشك فيه لا موضوع للامارة، فيلزم من قيام الامارة على الحكم عدم الحكم، و ما يلزم من وجوده عدمه محال.

و ان كان موضوع الامارة هو الشك في الحكم الواقعي حدوثا لا بقاء فهو مما قام الاجماع على عدمه، لقيام الاجماع على انه هناك حكم واقعي أصابه من أصابه و أخطأه من أخطأه.

ص: 142

.....

______________________________

مضافا الى ان الحكم المفروض في مرحلة الانشاء هو الإنشاء للحكم بداعي جعل الداعي، فان بقى الحكم بعد قيام الامارة فلا اضمحلال، و هو خلاف المفروض من اضمحلال الحكم الواقعي بعد قيام الامارة، و ان لم يبق فلا يكون الحكم في مرحلة الانشاء هو الانشاء بداعي جعل الداعي، لان هذا الانشاء لا يكون فعليا حتى يكون داعيا بداعي جعل لداعي.

الثالث: ان يكون بنحو التقييد للحكم في مرحلة الفعلية مع بقاء الحكم الواقعي الانشائي على حاله غير مقيد بقيام الامارة

ففيه اولا: ان الحكم الفعلي ليس هو إلّا الحكم الانشائي الذي بلغ مرتبة الفعلية، فكيف يمكن تقييده في مرحلة الفعلية دون مرحلة الانشاء؟

و ثانيا: دعوى كون الحكم الواقعي الفعلي مقيدا بالامارة، بحيث يوجب صرف الحكم الواقعي الى الحكم المقيد بقيام الامارة مما قام الاجماع على عدمه، لوضوح انه من البديهي المسلّم ان القطع بالحكم الواقعي الفعلي مما يوجب تنجزه، و لو كان الحكم الفعلي مقيدا بالامارة لما كان العلم بالحكم الواقعي الفعلي موجبا لتنجزه، لانه لم يتعلق العلم بالحكم الفعلي المقيد بالامارة، بل تعلق بنفس الحكم، فلا يكون موجبا للتنجز مع قيام الاجماع على تنجزه بالعلم، فقيام الاجماع على تنجز الحكم بالعلم دليل على عدم تقييد الحكم الواقعي بالامارة.

و ثالثا: يرد عليه ما اورد على الاضمحلال، من كون موضوع الامارة هو الشك بالحكم الواقعي حدوثا و بقاء، و مع فرض صرف الاحكام الواقعية الفعلية الى تقيدها بالامارة يكون الحكم الذي قامت عليه الامارة مقطوعا لا مشكوكا، و بارتفاع الشك يرتفع موضوع الامارة فيلزم من وجود الشي ء عدمه.

و الحاصل: ان الامارة اذا قامت على الحكم الواقعي فان كان هناك حكم واقعي فانه يكون مقطوعا لا مشكوكا، و الّا يكون مقطوع العدم: أي اذا لم يكن هناك حكم واقعي و الامارة أخطأت فيكون عدم الحكم مقطوعا.

ص: 143

الصرف و التقييد و ايرادات المصنف (قده) عليهما

واقع، لا بما هو مؤدى طريق القطع، كما عرفت (1).

______________________________

الرابع: ان يكون الموجب للزوم اتباع ما قامت عليه الامارة أمرين:

الاول: اعتبار الشارع للامارة طريقا الى احكامه الواقعية.

الثاني: هو كونها مما تشتمل على مقدار من الاحكام الواقعية وافية بمعظم الفقه، و هذان الامران يوجبان انحلال العلم الاجمالي الاول بالعلم الثاني، لكون الامارات مما تشتمل على احكام واقعية وافية بمعظم الفقه، و ان الامارات التي تشتمل على ذلك مما اعتبرها الشارع، فيكون لازم هذين الامرين انحلال العلم الاجمالي الاول بالعلم الاجمالي الثاني، و لازمه اتباع ما قامت عليه الامارة المعتبرة، و حيث لا سبيل للعلم بالامارة لفرض الانسداد، فيتنزّل الى الظن بالامارة دون الظن بالحكم الواقعي، لعدم تنجز العلم الاجمالي الاول بسبب الانحلال.

اذا عرفت هذه المقدمة ... فاعلم انه لا اشكال في ان كلام الفصول بعيد جدا ان يكون مراده الاحتمال الاول، لصراحة كلامه بان لنا احكاما واقعية فعلية غير مقيدة بشي ء اصلا، فيدور امره بين الاحتمالات الثلاثة: الاضمحلال، و التقييد، و انحلال العلم الاول بالعلم الثاني.

و لما كانت الاحتمالات الثلاثة غير صحيحة ايضا، لما عرفت مما يرد على الاضمحلال و التقييد و لما سيأتي من الايراد عليهما، و لما سيأتي من الايراد على الثالث الذي هو رابع الاحتمالات .. و عليه فلا وجه لما ادعاه صاحب الفصول من كون نتيجة مقدمات الانسداد هو حجية الظن بالطريق دون الظن بالواقع.

(1) لا يخفى ان مراده من الصرف المقابل للتقييد هو الاضمحلال، لما عرفت من إباء كلام الفصول عن الاحتمال الاول.

فعلى فرض ان يكون مراد الفصول بصرف التكاليف الواقعية الى اتباع الامارات الشرعيّة هو اضمحلال التكاليف الواقعية بعد جعل الامارات الشرعية- اورد عليه الماتن (قدس سره) ايرادين:

ص: 144

.....

______________________________

الاول: ما اشار اليه بقوله: «اذ الصرف لو لم يكن تصويبا»، و حاصله: ما عرفت من ان الاضمحلال ايضا محال للزومه الخلف، و انه يلزم من حجية الامارة عدم حجيتها لان موضوع الامارة هو الشك في الحكم الواقعي حدوثا و بقاء، فاذا كان قيام الامارة موجبا لاضمحلال الحكم الواقعي كان ذلك موجبا لرفع حجيتها، لارتفاع موضوع الامارة و هو الشك بالحكم الواقعي، لوضوح انه بناء على الاضمحلال بعد قيام الامارة نقطع بعدم الحكم الواقعي، و مع القطع بعدمه يرتفع الشك فيه، و لازم ارتفاع الشك فيه ارتفاع حجية الامارة لارتفاع حجيتها بارتفاع موضوعها، فيلزم من حجية الامارة عدم حجيتها.

الثاني: ما اشار اليه بقوله: «فلا أقل ... الى آخره» و حاصله: هو قيام الاجماع على عدم اضمحلال الحكم الواقعي بقيام الامارة، لان الاجماع قائم على انه في حال العلم بوجود الامارات المعتبرة انه لو قطعنا بالحكم الواقعي كان قطعنا مجديا في لزوم التعويل على ما قطعنا به، و ان الاتيان بما قطعنا به مجز موجب للتنجز عند الاصابة و للعذر عند الخطأ، و لو كان التكليف الواقعي مضمحلا لما كان القطع به موجبا للاجزاء، فقيام الاجماع على الاجزاء مع علمنا بجعل الامارة مما يدل بوضوح على عدم اضمحلال الاحكام الواقعية و انصرافها الى ما قامت عليه الامارة، فانه لو صحّ الاضمحلال لكان القطع بالحكم الواقعي لا اثر له، و انما الاثر يكون لخصوص القطع بكون الحكم مؤدى طريق معتبر، مع ان الاجماع قائم على الاجزاء فيما لو قطعنا بحكم واقعي مع القطع بانه لا طريق معتبر يؤدّى اليه.

و الى هذا اشار بقوله: «فلا اقل من كونه مجمعا على بطلانه»، و يدل على قيام الاجماع على بطلان الاضمحلال هو قيام ال «ضرورة» على «ان القطع بالواقع يجدي في الاجزاء» بالواقع «بما هو واقع» كان القطع طريقا اليه لا موضوعا فيه، و لذا قال: «لا بما هو مؤدى طريق القطع» ليكون القطع موضوعيا فيكون الاجزاء

ص: 145

و من هنا انقدح أن التقييد أيضا غير سديد (1)، مع أن الالتزام بذلك غير مفيد، فإن الظن بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفك عن

______________________________

مستند الى موضوعية القطع بالواقع لا الى الواقع، فلا يكون الاجماع منافيا للاضمحلال.

و الحاصل: ان الاجماع قائم على ان القطع بالواقع كاف و مجد في الاتيان بالواقع، و لو كان الحكم الواقعي مضمحلا لما اجدى القطع بالواقع، و كون القطع موضوعيا لازمه الاجزاء لو انكشف الخلاف.

و لكنك قد عرفت ان الاجماع قائم على الاجزاء مع فرض الالتفات الى الطريقية، و لذا لو انكشف الخلاف و جبت الاعادة في الوقت لخطأ الطريق.

(1) لا يخفى ان هذين الايرادين كما يردان على الاضمحلال يردان على التقييد ايضا، لوضوح انه على فرض التقييد ايضا يلزم من حجية الامارة عدم حجيتها، لاخذ الشك في الحكم الواقعي موضوعا في الامارة، و مع التقييد للاحكام الواقعية الفعلية بقيام الامارة لا اثر للحكم الواقعي من ناحية كون الامارة طريقا اليه، بل يكون الحكم الواقعي حقيقة هو مؤدّى الامارة، و مع القطع بكون المؤدّى للامارة هو الحكم الواقعي لا بد من ارتفاع الشك بالحكم الواقعي بقيام الامارة، لحصول القطع بالحكم الواقعي، و من الواضح عدم امكان كون الحكم الواقعي- الذي له الاثر واقعا- مشكوكا به و مقطوعا في آن واحد.

و ايضا قيام الاجماع على الاجزاء بالاتيان الواقع في حال تعلق القطع به بما هو طريق دليل على عدم تقييد الاحكام الواقعية بمؤدى الطريق، و إلّا لكان الاجزاء مستندا الى الاتيان بالحكم الواقعي بما هو مؤدى القطع لا بما هو حكم واقعي كان القطع طريقا اليه.

و الى هذا اشار بقوله: «و من هنا انقدح ان التقييد ايضا غير سديد».

ص: 146

الظن بأنه مؤدى طريق معتبر (1)، و الظن بالطريق ما لم يظن بإصابة الواقع غير مجد بناء على التقييد، لعدم استلزامه الظن بالواقع المقيد به بدونه (2).

______________________________

(1) هذا هو الايراد الثالث المختص بالتقييد، و حاصله: ان الالتزام بالتقييد لا يفيد في اختصاص نتيجة مقدمات الانسداد بخصوص الظن بالطريق، لان الظن بالطريق يلازم الظن بالواقع في التكاليف العامة البلوى، و وجه اختصاصه بالتقييد دون الاضمحلال انه بناء على الاضمحلال لا واقع حتى يكون بينه و بين الطريق ملازمة، بل لا يكون هناك شي ء سوى الحكم الذي قام عليه الطريق.

و اما وجه التلازم فهو ان التكاليف العامة البلوى عادة لا بد و ان يكون قد قامت عليها الطرق المنصوبة من الشارع المعتبرة عنده، لتوفّر الدواعي الى نقلها لكثرة الابتلاء بها، فلا بد و ان تكون هي معقد الاجماعات و مؤدى الاخبار الموثوقة الصحيحة، فالظن بحجية الخبر يلازم الظن بكون مؤدّاه هو الواقع، فلا تظهر نتيجة لاختصاص الحجية بالطريق، و لذا قال (قدس سره): «مع ان الالتزام بذلك» أي بالتقييد «غير مفيد» في كون النتيجة هي اختصاص الحجية بالطريق دون الواقع «فان الظن بالواقع فيما ابتلي به» المكلف «من التكاليف» العامة البلوى «لا يكاد ينفك عن الظن بانه مؤدى طريق معتبر».

(2) هذا ايضا ما يختص بالتقييد، و هو الايراد الرابع.

و حاصله: ان معنى التقييد هو التركيب من الواقع و الطريق، و لو بنحو ان يكون التقييد داخلا و القيد خارجا، فاذا كان الظن متعلقا بالطريق فلا بد و ان يكون متعلقا بطريق مقيد بكونه مؤدّيا الى الواقع، فانه لو تعلّق الظن بطريق غير مظنون الأداء الى الواقع، لا يكون ذلك متعلقا بما هو الحجة المنصوبة من الشارع، لفرض كونه منصوبا مقيدا بالواقع، فاذا ظننا بطريق انه من الطرق المجعولة فلا بد و ان نظن بكونه مؤدّيا للواقع لفرض تقييده بالواقع، و اذا ظننا بواقع هو مؤدى طريق معتبر قد جعله

ص: 147

.....

______________________________

الشارع طريقا اليه فقد حصل كلا جزأي المركب، لوضوح حصول الظن بحكم له طريق معتبر، اما معرفته بعينه فليس بداخل في المركب الذي هو الموضوع.

و لازم هذا هو عدم اختصاص النتيجة بناء على التقييد بالظن بالطريق، بل لا بد من شمولها للظن بالواقع الذي نظن بانه له طريق معتبر و ان لم نعرف طريقه بعينه.

و ما ذكره من كون الظن بحكم قد ظن بان له طريقا لم نعرفه فيه خارجا عن دائرة المعلوم بالاجمال، لعدم وصول الطريق فغير صحيح، لان الموضوع على الفرض هو الحكم الواقعي الذي له طريق معتبر، و عدم معرفته بعينه لازمه عدم وصوله تفصيلا لا عدم وصوله اجمالا، و هذا الوصول الاجمالي يتحقق به الموضوع و هو الحكم الواقعي الذي قام عليه طريق معتبر.

فاتضح انه بناء على التقييد لا تختص نتيجة الانسداد بخصوص الظن بالطريق، بل لا بد من شمولها- بناء على التقييد- للظن بالواقع الذي يظن بانه له طريق معتبر.

نعم هي لا تشمل الظن بالواقع الذي ظن بانه ليس له طريق معتبر.

و على كل فلا تختصّ النتيجة- بناء على التقييد- بخصوص الظن بالطريق كما هو مدعى الفصول، بل لا بد من شمولها للظن بالواقع الذي يظن بانه له طريق معتبر و ان لم نعرف طريقه بعينه، لان المجعول- بناء على التقييد- هو الطريق المتعلق بالواقع، فكما ان الظن يكون طريقا كافيا في براءة الذمة كذلك الظن بالواقع الذي له طريق معتبر كاف في براءة الذمة، و هذا كله لاجل التقييد الموجب للملازمة و عدم انفكاك الظنين و الى هذا اشار بقوله: «و الظن بالطريق ما لم يظن باصابة» الطريق «الواقع غير مجد بناء على التقييد» لفرض كون موضوع الحجية هو الطريق المؤدّى الى الواقع، فالظن بالطريق ما لم يظن بكونه مؤدّيا للواقع لا يكون من دائرة الظنون المتعلق بها العلم الاجمالي الثاني- بناء على التقييد- فان متعلق العلم الاجمالي الثاني هو انه لنا طرق مجعولة من الشارع الى الاحكام الواقعيّة، فالظن بالطريق غير المظنون كون مؤدّاه هو الواقع يكون خارجا عن دائرة هذا العلم الاجمالي، فكما ان

ص: 148

هذا مع عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف و لا على التقييد (1)، غايته أن العلم الاجمالي بنصب طرق وافية يوجب انحلال العلم بالتكاليف الواقعية إلى العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف

______________________________

الظن بالطريق الداخل في هذه الدائرة هو الظن المتعلق بطريق يظن بانه يؤدي الى الواقع يكون حجة في حال الانسداد، فكذلك لا بد و ان يكون الظن بالواقع المظنون كونه له طريق معتبر يكون ايضا حجة في حال الانسداد لدخوله في دائرة هذا العلم الاجمالي.

نعم لا بد من خروج الظن الذي لا نظن بكون مؤدّاه هو الواقع عن دائرة هذا العلم الاجمالي و لذا قال (قدس سره): «لعدم استلزامه» أي لعدم استلزام الظن بالطريق الذي لا يظن بان مؤدّاه هو الواقع «الظن بالواقع المقيد به» أي الطريق «بدونه» أي بدون الظن بان مؤداه هو الواقع، لان المفروض انه جزء الموضوع بناء على التقييد.

و اذا كان الامر كذلك فلا اختصاص للظن بالطريق، بل لا بد من شموله للظن بالواقع الذي يظن بانه له طريق معتبر و ان لم نعرفه بعينه.

(1) هذا خامس الايرادات و هو مشترك الورود على الاضمحلال و على التقييد.

و حاصله: ما مر تحقيقه من وجود الاحكام الواقعية المشتركة بين من قامت عنده الطرق، و من لم تقم عنده الطرق، و هو الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، و ان ادلة الطرق انما تساعد على كونها طريقا محضا الى الواقع من دون موضوعية لها اصلا.

و بعبارة اخرى: ان المختار للمصنف بحسب ما تساعده الادلة الدالة على الجعل هو الطريقية دون الموضوعية، و لازم الاضمحلال و التقييد هو الموضوعية، و هو واضح، و لذا قال: «هذا مع عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف» أي الاضمحلال «و لا على التقييد» للاحكام الواقعية بالطرق القائمة عليها.

ص: 149

الفعلية، و الانحلال و إن كان يوجب عدم تنجز ما لم يؤد إليه الطريق من التكاليف الواقعية، إلا أنه إذا كان رعاية العلم بالنصب لازما، و الفرض عدم اللزوم، بل عدم الجواز. و عليه يكون التكاليف الواقعية، كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب في كفاية الظن بها حال انسداد باب العلم، كما لا يخفى، و لا بد حينئذ من عناية أخرى في لزوم رعاية الواقعيات بنحو من الاطاعة، و عدم إهمالها رأسا كما أشرنا إليه، و لا شبهة في أن الظن بالواقع لو لم يكن أولى حينئذ لكونه أقرب في التوسل به إلى ما به الاهتمام من فعل الواجب و ترك الحرام، من الظن بالطريق، فلا أقل من كونه مساويا فيما يهم العقل من تحصيل الأمن من العقوبة في كل حال (1)، هذا مع ما عرفت من أنه عادة يلازم الظن بأنه مؤدى طريق،

______________________________

(1) قد عرفت ان كلام الفصول لا يجوز ان يحمل على ما يستلزم التصويب المحض و انه لا حكم واقعي الّا ما قامت عليه الامارة، لتصريحه بالعلم الاجمالي الاول و ان متعلقه هي الاحكام الواقعيّة.

و لكنه يحتمل ان يكون مرتبا على الاضمحلال او التقييد، و قد عرفت حالهما لو كان مراد الفصول ذلك.

و لا يخفى ان الانصاف انه ايضا بعيد عن مذاق الفصول، فالانصاف ان كلام الفصول لا يريد به الّا الاحتمال الرابع، و هو انه لنا علم اجمالي بتكاليف واقعية و لنا علم اجمالي ثان بطرق منصوبة من الشارع مؤدّية الى الاحكام الواقعية وافية بمعظم الفقه، فينحل العلم الاجمالي الاول بهذا العلم الاجمالي الثاني، و تكون النتيجة هي حجية خصوص الظن بالطريق كما مرّ بيان ذلك عند ذكر المقدمتين المذكورتين في كلامه المتقدم مبرهنا بهما على ما ادعاه من كون لازم ذلك هو اختصاص حجية الانسداد بالظن بالطرق دون الظن بالواقع.

ص: 150

.....

______________________________

و ينبغي- قبل الشروع في ما يرد عليه- بيان الفرق بين كلام الفصول هنا، و الدليل العقلي المتقدم الاول الذي اقاموه على حجية الخبر.

و حاصل الفرق بينهما هو: ان الدليل هو وجود العلم الاجمالي الاول بالتكاليف الواقعية، و العلم الاجمالي الثاني هو وجود معظم تلك التكاليف في ضمن الاخبار التي بأيدينا من دون ضم اعتبار الشارع لبعض الاخبار أو لجلّها، فحينئذ يمكن ان يدعى عدم انحلال العلم الاجمالي الاول بالعلم الثاني، كما مرّ دعوى ذلك من ان العلم بوجود تكاليف فيما بأيدينا من الاخبار لا يحلّ العلم الاجمالي الاول، لبقاء العلم الاجمالي الاول بعد الاخذ بما في الاخبار، بدعوى انه بعد ذلك لنا علم اجمالي بتكاليف واقعية في ضمن غير الاخبار من الاجماعات المنقولة و الشهرات.

فاتضح مما ذكرنا: انه يمكن ان يدعى ان العلم بالتكاليف في مقامين لا يقتضي الانحلال.

و اما في المقام فانه لا بد من الانحلال لضم اعتبار الشارع للامارات الخاصة المؤدّية الى الاحكام الواقعيّة، فيدور الامر مدار العلم الاجمالي الثاني في المقام لانحلال العلم الاجمالي الاول به، لان الاحكام الواقعية الفعلية هي الموجود في ضمن الامارات التي اعتبرها الشارع، فيدور الامر مدار هذا العلم الاجمالي الثاني.

هذا غاية ما يمكن ان يدعى في تقريب ما اراده الفصول: من ان الانحلال موجب لحجية الظن بخصوص الطريق، لان الاحكام الواقعية التي لم تقم عليها امارة تكون خارجة عن دائرة العلم الاجمالي الثاني، و الظن باعتبار الطريق لا يلازم الظن بالحكم الواقعي الذي هو مؤدّاه، لان الظنون نوعية لا شخصية حتى تكون ملازمة بين الظن بالطريق و الظن بكون مؤدّاه هو الواقع.

و منه يتضح خروج الحكم الواقعي الذي يظن بانه قد قام عليه طريق معتبر، لانه لا يوجب إلّا ظنا بدخوله في دائرة العلم الاجمالي الثاني، و لا بد من القطع بكونه داخلا في دائرة العلم الاجمالي، و لا يفيد الظن بدخوله في دائرة العلم الاجمالي

ص: 151

.....

______________________________

المنجز، فلذلك تنحصر الحجية بخصوص الظن بالطريق بكونه من الظنون الخاصة المعتبرة عند الشارع.

و الجواب عنه: هو ان غاية ما يقتضيه هذا الانحلال هو منجزية العلم الاجمالي الثاني، و قد مرّ- فيما سبق- من ان العلم الاجمالي اذا لم تجب موافقته لا تحرم مخالفته، لمحالية التفكيك بين وجوب الموافقة القطعية و حرمة المخالفة القطعية، و متى لم تجب الموافقة القطعية لا تحرم المخالفة القطعية.

و حيث لا يجب الاحتياط في دائرة هذا العلم الاجمالي لفرض لزوم العسر المرفوع اما عقلا او بأدلة رفع الحرج، فلا يكون هذا العلم الاجمالي منجزا في دائرته، و لزوم الامتثال مستند الى الاجماع القائم على لزوم التعرّض لامتثال احكام المولى و عدم جواز اهمالها، و لما كان هذا هو الموجب للتعرّض للامتثال، و لا فرق في براءة الذمة عقلا عن هذا الوجوب المستفاد من الاجماع بين الظن بالطريق المعتبر او الظن بالحكم الواقعي، و لذلك كانت نتيجة الانسداد هي الاعم من دون اختصاص لها بواحد من الظنين.

و قد اشار الى ان هذا العلم الاجمالي يوجب الانحلال و اختصاص الاحكام الواقعية المنجزة بخصوص ما أدّت اليه الطرق، و خروج الاحكام الواقعية التي لم يؤدّ اليها طريق لو كان هذا العلم منجزا بقوله: «غايته» أي غاية هذا الاحتمال الرابع هو «ان العلم الاجمالي بنصب طرق وافية» الذي هو العلم الاجمالي الثاني «يوجب انحلال العلم» الاجمالي الاول المتعلق «بالتكاليف الواقعية الى» الثاني و هو «العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعلية و» هذا «الانحلال و ان كان يوجب عدم تنجز ما لم يؤدّ اليه الطريق من التكاليف الواقعية» لكونه على هذا الفرض من الانحلال يكون خارجا عن دائرة العلم الاجمالي المنجز «الّا انه» انما يتمّ و تكون النتيجة منحصرة في خصوص الظن بالطريق فيما «اذا كان رعاية العلم بالنصب لازما» بان يكون الموجب للامتثال هو تنجز هذا العلم الاجمالي.

ص: 152

.....

______________________________

و اما اذا لم يكن منجزا و لا تجب رعايته لعدم امكان التفكيك، فلا يكون موجبا لتلك النتيجة التي ادعاها في الفصول من الاختصاص «و الفرض عدم اللزوم» لرعاية هذا العلم الاجمالي لأدلة العسر «بل عدم الجواز» فيما اذا كان الاحتياط موجبا للاختلال.

«و عليه» أي و على هذا الفرض من عدم تنجز العلم الاجمالي في لزوم الموافقة القطعية فلا يكون موجبا لتنجز حرمة مخالفتها و «يكون» على هذا «التكاليف الواقعية» الاولية غير منحلة الى هذا العلم الثاني، بل يكون حالها «كما اذا لم يكن علم بالنصب» في عدم الانحلال «و لا بد حينئذ من عناية اخرى» للزوم امتثالها و التعرض ل «لزوم رعاية الواقعيات بنحو من الاطاعة و عدم اهمالها رأسا» و هذا هو الموجب لرعاية امتثالها.

و اذا كان هذا هو الموجب، و حيث فرض عدم امكان الاحتياط في مقام امتثالها فلا بد من التنزّل الى ما هو مبرئ للذمة في امتثالها، و هو اعم من الاتيان بمؤدى الطريق المظنون اعتباره، او بما هو المظنون انه حكم واقعي.

و لما كان العلم الاجمالي الاول غير منحل الى الثاني و هو الذي يجب رعاية التعرّض لامتثاله بنحو من انحاء الامتثال لا لمنجزيّته، بل للاجماع و الضرورة القائمين على عدم جواز اهمال الاحكام الواقعية، فلا بد و ان الظن بالواقع مع التنزّل اليه و الاكتفاء به اولى من الظن بالطريق، لانه اتيان للحكم المظنون، بخلاف الظن بالطريق فانه اتيان لما يبرئ الذمة و ان لم يكن مؤداه حكما واقعيا، و اذا لم يكن اولى فلا اقل من المساواة.

و الى هذا اشار بقوله: «و لا شبهة ان الظن بالواقع لو لم يكن اولى» من الظن بالطريق «حينئذ لكونه» أي الظن بالواقع «اقرب في التوسل به الى ما به الاهتمام من فعل الواجب و ترك الحرام» و هو لزوم التعرض لاتيان الاحكام الواقعية لانه ظن باتيان الاحكام الواقعية دون الظن بالطريق فانه يوجب البراءة دون الظن باتيان

ص: 153

و هو بلا شبهة يكفي و لو لم يكن هناك ظن بالطريق، فافهم فإنه دقيق (1).

ثانيهما: ما اختص به بعض المحققين، قال: لا ريب في كوننا مكلفين بالاحكام الشرعية، و لم يسقط عنا التكليف بالاحكام الشرعية، و أن الواجب علينا أولا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به، و سقوط تكليفنا عنا، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا، حسبما مر تفصيل القول فيه، فحينئذ نقول: ان صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمتنا في حكم الشارع فلا اشكال في وجوبه و حصول البراءة به، و ان انسد علينا سبيل العلم كان الواجب علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه، اذ هو الاقرب الى العلم به، فيتعين الاخذ به عند التنزل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم و القطع ببقاء التكليف دون ما يحصل معه الظن بأداء الواقع

______________________________

الحكم الواقعي، فالاتيان بالواقع المظنون اقرب «من الظن بالطريق»، و لو لم يكن اولى «فلا اقل من كونه» أي الظن بالواقع «مساويا» للظن بالطريق «فيما يهمّ العقل من» لزوم «تحصيل الأمن من العقوبة».

(1) حاصله الاشارة الى الايراد السابق، و هو انه على فرض تسليم المقدمتين و اقتضائهما الانحلال الّا ان النتيجة لا تقتضي الاختصاص بخصوص الظن بالطريق، بل تشمل الظن بالواقع الذي يظن بانه قد قام عليه طريق معتبر و ان لم نعرفه بعينه.

و من الواضح ان الظن بالحكم الواقعي حيث انه انما يحصل من الامارات التي بأيدينا فلا بد و ان يكون الظن به ملازما للظن بان له طريقا معتبرا، و قد عرفت انه لا يلزم معرفة الطريق بعينه ... فتكون النتيجة هو الاتيان بمؤدى ما قام عليه الطريق المعتبر كما هو واضح.

ص: 154

الوجه الثاني على اختصاص النتيجة بالظن بالطريق
اشارة

كما يدعيه القائل باصالة حجية الظن .. انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه (1).

______________________________

(1) هذا هو الدليل الثاني الذي اختص به المحقق صاحب الهداية(1) في كون نتيجة الانسداد هي حجية الظن بالطريق دون الظن بالواقع، و هو مركب من مقدمات ثلاث:

الاولى: ان لنا احكاما واقعية فعلية لا بد من فراغ ذمتنا عنها، و لم يسقط بالانسداد لزوم فراغ ذمتنا عنها، بل هي باقية على فعليتها.

و الى هذه المقدمة اشار بقوله: «لا ريب في كوننا مكلفين بالاحكام الشرعية و لم يسقط عنا التكليف بالاحكام الشرعية».

الثانية: ان طريق فراغ الذمة امران: العلم بادائها، و حكم المكلّف- أي الشارع- بتفريغ الذمة عن ادائها.

و المهمّ هو الثاني، لان العلم بتفريغ الذمة بحيث لا يتطرقه احتمال عدم اداء الواقع، بحيث لا نحتاج الى اصل أو قاعدة تقتضي فراغ الذمة كالتمسك بالظهور و امثالها نادر جدا، فالمهمّ هو الثاني، و الثاني لازم جعل الطريق من الشارع، فانه اذا جعل لنا طريقا الى الواقع فسلكناه فلا بد من فراغ ذمتنا بسلوكه عند الشارع، و الّا فلا فائدة من سلوكه، فلازم جعل الطريق من الشارع المكلّف بالاحكام هو حكمه بفراغ ذمتنا اذا سلكنا الطريق الذي جعله، سواء علمنا بان مؤدى هذا الطريق هو الحكم الواقعي ام لا، فان الشارع الجاعل للاحكام الواقعية اذا جعل لنا طريقا اليها فلا بد من حكمه بفراغ ذمة من سلك ذلك الطريق، لان لازم قوله هذا طريقي الى احراز احكامي هو حكمه بان من سلك طريقه فقد فرغت ذمته من تكاليفه الواقعية التي جعل لها طريقا منه، و هذا واضح لا خفاء فيه، فملازمة حكم المكلّف- أي

ص: 155


1- 11. ( 1) هداية المسترشدين، ص 391.

.....

______________________________

الشارع- ببراءة ذمة من سلك طريقه المجعول الى احكامه لجعله للطريق هي ملازمة الزوجية للاربعة.

و الى هذه اشار بقوله: «و ان الواجب علينا اولا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلّف» أي الشارع «بان يقطع» العبد «معه بحكمه» أي الشارع «بتفريغ ذمتنا عمّا كلّفنا به و سقوط تكليفنا عنا» و ذلك يكون بإتياننا مؤدّى ما علمنا انه طريق شرعي قد جعله الشارع طريقا لاحكامه «سواء حصل» لنا «العلم معه» أي مع الاتيان بمؤدّاه بإتياننا «الواقع اولا حسبما مرّ تفصيل القول فيه» لما عرفت من الملازمة بين جعل الطريق و حكم الشارع بفراغ ذمة من سلكه.

الثالثة: انه ان قلنا بالانفتاح و معرفة الطرق المجعولة، فحينئذ يصح لنا العلم بتفريغ ذمتنا في حكم الشارع لإتياننا بمؤدى الطرق المجعولة، و يجب علينا تحصيل هذا الفراغ لذمتنا المشغولة بالاحكام و به تحصل البراءة قطعا عمّا كلفنا به من الاحكام، و ان انسد علينا سبيل العلم بمعرفة الطرق الشرعية المجعولة كان الواجب علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكم الشارع، لانه بعد عدم امكان تحصيل اليقين بفراغ الذمة و عدم وجوب الاحتياط بل حرمته في بعض الاحيان فلا بد من التنزل من تحصيل اليقين بالفراغ الى الظن بالفراغ، و ذلك يكون باتيان مؤدّى ما ظننا انه هو الطريق المجعول فيتعيّن الاخذ به، و تكون نتيجة الانسداد هي حجة الظن بالطريق دون الظن بالواقع، لانه باتيان ما ظننا انه هو الواقع من دون ان يكون مؤدى طريق مظنون الاعتبار لا يحصل لنا الظن ببراءة الذمة بحكم الشارع.

و الى هذه المقدمة الثالثة اشار بقوله: «فحينئذ نقول ان صح لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمتنا ... الى آخر كلامه زيد في علو مقامه».

و الى ما ذكرناه اخيرا من عدم الفائدة باتيان ما يحصل الظن منه باتيان الواقع اشار بقوله: «دون ما يحصل معه الظن باداء الواقع كما يدعيه القائل باصالة حجية

ص: 156

المناقشة في كلام المحقق صاحب حاشية المعالم (قده)

و فيه أولا: إن الحاكم على الاستقلال في باب تفريغ الذمة بالاطاعة و الامتثال إنما هو العقل، و ليس للشارع في هذا الباب حكم مولوي يتبعه حكم العقل، و لو حكم في هذا الباب كان بتبع حكمه إرشادا إليه، و قد عرفت استقلاله بكون الواقع بما هو مفرغ، و أن القطع به حقيقة أو تعبدا مؤمن جزما، و أن المؤمن في حال الانسداد هو الظن بما كان القطع به مؤمنا حال الانفتاح، فيكون الظن بالواقع أيضا مؤمنا حال الانسداد (1).

______________________________

الظن» في الانسداد مطلقا سواء باتيان مؤدى الطريق المظنون او باتيان ما ظن انه هو الواقع.

(1) هذا هو الجواب الاول عن دعوى شيخ المحققين من اختصاص نتيجة الانسداد بحجية الظن بالطريق دون الاعم منه و من الظن بالواقع، و هو المناقشة في المقدمة الثانية، و انه يجب علينا تحصيل الفراغ لذمتنا بحكم المكلّف أي الشارع.

و حاصله: انه ليس للشارع حكم بتفريغ الذمة، و ان الحاكم بتفريغ الذمة مطلقا هو العقل كما انه هو الحاكم بشغل الذمة، و لا يعقل ان يكون للشارع حكم مولوي بما هو مولى و شارع في مقام براءة ذمة العبد باطاعته لما أمره به و نهاه عنه، لما حقق في مقامه من ان حكم الشارع في باب الاطاعة و العصيان ارشادي لا مولوي، و لو كانت اوامر الاطاعة مولوية لادّى ذلك الى التسلسل او الى الترجيح من دون مرجح، لوضوح ان اوامر الاطاعة لو كانت مولوية لكانت بما هي صادرة من المولى تحتاج الى اطاعة أيضا و هلم جرا ... فيجي ء التسلسل، او نقول بان احدها بخصوصه مولوي و الباقي ارشادي فيلزم الترجيح من دون مرجح.

فاتضح انه ليس للشارع بما هو شارع حكم ببراءة الذمة، بل هو من احكام العقل المنتزعة باتيان ما امر المولى باتيانه، و الى هذا اشار بقوله: «و ليس للشارع في هذا الباب» أي في باب تفريغ الذمة و الحكم باتيان ما شغلت الذمة به «حكم مولوي» من الشارع بما هو مولى و شارع و مكلّف للعبد باحكامه بحيث يكون «يتبعه

ص: 157

و ثانيا: سلمنا ذلك، لكن حكمه بتفريغ الذمة- فيما إذا أتى المكلف بمؤدى الطريق المنصوب- ليس إلا بدعوى أن النصب يستلزمه، مع أن دعوى أن التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ فيما إذا أتى به أولى، كما لا يخفى، فيكون الظن به ظنا بالحكم بالتفريغ أيضا (1).

______________________________

حكم العقل» بتفريغ الذمة «و لو حكم» الشارع في هذا الباب بتفريغ الذمة «كان يتبع حكمه» أي كان حكمه يتبع حكم العقل و كان «ارشادا» منه «اليه» أي الى حكم العقل.

ثم اشار المصنف الى ما مرّ منه من البرهان على عموم النتيجة في باب الانسداد لما يشمل الظن بالواقع و الظن بالطريق، بعد كون العقل هو الحاكم المستقل في هذا الباب، و انه يرى ان الحال في الانسداد على طبق الحال في الانفتاح، فكما في الانفتاح يكون القطع بالاتيان بالواقع حقيقة او تعبدا مبرئا للذمة كذلك الحال في الانسداد، و لازمه كون الظن باتيان الواقع مبرئا للذمة في الانسداد، كما ان الظن بالاتيان بمؤدى الطريق المظنون اعتباره ايضا مبرئ للذمة، غاية الامر انه تعبد لا حقيقة، و ذلك بقوله: «و ان المؤمن في حال الانسداد هو الظن بما كان القطع به مؤمنا في حال الانفتاح ... الى آخر الجملة».

(1) هذا هو الجواب الثاني، و حاصله: انه سلّمنا ان الحاكم ببراءة الذمة و فراغها هو الشارع المكلّف دون العقل مستقلا، و ان السبب في حكم الشارع ببراءة ذمة من سلك الطريق الذي جعله طريقا لاحكامه ليس هو إلّا ان لازم نصب الطريق ذلك، لان اتيان العبد بمؤدى الطريق المجعول هو كل ما يستطيعه العبد في مقام امتثاله للحكم الواقعي المنجز عليه، و بهذا المناط نقول انه لا بد من حكم الشارع ايضا ببراءة ذمة من اتى بالواقع ايضا، لانه كل ما يستطيعه العبد في الاتيان بالحكم الواقعي المنجز عليه.

و الى هذا اشار بقوله: «مع ان دعوى ان التكليف بالواقع» الفعلي المنجز «يستلزم» ايضا «حكمه» أي حكم الشارع بالتفريغ للذمة ايضا «فيما اذا اتى»

ص: 158

إن قلت: كيف يستلزمه الظن بالواقع؟ مع أنه ربما يقطع بعدم حكمه به معه، كما إذا كان من القياس، و هذا بخلاف الظن بالطريق، فإنه يستلزمه و لو كان من القياس (1).

______________________________

العبد «به» أي بالواقع، بل حكم الشارع بتفريغ الذمة في مقام الاتيان بالواقع «اولى» لان المفروض في كلامه (قدس سره) كون الغاية من الطرق المجعولة هي المحافظة على الواقع و لاجل الاتيان بالواقع، و لازم ذلك كون الاتيان بالواقع أولى في حكم الشارع بتفريغ ذمة العبد من إتيانه بمؤدّى الطريق، لان المفروض انه اتيان للواقع التي كان غاية جعل الطريق هو الايصال اليه، و لما كان المفروض الانسداد و ان المدار على الظن بفراغ الذمة «فيكون» النتيجة «ان الظن به» أي بالواقع «ظنا بالحكم» من الشارع «بالتفريغ ايضا».

(1) حاصله: ايجاد الفرق بين الظن بالواقع و الظن بالطريق، و ان الظن بالواقع لا يستلزم حكم الشارع بالفراغ، بخلاف الظن بالطريق فانه ملازم لحكم الشارع بالفراغ، فكيف يكون الظن بالواقع اولى في الحكم بالمفروغية من الظن بالطريق.

و حاصل هذا الفرق هو: ان الظن بالواقع ربما يكون حاصلا من القياس، و من الواضح ان لازم نهي الشارع عن العمل بالقياس هو عدم حكمه بمفروغية الذمة في اتباع القياس بما يؤدّي اليه من الحكم الواقعي، و لا يشمل النهي عن القياس للقياس المؤدّى الى حجية طريق، لان المفروض اداؤه الى حجية طريق شرعي، لا ان الظن القياسي هو طريق شرعي، و فرق واضح بين كون الظن القياسي طريقا الى حكم شرعي و بين كونه قائما على حجية طريق شرعي، و من الواضح ايضا ان النهي عن القياس لو كان شاملا للظن بالطريق لما حصل من القياس ظن بحجية طريق شرعي.

فاتضح ان ادلة النهي عن القياس لا تشمل القياس المؤدّي الى حجية طريق شرعي، و مع عدم شمول ادلة النهي لذلك يكون فرق بين الظن القياسي المتعلق بحجية طريق، و بين الظن القياسي المتعلق بحكم شرعي، و يكون الظن المتعلق بحجية

ص: 159

قلت: الظن بالواقع أيضا يستلزم الظن بحكمه بالتفريغ، و لا ينافي القطع بعدم حجيته لدى الشارع، و عدم كون المكلف معذورا- إذا عمل به فيهما- فيما أخطأ، بل كان مستحقا للعقاب- و لو فيما أصاب- لو بنى على حجيته و الاقتصار عليه لتجرّيه، فافهم (1).

______________________________

طريق شرعي مستلزما لحكم الشارع بفراغ الذمة، دون الظن القياسي المتعلق بحكم شرعي فانه يكون مشمولا لادلة النهي عن القياس، التي قد عرفت ان لازمها عدم حكم الشارع بمفروغية الذمة في الاكتفاء بالحكم الشرعي الحاصل من القياس، و لذا قال (قدس سره): «ان قلت كيف يستلزم الظن بالواقع» الظن بحكم الشارع بالمفروغية «مع انه» أي المكلف «ربما يقطع بعدم حكمه» أي بعدم حكم الشارع «به» أي بالفراغ «معه» أي مع الاتيان بالحكم المظنون انه حكم واقعي «كما اذا كان» الظن بالحكم الواقعي حاصلا «من القياس و هذا بخلاف الظن بالطريق» الذي أدّى الى طريقيّة القياس «فانه يستلزمه» أي يستلزم حكم الشارع بالفراغ «و لو كان» الظن بحجية الطريق كان حاصلا «من القياس».

(1) حاصل الجواب: ان الظن بالواقع الحاصل من القياس ايضا يستلزم الظن بحكم الشارع بمفرغية الذمة، لان النهي عن الظن القياسي ظاهر في كونه نهيا طريقيا عن القياس، لعلم الشارع بخطإ القياس غالبا، لا لموضوعية في القياس موجبة لمفسدة في متعلق الظن الحاصل من القياس، و على هذا فاذا حصل ظن بالواقع من القياس فلازمه الظن بكون القياس في هذه الحالة غير مظنون الخطأ، بل مظنون الاصابة، و لازمه الظن بفراغ الذمة في هذه الحالة في حكم الشارع، لفرض كونه ظنا بالمفرّغية في حال الانسداد.

فلا فرق بين الظن القياسي المتعلق بحكم واقعي او بحجية طريق شرعي في كون كلّ منهما في حال الانسداد مستلزما للظن بحكم الشارع بالمفرّغية.

ص: 160

.....(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 6 ؛ ص161

______________________________

و الحاصل: ان النهي عن القياس- بناء على الطريقيّة- لا ينافي الظن بالمفرّغية، لانه ظن فعلي بالاصابة، و انما ينافي الحكم بالمفرّغية على تقدير الخطأ و التخلف عن الواقع، و مع الظن بالواقع- فعلا- فلا بد من الظن بالاصابة فعلا.

و بعبارة اخرى: ان المنافي للظن بالفراغ هو القطع بعدم الفراغ، و القطع بعدم الفراغ انما يكون في فرض الخطأ و التخلف، و معنى عدم الحجية لشي ء- بناء على الطريقيّة- ليس هي عدم الاصابة واقعا، بل هي عدم المعذّرية عند الخطأ.

و دعوى عدم شمول ادلة النهي عن القياس للقائس المؤدي الى حجية طريق شرعي واضحة الفساد، فانه اذا كان النهي عن القياس طريقيا فلا فرق بين كونه مؤديا الى حكم شرعي او الى طريق شرعي، و اذا كان الظن القياسي القائم على طريق شرعي مستلزما للظن بالفراغ على الفرض، فلا بد و ان يكون الظن القياسي المؤدّي الى حكم شرعي ايضا كذلك، فهما على حد سواء.

و من الواضح ايضا ان القياس القائم على طريق لا يكون سلوكه موجبا للظن بالمعذّر الجعلي، لفرض كونه قياسا منهيا عنه، و لا يكون موجبا للظن بالمعذّر عند الشارع، و ان كان مستلزما للظن بالفراغ لاحتمال الخطأ غير المعذور فيه عند الشارع.

فاتضح عدم الفرق بين الظن بالواقع الحاصل من القياس و بين الظن بالطريق الحاصل من القياس، و هما سواء في استلزام الظن بحكم الشارع بالفراغ، و لا فرق بينهما اصلا و ان سلوك الظن القياسي غير معذّر على فرض الخطأ و التخلّف، و انه من التجري حيث ان مخالفة النهي الطريقي كمخالفة الامر الطريقي خروج عن زي الرقية و مراسم العبودية.

و قد اشار الى هذا بقوله: «و لا ينافي القطع بعدم حجيته» أي إن الظن الحاصل من القياس مستلزم للظن بالبراءة و ان قطعنا بعدم حجيته لدى الشارع، لان الملازمة هي بين الظن بكونه حكما واقعيا و الظن بالبراءة باتيانه، و لا منافاة بينه و بين القطع بعدم حجية هذا الظن، فان القطع بعدم الحجية ينافي القطع بالبراءة دون الظن

ص: 161


1- 12. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

و ثالثا: سلمنا أن الظن بالواقع لا يستلزم الظن به، لكن قضيته ليس إلا التنزل إلى الظن بأنه مؤدى طريق معتبر، لا خصوص الظن بالطريق، و قد عرفت أن الظن بالواقع لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى الطريق غالبا (1).

______________________________

بالبراءة، فان البراءة بعد ان كانت معلقة باتيان الواقع و ان النهي عن اتباع القياس طريقي لا موضوعي، و المفروض ان ما يؤتى به مظنون الواقعية، فلا بد و ان يكون مظنون البراءة ايضا، و ايضا لا ينافي الظن بالبراءة عدم معذورية العامل بالقياس لو أخطأ الواقع، بل نلتزم ايضا بان العامل بالقياس يستحق العقاب و ان اصاب قياسه الواقع، اذا كان العامل قد بنى على حجية القياس تشريعا، لانه من التصرف في سلطان المولى، و ايضا نلتزم بان اقتصار العامل على الظن القياسي المنهي عن اتباعه من التجري، و لا يلازم ذلك كله عدم الظن بالبراءة.

و المتحصّل مما ذكر هو انه لا فرق بين الظن القياسي القائم على الطريق، و بين الظن القياسي القائم على الواقع، في كون كل منهما لازمه الظن ببراءة الذمة، و لا فرق بينهما من هذه الجهة اصلا، و ان التزمنا باستحقاق العقاب و لو مع الاصابة بناء على التجري.

نعم، لو قلنا في التجري بان العقاب على الفعل المتجرى به لما امكن القول بالظن بالبراءة، لان الفعل المتجرى به يكون معنونا بعنوان محرم ثانوي، و مع تعنونه بالعنوان المحرم لا يعقل ان يكون مظنون البراءة بحكم الشارع، بل يكون مقطوع الحرمة و العقاب فيما اذا كان توصليا، لعدم امكان كون ما يقع محرما مبرئا للذمة المشغولة بالوجوب مثلا، و مع كونه عباديا لا يتأتى فيه قصد القربة لفرض احتمال كونه مبغوضا و مبعّدا، فلا يعقل ان يقصد به التقرب على نحو الظن، و لعله الى هذا اشار بقوله: «فافهم».

(1) هذا هو الايراد الثالث على المحقق (قدس سره)، و حاصله: انه لو تنزّلنا و سلّمنا جميع ما ادعاه صاحب الحاشية من مقدماته الثلاث، لما كانت النتيجة في الانسداد

ص: 162

عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على كون الظن طريقا منصوبا شرعا

فصل لا يخفى عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على كون الظن طريقا منصوبا شرعا، ضرورة أنه معها لا يجب عقلا على الشارع أن

______________________________

تختص بحجية الظن بالطريق، بل تعمّ الظن بالحكم الذي ظن بانه مؤدى طريق معتبر، فانها و ان خرج عنها الظن بالواقع الذي لا يظن بقيام طريق معتبر عليه، لكنه لا بد من القول بشمول النتيجة للحكم الذي ظن بكونه مؤدّى طريق معتبر، فان ما ذكره من المقدمات الثلاث كلها تقتضي شمول النتيجة له، و مع شمول النتيجة له لا بد من شمولها للظن بالواقع، لان الظن بالواقع فيما بايدينا غالبا ملازم للظن بقيام طريق معتبر عليه، و اما شمول النتيجة للحكم الذي ظن بقيام طريق معتبر عليه، فلوضوح انه مع الاتيان بهذا المظنون يظن بالبراءة بحكم الشارع، لفرض كونه مما قام عليه الدليل المعتبر، و قد عرفت فيما مرّ ان هناك ملازمة غالبا بين الظن بالحكم الذي نعرفه مما بأيدينا من مظانه، و بين كونه مؤدى طريق معتبر.

و الى هذا اشار بقوله: «و ثالثا سلمنا ان الظن بالواقع لا يستلزم الظن به» أي لا يستلزم الظن ببراءة الذمة في حكم الشارع «لكن قضيته» أي قضية المقدمات التي ذكرها المحقق لا تقتضي الاقتصار على خصوص الظن بالطريق، بل تقتضي «التنزل الى» حجية «الظن» بالحكم الذي ظن «بانه مؤدّى طريق معتبر لا خصوص الظن بالطريق».

و اذا عمّمنا النتيجة الى هذا فلا بد من تعميمها للظن بالواقع، لانك قد عرفت ان الظن بالحكم الواقعي فيما بأيدينا يلازم الظن بانه مؤدى طريق معتبر، و لذا قال:

«و قد عرفت ان الظن بالواقع لا يكاد ينفك عن الظن بانه مؤدّى الطريق» المعتبر «غالبا».

و قد ظهر من جميع ما ذكرنا انه لا بد من عموم النتيجة للظن بالطريق، و للظن بالواقع و لو من طريق الملازمة الغالبة.

ص: 163

الكشف و الحكومة
اشارة

ينصب طريقا، لجواز اجتزائه بما استقل به العقل في هذا الحال (1)، و لا مجال لاستكشاف نصب الشارع من حكم العقل، لقاعدة الملازمة،

______________________________

(1) هذه المسألة من المسائل المهمّة في باب الانسداد، فانه لو كانت نتيجة الانسداد هي حجية الظن شرعا كان لازمها الاهمال و لو من بعض الجهات، إلّا ان يقوم دليل على كلّيتها.

و ان كانت نتيجة الانسداد هي حجية الظن عقلا من دون دخل للشارع في حجيّته اصلا- كانت النتيجة غير مهملة من الجهات الثلاث سببا و موردا و مرتبة، لوضوح انه لا اهمال في القضية العقلية.

و على كلّ فهل نتيجة المقدمات الخمس في الانسداد هي حجية الظن عقلا او انها كاشفة عن حجيته شرعا، و لو بالامضاء شرعا لما حكم به العقل من باب الملازمة بين ما يحكم به العقل و ما يحكم به الشرع؟

و مختار المصنف الاول، و ان نتيجة مقدمات الانسداد هو حكم العقل مستقلا بحجية الظن من دون دخل للشارع في ذلك اصلا و لو من باب الملازمة.

و توضيحه: ان الشارع انما يلزمه جعل الطريق حيث لا يكون هناك حكم من العقل بحجية طريق خاص، فانه مع تعيين العقل للطريق لا يجب على الشارع ان ينصب ذلك الطريق و لا غيره، اما غيره فلوضوح انه مع انحصاره و تعيينه عند العقل لا يمكن ان ينصّب غيره، و الّا لزم الخلف و عدم كونه الطريق المنحصر بحكم العقل، و اما نصب الشارع لذلك الطريق فهو بديهي الفساد ايضا، لعدم الحاجة اليه بعد حكم العقل به و تعيينه.

و اما امضاء الشارع لما حكم به العقل لقاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل و ما حكم به الشرع، فانما هو حيث يكون المورد قابلا للحكم الشرعي، و اما اذا كان غير قابل للحكم الشرعي فلا وجه لقاعدة الملازمة بعد تسليمها و صحتها، و سيظهر عدم كون المورد قابلا للحكم الشرعي، فلا مجال لقاعدة الملازمة ايضا.

ص: 164

.....

______________________________

فهنا مقامات ثلاثة:

الاول: ان مقدمات الانسداد لا تستلزم حجية الظن شرعا.

الثاني: ان حجية الظن الانسدادي ليست من موارد قاعدة الملازمة ليكون الجعل الشرعي امضائيا.

الثالث: ان العقل حاكم بكون الظن في حال الانسداد حجة، و انه مما ينحصر به الحجية في المقام.

اما المقام الاول فلان المقدمات الخمس: و هي العلم الاجمالي بوجود تكاليف فعلية، و ان هذا العلم الاجمالي غير منجز لعدم امكان التفكيك بين وجوب الموافقة القطعية و حرمة المخالفة القطعيّة، فهذا العلم الاجمالي لا اثر له و لا يقتضي اطاعة علمية و لا ظنيّة.

و اما المقدمة الثانية فمن الواضح عدم ارتباطها بحجية الظن شرعا، لانها انسداد باب العلم و العلمي، و من البديهي عدم اقتضاء انسداد باب العلم و العلمي لحجية الظن شرعا.

و اما المقدمة الثالثة و هي عدم جواز الاهمال فغاية ما تقتضيه لزوم التعرّض لامتثال تلك الاحكام بنحو من الانحاء، فان المعلوم بالاجماع او بالضرورة من الدين هو عدم جواز الاهمال لامتثال تلك الاحكام الفعلية، و لا بيان من الاجماع و لا من الضرورة بتعيين كون الامتثال بنحو الظن او بغيره.

و اما المقدمة الرابعة فمهمّتها حرمة الاحتياط المخلّ بالنظام، و عدم وجوب الاحتياط الموجب للعسر، و عدم جواز الرجوع الى الاصول او الى الغير، و نتيجتها دوران حال الامتثال بين الاطاعة الظنية و الشكيّة و الوهميّة.

فهذه المقدمات الاربع لا تستلزم حجية الظن شرعا.

و اما المقدمة الخامسة فهي تقتضي حجية الظن عقلا، لان الامتثال الوهميّ و الشكيّ من ترجيح المرجوح على الراجح و هو قبيح.

ص: 165

ضرورة أنها إنما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي، و المورد هاهنا غير قابل له، فإن الاطاعة الظنية التي يستقل العقل بكفايتها في حال الانسداد إنما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها، و عدم جواز اقتصار المكلف بدونها، و مؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه، و هو واضح. و اقتصار المكلف بما دونها، لما كان بنفسه موجبا للعقاب مطلقا، أو فيما أصاب الظن، كما أنها بنفسها موجبة للثواب أخطأ أو أصاب،

______________________________

فاتضح مما بيناه: ان العقل ينتهي الى حجية الظن في باب الانسداد و انحصار طريق الامتثال به، و مع استقلال العقل في المقام بحجية الظن في هذا الحال و تعيينه لهذا الطريق الخاص لا وجه لاستكشاف نصب الشارع للظن في المقام و اعتبار الحجية له من الشارع.

و قد اشار الى عدم اقتضاء المقدمات لجعل الظن شرعا بقوله: «لا يخفى عدم مساعدة مقدمات الانسداد ... الى آخر الجملة».

و اشار الى أن نتيجتها حكم العقل بحجية الظن عند الانسداد بقوله: «ضرورة انه معها» أي من البديهي انه مع اقتضاء المقدمات لحجية الظن عقلا «لا يجب عقلا على الشارع ان ينصب طريقا» الى امتثال احكامه.

نعم، لو لم يكن العقل حاكما و معيّنا للظن و ان الحجيّة في حال الانسداد منحصرة به لكان لا بد للشارع من نصب طريق لاحكامه الفعلية، و حيث لا طريق اليها، اما مع حكم العقل و تعيينه للطريق فللشارع ان يعتمد على ما حكم به العقل و يجتزئ به، و لذا قال: «لجواز اجتزائه» أي الشارع «بما استقل به العقل» من الحكم بتعيين الظن «في هذا الحال» أي في حال الانسداد.

ص: 166

امتناع تعلق الامر المولوي بالاطاعة الظنية

من دون حاجة إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها، كان حكم الشارع فيه مولويا بلا ملاك يوجبه، كما لا يخفى (1)، و لا بأس به إرشاديا، كما هو

______________________________

(1) لما فرغ من كون نتيجة المقدمات هي حكم العقل بتعيين الظن حجة في الانسداد ..

اراد ان يبيّن انه لا وجه لجعل الشارع للظن لا إمضاء و لا استقلالا.

اما إمضاء فالوجه في دعوى ذلك هي قاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل و ما حكم به الشرع، و لكنها دعوى فاسدة، فانه مضافا الى ما سيأتي من عدم صحة هذه القاعدة انه لو قلنا بها فلا مجال في المقام، و توضيح ذلك يحتاج الى بيان امرين:

الاول: ان امر الشارع مولويا بشي ء او نهيه عن شي ء مولويا يتوقف على شيئين:

الاول: كون المأمور به من افعال العبد. الثاني: ان يكون امره هو الداعي لان يحصل للعبد الداعي الى اتيان متعلق الامر او النهي المولويين، و لذا قالوا: ان طلب المولى انما هو بداعي جعل الداعي.

فاذا عرفت هذا- نقول: ان المتحصّل من مقدمات الانسداد امور:

الاول: هو قبح مؤاخذة الشارع للعبد فيما اذا اقتصر العبد على الاطاعة الظنيّة، لعدم وجوب الاحتياط، و دوران الامر بين الاطاعة الظنية و الشكية و الوهمية و ان الظنية هي الراجحة و الشكية و الوهمية مرجوحة، و من القبيح ترجيح المرجوح على الراجح، و لذا حكم العقل بانحصار امتثال العبد في الاطاعة الظنيّة، و لازم ذلك انه ليس للشارع مؤاخذة العبد فيما اذا اقتصر على الاطاعة الظنيّة.

و من الواضح ان مؤاخذة الشارع من افعال الشارع لا من افعال العبد حتى يمكن ان يكون فيها مجال للحكم المولوي، و قد عرفت انه لا بد في الحكم المولوي من كونه من افعال العبد.

الثاني: انه لا يجوز عقلا للعبد ان يقتصر على الاطاعة الشكية او الاطاعة الوهميّة، بان يأتي بالمشكوك او الموهوم من الاحكام و ترك الحكم المظنون لانهما من المرجوح القبيح عند العقل ارتكابه، فاذا فعل ذلك فهو اما مستحق للعقاب و ان

ص: 167

.....

______________________________

اخطأ الظن الواقع- بناء على استحقاق المتجري للعقاب- و هو المشار اليه بقوله «مطلقا»، او في خصوص ما اذا أصاب الظن- بناء على عدم استحقاق المتجرى للعقاب- و ان صحة العقاب تنحصر في مخالفة الواقع، و هو المشار اليه بقوله: «او فيما أصاب الظن».

الثالث: ان اتباع الظن موجب للثواب مطلقا أخطأ الظن الواقع أو اصابه، فانه بعد انحصار الطريق عند العقل به فيكون اتباعه إما انقيادا او اطاعة حقيقة.

و لا يخفى ان الثاني و هو اقتصار العبد على الاطاعة الشكية او الوهمية و ترك الاطاعة الظنيّة، و الثالث و هو الاطاعة الظنيّة، و ان كانا من افعال العبد إلّا انه مع ذلك لا مجال فيهما للحكم المولوي، لان الحكم في الثاني هو نهي العبد عن الاقتصار على الاطاعة الوهمية و الشكية، و في الثالث هو امر العبد بالاطاعة الظنيّة، و قد عرفت ان العقل قد استقل بالحكم في الثاني بعدم الجواز، و انه لا يجوز عند العقل اقتصار العبد على الاطاعة الوهمية و الشكية، و قد استقل ايضا بالحكم في الثالث بلزوم اتباع العبد لما ظن انه هو الحكم اللزومي، فاذا كان العقل قد نهي نهيا لازما في الثاني و امر امرا لازما في الثالث فاي داع لحكم الشارع مولويا، بل لا يعقل حكمه فيهما مولويا، لما عرفت من أنّ الغرض من الحكم المولوي هو جعل الداعي للعبد، و مع وجود الداعي عند العبد بحكم من العقل بذلك، فلا يكون مجال لجعل الداعي ايضا من الشارع، و من الواضح ايضا ان الامر المولوي من غير غرض محال من الشارع، فلا مجال لامر المولى مولويا في المقامين.

و منه يتبيّن: ان امر المولى مولويا في المقامين استقلالا محال ايضا، لان الاستقلالية للشارع معناها كونه هو الآمر وحده، و قد عرفت حكم العقل بذلك، فاذا لم يصح من الشارع الامر المولوي بنحو الامضاء لحكم العقل فعدم صحته بنحو الاستقلال بطريق أولى.

ص: 168

.....

______________________________

و قد اشار المصنف الى الاول بقوله: «انما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها» أي بأزيد من الاطاعة الظنيّة.

و الى الثاني بقوله: «و عدم جواز اقتصار المكلف بدونها» أي بدون الاطاعة الظنيّة بان يقتصر على الوهمية و الشكية.

و قد اشار الى خروج المؤاخذة عن القابلية للحكم المولوي بقوله: «و مؤاخذة الشارع» حيث انها من افعاله فهي «غير قابلة لحكمه» مولويا.

و قد اشار الى نهي العقل في الثاني بقوله: «و اقتصار المكلف بما دونها» أي بما دون الاطاعة الظنية من الاطاعة الشكية او الوهمية «لما كان» منهيا عنه عقلا و «موجبا للعقاب مطلقا» على التجري «او فيما اصاب الظن» بناء على اختصاص استحقاق العقاب بالمخالفة الواقعية.

و اشار الى امر العقل في الثالث بقوله: «كما انها» أي الاطاعة الظنية «موجبة» بحكم العقل «للثواب أخطأ» الظن «او اصاب».

و من الواضح ان معنى حكم العقل باقتضائها للثواب مطلقا هو معنى امر العقل بها «من دون حاجة الى امر بها» مولويا «او نهي عن مخالفتها» كذلك.

فان العقل في حال الانسداد اذا حكم بان الاطاعة الظنية هي الموجبة للثواب مطلقا دون غيرها من الاطاعة الشكية أو الوهمية، فان هذا الحكم منه متفرع عن حكمه بان الاطاعة الظنية هي التي ينحصر بها الامتثال، و ان على العبد الامتثال بها لا بغيرها، و مع حكمه هكذا فيكون للعبد داع من قبل هذا الحكم العقلي للامتثال الظني، و مع وجود الداعي من العقل فلا فائدة في الامر بالظن مولويا، لانه لداعي جعل الداعي، و لا ملاك للامر المولوي غير هذا، و قد عرفت ان الامر المولوي بلا داع غير معقول، و انحصار الداعي فيه بجعل الداعي، و مع كون العقل جاعلا للداعي فلا يبقى مجال لجعل الداعي مولويا.

ص: 169

شأنه في حكمه بوجوب الاطاعة و حرمة المعصية (1). و صحة نصبه الطريق و جعله في كل حال بملاك يوجب نصبه و حكمة داعية إليه، لا تنافي

______________________________

و الى هذا اشار بقوله: «كان حكم الشارع فيه» أي في الظن بالامر به «مولويا بلا ملاك يوجبه» فان الملاك فيه هو جعل الداعي و قد أمر العقل به، و جعل الداعي من قبله بموجب ادراكه للعبد بان يطيع بالاطاعة الظنيّة فلا مجال حينئذ لامر المولى بهذا الداعي.

ثم لا يخفى ان جملة «كان حكم الشارع فيه» هي جواب «لما كان»، و هي بمنزلة الخبر ايضا للمبتدا المتقدم و هو «اقتصار المكلف بما دونها».

(1) لا يخفى انه كلما كان للعقل استقلال في حكم من الاحكام و ورد من الشارع حكم على وفق امر العقل و حكمه، فلا بد و ان يكون الداعي لامر المولى هو الارشاد الى حكم العقل، لعدم المجال لكون امره بذلك مولويا، لما عرفت من ان الغرض من الامر المولوي هو جعل الداعي، و مع امر العقل و جعله للداعي لا يبقى مجال لجعل الداعي من المولى، و هذا احد الاسباب في ما اشتهر من ان اوامر الاطاعة ارشادية كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ 13] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ 14] لعدم معقولية كونها مولوية، لادراك العقل لزوم اطاعة امر المولى و حرمة معصيته، و مع ادراكه لزوم الاطاعة و حرمة المعصية يكون قد جعل الداعي للعبد الى الاطاعة و يكون قد نهى عن المعصية، فلا مجال لامر المولى مولويا بوجوب اطاعته و حرمة معصيته، و لا بد ان يكون الداعي له هو الارشاد الى ما حكم به العقل، و لذا قال (قدس سره): «و لا بأس به» أي و لا باس بكون الامر باتباع الظن في حال الانسداد «ارشاديا كما هو شانه في حكمه» أي الشارع «بوجوب الاطاعة و حرمة المعصية» كذلك، و لا يخفى ان الاطاعة الظنية في حال الانسداد احد مصاديق حرمة المعصية.

ص: 170

استقلال العقل بلزوم الاطاعة بنحو حال الانسداد، كما يحكم بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح، من دون استكشاف حكم الشارع بلزومها مولويا، لما عرفت.

فانقدح بذلك عدم صحة تقرير المقدمات إلا على نحو الحكومة دون الكشف (1)، و عليها فلا إهمال في النتيجة أصلا، سببا و موردا و مرتبة،

______________________________

(1) يحتمل في تفسير هذا السؤال و الجواب وجهان:

الاول: ان يكون المراد منه هو ان أمر المولى بطريق خاص و نصبه له، تارة يكون على نحو الطريقية بان يكون الغرض منه محض الطريقية الى امتثال احكامه، و على هذا لا يصح امر المولى بطريق قد ادرك طريقيته العقل كما مر.

و اخرى يكون الداعي الى نصب الشارع للطريق هو الموضوعيّة، و لازمه هو السببيّة و كون مؤدّى الطريق هو الحكم الفعلي، غايته انه بلسان انه هو الحكم الواقعي، و قد دعت الى هذا الحكم الذي هو مؤدّى الطريق المنصوب من قبل الشارع مصلحة خاصة به و حكمة داعية اليه، و على هذا لا امتناع عقلا من نصب الطريق من الشارع و جعله و الامر به مولويا، لعدم ادراك العقل لهذا الطريق حتى يكون مغنيا عن الامر المولوي به من الشارع.

و لا يخفى ايضا انه للشارع هذا النصب و يصح منه، و ان حكم العقل بلزوم الاطاعة العلمية لهذا الطريق في حال الانفتاح و الاطاعة الظنية في حال الانسداد.

و الجواب عنه: ان الكلام في امر الشارع مولويا على نحو الطريقية بطريق كان الداعي له هو كونه طريقا، اما صحة جعله لطريق على نحو الموضوعية فهو خروج عمّا هو مفروض الكلام.

و من الواضح ان الاطاعة الظنية في حال الانسداد انما هي لانها طريق، و امر العقل بها انما هو على نحو الطريقية، و ليس للشارع الامر بها مولويا على هذا النحو، اما انه يصح له ان يجعل طريقا بنحو الموضوعية فهو خروج عن هذا الفرض.

ص: 171

.....

______________________________

و لا منافاة له لاستقلال العقل بلزوم الاطاعة الظنية بنحو الطريقيّة في حال الانسداد، كما انه لا منافاة لجعل طريق بنحو الموضوعية في حال الانفتاح لحكم العقل بلزوم الاطاعة العلمية، و ان امر المولى في الاطاعة الظنية في حال الانسداد و الاطاعة العلمية في حال الانفتاح لا بد و ان يكون ارشاديا لا مولويّا.

الوجه الثاني: ان هذا السؤال سببه ما مرّ منا من لغوية جعل الطريق من الشارع مع حكم العقل و ادراكه لطريق الامتثال، و اذا كان لغوا كان ممتنعا على الشارع، لعدم امكان الالتزام باللغوية في اوامره.

و لازم ما ذكر من ادراك العقل طريق الامتثال في حال الانسداد و هو الاطاعة الظنية، و في حال الانفتاح و هو الاطاعة العلمية- انه يمتنع على الشارع نصب الطريق في كلا الحالين، و من الواضح انه يصح للشارع نصب طريق خاص غير الطريق الذي ادركه العقل لاجل حكمة تدعو الى ذلك الطريق، كما انه قد وقع منه ذلك في حال الانفتاح، فانه قد اعتبر الخبر الصحيح طريقا مع امكان الوصول الى الشارع و معرفة الحكم الواقعي، و اذا صحّ منه جعل الطريق غير الطريق الذي ادركه العقل في حال الانفتاح يصح منه جعل الطريق في حال الانسداد غير الطريق الذي ادركه العقل، فحينئذ يصح للشارع في كل حال انسدادا او انفتاحا جعل طريق خاص له غير الطريق الذي ادركه العقل لحكمة و مصلحة تدعو الى جعله لم يدركها العقل و لم يتوصل اليها.

و الجواب عنه: انه لا منافاة لهذا لما مرّ منّا، فان الذي مرّ هو انه لا يصح امر المولى مولويا بالطريق الذي ادرك طريقيّته العقل، و لم يظهر منّا امتناع نصب الطريق مطلقا على الشارع، و ان كان ذلك غير الطريق الذي يدرك العقل طريقيّته، فلا منافاة بين صحة نصب الشارع طريقا له على كل حال غير الطريق الذي يدرك العقل طريقيّته، و لا مانع من أمر الشارع مولويا بطريقه الخاص، و انما الذي منعناه هو امره مولويا في مورد كان العقل مستقلا بطريقيّته.

ص: 172

عدم الاهمال في النتيجة على الحكومة

لعدم تطرق الاهمال و الاجمال في حكم العقل، كما لا يخفى (1).

______________________________

و قد أشار الى السؤال بقوله: «و صحة نصب الطريق و جعله في كل حال ... الى آخر الجملة».

و أشار الى الجواب بقوله: «لا تنافي استقلال العقل بلزوم الاطاعة» الظنية «بنحو حال الانسداد ... الى آخر الجملة».

(1) قد عرفت في صدر المسألة ان نتيجة دليل الانسداد مختلفة من حيث الكشف و الحكومة، و انه على القول بالحكومة لا اهمال في النتيجة سببا و موردا و مرتبة، لان معنى الحكومة هي كون العقل حاكما بحجية الظن في حال الانسداد، فهي قضية موضوعها الظن و محمولها حجيّته.

و حيث فرض ان العقل هو الحاكم بالحجيّة للظن فلا بد من تمامية هذه القضية عند العقل موضوعا و محمولا، لوضوح لزوم تبيّن القضية العقلية عند العقل من جميع الجهات، فلا بد من معرفة الظن بحدوده من حيث الاسباب، كالظن الحاصل من الخبر او الاجماع المنقول او الشهرة، و من حيث المورد ككونه في الدماء و الفروج و الاموال، و غيرها من موارد الاحكام كفعل الصلاة و الزكاة و حرمة الخمر و امثالها من الافعال الواجبة او المحرمة، و من حيث المرتبة كالظن القوي و الضعيف، و سيأتي تفصيلها.

و اما على الكشف فسيأتي ان النتيجة تارة هي الاهمال من بعض هذه الجهات، و اخرى الاهمال في جميع هذه الجهات الثلاث، و لا اهمال بناء على الحكومة اصلا، و لذا قال (قدس سره): «و عليها» أي و على الحكومة «فلا اهمال في النتيجة اصلا سببا» ككون الظن من خبر او اجماع او شهرة «و موردا» ككونه في الدماء و الفروج و الاموال و في غيرها من ساير الافعال الواجبة كتفاصيل الصلاة مثلا، او المحرمة كالتجسيم او التصوير «و مرتبة» كالظن القوي الاطميناني و الظن الضعيف.

ص: 173

أما بحسب الاسباب فلا تفاوت بنظره فيها (1).

و أما بحسب الموارد، فيمكن أن يقال بعدم استقلاله بكفاية الاطاعة الظنية، إلا فيما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب و ترك

______________________________

ثم أشار الى انها حيث كانت قضية عقلية فلا بد من معرفة الموضوع فيها بحدوده، فلا يعقل ان يحكم العقل حكما قد استقل فيه على موضوع مهمل عنده او مجمل، و لذا قال: «لعدم تطرق الاهمال و الاجمال في حكم العقل كما لا يخفى».

(1) لما ذكر انه على الحكومة لا اهمال في النتيجة لا سببا و لا موردا و لا مرتبة ... اراد ان يشير الى ما هو المتعين عند العقل في هذه الجهات الثلاث.

و حاصله: ان النتيجة على الحكومة هي حجية الظن كليا من حيث الاسباب، فان المقدمة الرابعة و الخامسة الناتج منها تعيين الظن على الشك و الوهم، و لزوم الاطاعة الظنيّة لانها راجحة، و قبح ترجيح غيرها عليها.

و من الواضح ايضا ان الظن الذي يلزم اتباعه في حال الانسداد هو الظن الشخصي، و ما يكون راجحا بذاته في مقام وجوده من بين المحتملات، فتعيينه لكونه راجحا بذاته على غيره، و اذا كان تعيينه لرجحانه في ذاته فلا فرق بين كونه حاصلا من خبر أو اجماع منقول أو شهرة.

و على كل فالعقل لا يرى فرقا من حيث اسباب الظن بعد ان كان المدار عنده على الرجحان، و لذا قال (قدس سره): «اما بحسب الاسباب» الموجبة للظن «فلا تفاوت بنظره» أي لا تفاوت بنظر العقل «فيها» أي في الاسباب الموجبة له، فان المدار عنده على حصول الرجحان، و ان الظن لكونه راجحا هو الحجة، فلا فرق عنده بعد حصول الرجحان في الاسباب الموجبة لذلك الرجحان.

فالنتيجة من حيث الاسباب على الحكومة كلية، هي حجية الظن مطلقا من دون تفاوت بين اسبابه.

ص: 174

الحرام، و استقلاله بوجوب الاحتياط فيما فيه مزيد الاهتمام، كما في الفروج و الدماء بل و سائر حقوق الناس مما لا يلزم من الاحتياط فيها العسر (1).

______________________________

(1) حاصله: ان النتيجة من حيث الموارد معينة ايضا، و لكنها ليست كلية، بل هي حجية الظن في غير ما علم مزيد اهتمام من الشارع فيه في لزوم الاحتياط و التحفظ على الواقعيات كموارد الفروج و الدماء و حقوق الناس، و لذا قال (قدس سره):

«و اما بحسب الموارد فيمكن ان يقال بعدم استقلاله» أي العقل لا يستقل «بكفاية الاطاعة الظنية الا فيما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه» كغير موارد الفروج و الدماء و حقوق الناس من سائر الموارد الأخر من الاحكام المنجزة «بفعل الواجب و ترك الحرام» فان من الواضح ان اهتمام الشارع باحكامه اللزومية مقول بالتشكيك، فان اهتمامه بالفروج لانه منها الولد و في الدماء و حقوق الناس لانه بهما يحفظ النظام اشد من اهتمامه في احكامه اللزومية في بقية الموارد الأخر، ففي الموارد التي علم بمزيد اهتمام الشارع فيها يستقل العقل بوجوب الاحتياط، و لذا قال: «و استقلاله بوجوب الاحتياط فيما فيه مزيد اهتمام ... الى آخر الجملة».

و حاصله: ان حكم العقل في المقام معيّن و هو الاكتفاء بالاطاعة الظنية فيما ليس للشارع مزيد اهتمام، و لزوم الاحتياط فيما علم للشارع مزيد اهتمام فيه.

و لعل السبب في اختلاف حكم العقل بالنسبة الى الموارد هو ان المنجزّ للاحكام على ما مرّ في بيان مقدمات الانسداد هو الاجماع و الضرورة على عدم جواز الاهمال، و ان للشارع اهتماما باحكامه و لا بد من التعرّض للامتثال فيها.

و لا اشكال ان لمزيد اهتمام الشارع أثرا غير الأثر فيما ليس للشارع فيه هذا الاهتمام، و الّا كان لغوا.

و حيث المفروض انه لا مانع من الاحتياط في هذه الموارد، لانه بمقدار لا يلزم منه اختلال و لا عسر فلا بد و ان يكون اثر هذا الاهتمام الاحتياط، فان العقل بعد ان علم بالاهتمام الشديد في هذه الموارد، و انه لا بد و ان يكون لمزيد الاهتمام اثر و الّا كان

ص: 175

و أما بحسب المرتبة، فكذلك لا يستقل إلا بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان من الظن، إلا على تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر (1).

و أما على تقرير الكشف، فلو قيل بكون النتيجة هو نصب الطريق الواصل بنفسه، فلا إهمال فيها أيضا بحسب الاسباب، بل يستكشف حينئذ أن الكل حجة لو لم يكن بينها ما هو المتيقن، و إلا فلا مجال لاستكشاف حجيّة غيره، و لا بحسب الموارد، بل يحكم بحجيته في

______________________________

اهتماما لغوا، و حيث ان الامر يدور بين الاطاعة الظنيّة و الاحتياط، فلا بد و ان يكون اثر هذا الاهتمام هو الاحتياط في هذه الموارد، بمقدار لا يلزم من الاحتياط فيها اختلال نظام او عسر و حرج.

(1) لا يخفى ان مرتبة الظن مختلفة من حيث الضعف و القوة، فمرتبة الظن الاطميناني اقوى من ساير مراتب الظن، و بحكم المقدمة الخامسة الموجبة لترجيح الاطاعة الظنية على الشكية و الوهمية لقبح ترجيح المرجوح يستقل العقل بلزوم تعيين الظن الاطميناني من بين ساير مراتب الظن، و الّا لزم ترجيح المرجوح على الراجح، فيما اذا كانت الظنون الاطمينانية وافية بمعظم الاحكام.

نعم فيما اذا لم تكن وافية، و كان يلزم من الاحتياط في غيرها العسر، فالعقل يستقل ايضا في هذا الفرض بكفاية الاطاعة الظنية و ان لم تكن بالغة مرتبة الاطمئنان، و لذا قال (قدس سره): «اما بحسب المرتبة فكذلك» أي ان حالها حال الموارد في ان حكم العقل منها معين و النتيجة فيه خاصة لا كلّية، فان العقل بالنسبة الى المرتبة «لا يستقل الّا بكفاية مرتبة الاطمئنان من الظن».

ثم اشار الى انه إذا لم تكن هذه المرتبة وافية و كان يلزم من الاحتياط العسر فالعقل يستقل ايضا بكفاية الاطاعة الظنية و ان لم تكن اطمئنانية بقوله: «الا على تقدير عدم كفايتها» أي عدم كفاية مرتبة الاطمئنان «في دفع محذور العسر».

ص: 176

التفصيل في اهمال النتيجة و تعيينها على الكشف

جميعها، و إلا لزم عدم وصول الحجة، و لو لاجل التردد في مواردها، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) لا يخفى انه انما كانت وجوه الكشف في المقام هذه الثلاثة، لان الاحتمالات في اصل نصب الطريق لا تزيد على هذه الثلاثة، لان المنصوب اما الطريق الواصل بنفسه، او الطريق الواصل و لو بطريقه، او الطريق و لو لم يصل.

اما نصب الطريق الواصل بنفسه، فالمراد منه هو كون مقدمات الانسداد دالة على جعل الشارع للظن من غير حاجة الى انسداد آخر صغير لتعيين خصوصية فيه.

و اما نصب الطريق الواصل و لو بطريقه، و المراد منه ان نتيجة الانسداد تكشف عن جعل الشارع للظن و لو باعمال انسداد آخر غير هذا الانسداد لتعيين خصوصية فيه، فيكون هذا الانسداد كاشفا عن جعل الظن، و بإعمال انسداد آخر يتعيّن الخصوصية الماخوذة فيه على فرض امكان تحققها.

و اما نصب الطريق و ان لم يصل سيأتي بيانه.

اما الاول: و هو كون نتيجة الانسداد كاشفة عن نصب الطريق الواصل بنفسه فملاك اعتبار الوصول هو ان السبب في جعل الطريق هو رفع تحيّر المكلّف، فمصلحة جعل الطريق اذا كانت هي رفع تحيّر المكلف فلا فائدة في نصب الطريق غير الواصل فليس للطريق مرتبة سوى هذه المرتبة، و لا بد و ان يكون جعله ملازما لوصوله، و اذا علم المولى بعدم وصول الطريق فلا يعقل ان يجعله طريقا، لوضوح ان الطريق غير الواصل لا يرفع تحيّرا اصلا.

و اما اعتبار كونه و اصلا بنفسه فسيأتي بيانه في الوجه الثاني، و على هذا الوجه فمقدمات الانسداد بعد ان كانت كاشفة عن جعل الظن طريقا شرعا، و كان الظن هو الواصل بحسب مقدمات الانسداد من دون حاجة الى اعمال انسداد آخر لتعيين خصوصية فيه، فالنتيجة هي التعيين من حيث السبب، و هي حجية كل ظن من أي سبب كان سواء كان من خبر او اجماع او شهرة، لان المفروض ان الحجة هو

ص: 177

.....

______________________________

الطريق الواصل بنفسه و الظن هو الواصل بنفسه بحسب مقدمات الانسداد الكبير، فلا فرق بين الظن الحاصل من الخبر و الظن الحاصل من الاجماع او غيره.

نعم اذا كان- مثلا- الخبر الصحيح الاعلائي وافيا بمعظم الفقه، فلا بد من تعيّنه للحجية، و يكون هو الحجة دون غيره من الظنون لاجل كونه هو القدر المتيقن، و انما كان قدرا متيقنا لقيام الاجماع على حجيّته لو كان مطلق الظن الحاصل من خبر الثقة حجة، فهو بناء على جعل الظن يكون قدرا متيقنا لانه إمّا هو الحجة بخصوصه، او انه احد افراد الحجة.

و لا يخفى انه حيث يتحقق هذا القدر المتيقن فهو حجة في المقام دون غيره، و النتيجة عليه تكون معينة و لكنها ليست كلية، بل خاصة و هي خصوص الظن الحاصل من الخبر الصحيح الاعلائي، بخلاف ما اذا لم يكن هذا القدر المتيقن متحققا او غير واف، فلا فرق بين ظن و ظن، و النتيجة معينة ايضا و لكنها كلية، و هي حجية الظن من أي سبب حصل، و لذا قال (قدس سره): «فلا اهمال فيها ايضا» أي حال الكشف بناء على كون المجعول هو الطريق الواصل بنفسه حال الحكومة «بحسب الاسباب» و لا فرق بين سبب و سبب «بل يستكشف حينئذ ان الكل حجة».

ثم اشار الى ان النتيجة انما تكون كلية لا خاصة حيث لا يكون في البين قدر متيقن بقوله: «لو لم يكن بينها» أي بين الظنون «ما هو المتيقن» و هو الخبر الصحيح الاعلائي مثلا «و الّا» أي و اذا كان بين الظنون هذا القدر المتيقن موجودا و واصلا ففيه تنحصر الحجية و تكون النتيجة خاصة به «فلا مجال لاستكشاف حجيّة غيره» من الظنون و لا تكون النتيجة على هذا كلية و ان كانت معيّنة غير مهملة.

و اما النتيجة بحسب الموارد فهي كلية معيّنة ايضا، و هي حجية الظن في كل مورد من موارد الفقه، و لا فرق بين مورد و مورد، لانه بعد ان كانت احكام جميع الموارد منجزة و كان الشارع قد جعل طريقا اليها و هو الظن الواصل، و المفروض وصول

ص: 178

.....

______________________________

الظن في جميع الموارد، و لا فرق بينها من حيث الوصول، فلا وجه للاحتياط في موارد علم بمزيد اهتمام الشارع فيها و لا اثر له، و الّا للزم على الشارع ايصال الاحتياط، لما عرفت من ان الطريق المنصوب لا بد من وصوله، و لم يصل الاحتياط من الشارع، لان المفروض ان نتيجة مقدمات الانسداد هو جعل الشارع للظن، فالاحتياط لم يصل بحسب ما تقضي به مقدمات الانسداد، و انما الواصل هو الظن لا غير، فلو لم يكن الظن في جميع الموارد حجة للزم الخلف، بناء على لزوم الوصول في الطريق المنصوب.

و لا وجه لاتكال الشارع على العقل، لان المفروض ان نتيجة المقدمات هو الكشف عن جعل الشارع، و بهذا يختلف الحال بين الكشف على هذا الوجه، و الحكومة التي قد عرفت انه لا بد من الاحتياط في الموارد التي علم بمزيد اهتمام الشارع فيها.

و الحاصل: ان نتيجة الانسداد على الحكومة هي حكم العقل بحجية الظن، و العقل لا يحكم بحجية الظن في الموارد التي علم بمزيد اهتمام الشارع فيها حيث لا يلزم من الاحتياط فيها اختلال نظام و لا عسر، بخلافه على الكشف و ان المجعول من الشارع هو الطريق الواصل بنفسه، فان اختصاص حجيته بخصوص الموارد التي لم يكن للشارع مزيد اهتمام فيها يستلزم الخلف بعد فرض وصول الظن في جميع الموارد، فاحتمال عدم حجية الظن فيما علم اهتمام للشارع فيه ينافي كون الشارع قد جعل الطريق الواصل بنفسه حجة، و الّا لأوصل الاحتياط بعد فرض كون نتيجة الانسداد هي جعل الطريق الواصل بنفسه، و المفروض وصول الظن و عدم وصول الاحتياط.

و قد اشار الى ان النتيجة بحسب الموارد لا اهمال فيها و هي كلّية بقوله:

«و لا بحسب الموارد» أي و لا اهمال في النتيجة بحسب الموارد «بل» معينة و كلية

ص: 179

و دعوى الاجماع على التعميم بحسبها في مثل هذه المسألة المستحدثة مجازفة جدا (1).

______________________________

و «يحكم بحجيته» أي حجية الظن «في جميعها» أي في جميع الموارد من دون فرق بين مورد و مورد.

ثم اشار الى الوجه في ذلك بقوله: «و الّا لزم عدم» ال «وصول» و هو الخلف بناء على كون المجعول هو الطريق الواصل بنفسه «و لو» كان عدم الوصول «لاجل التردد في موردها» فانه بعد ان كان لا بد من الوصول فالتردد في الوصول، كعدم الوصول، و هو واضح.

(1) ادعى الشيخ الاعظم في رسائله ان السبب في التعميم بحسب الموارد- بناء على الكشف- هو قيام الاجماع على عدم الفرق في الطريق المجعول بين مورد و مورد.

و لم يرتض المصنف دعوى التعميم لاجل الاجماع، و انما السبب في التعميم ما اشار اليه دون الاجماع، لوضوح انه لا وجه لدعوى الاجماع في هذه المسألة لوجهين:

الاول: ما اشار اليه من ان هذه المسألة و هي الانسداد مستحدثة، لوضوح انه لا انسداد في عصر الائمة و لا بعده من العصور المتاخمة، و لذا لم يتعرّض احد من القدماء لدليل الانسداد، و لذا قال (قدس سره): «و دعوى» كون «الاجماع» هو الدليل «على التعميم بحسبها» أي بحسب الموارد «في مثل هذه المسألة المستحدثة مجازفة جدا».

الثاني: انه لو كان اجماع على التعميم بحسب الموارد فلا وجه للاحتياط على الحكومة، الّا ان يقال ان الاجماع تعليقي: أي حيث يقال بالكشف و الوصول فالاجماع قائم على التعميم بحسب الموارد.

ص: 180

و أما بحسب المرتبة، ففيها إهمال، لأجل احتمال حجية خصوص الاطمئناني منه إذا كان وافيا، فلا بد من الاقتصار عليه (1)، و لو قيل بأن

______________________________

(1) توضيحه: انه لما كانت الظنون الاطمئنانية كغيرها من الظنون الأخر واصلة، و كانت ايضا وافية بمعظم الفقه، و المتحصل من الانسداد هو الكشف عن جعل الظن الواصل، و ليس هناك دليل لفظي له اطلاق يدل على جعل مطلق الظن، فمقدمات الانسداد تكشف عن اعتبار الظن شرعا، و لا تعيين فيها يقتضي التعميم، كما انه لا دلالة فيها على التخصيص بخصوص الاطمئناني، و ما هو الشرط في الحجية هو الوصول، و ان كان موجودا فيها جميعا، إلّا انه حيث يحتمل اختصاص المجعول بخصوص الاطمئناني من الظن لقوته، و يحتمل التعميم و لو لاجل مصلحة التسهيل كانت النتيجة هي الاهمال من حيث المرتبة، و لا بد في الاهمال من الاقتصار على المتيقن و هو خصوص الاطمئناني من الظن، لفرض وصوله له كغيره و كونه وافيا ايضا بمعظم الفقه.

و ينبغي ان لا يخفى ان احتمال الخصوصية و هي مرتبة الاطمئنان انما كان معتنى بها دون احتمال الخصوصية من حيث الاسباب و الموارد، هو انه لما كان المفروض ان المجعول هو الظن الواصل، و اخذ الخصوصية من حيث الاسباب و الموارد خارج عن حقيقة الظن و لا تصل بوصول الظن، فلا بد لها من موصل، و حيث انها لا موصل لها و ليس إلّا نفس الظن، فأخذ الخصوصية من حيث الاسباب و الموارد يستلزم الخلف، بناء على ان المجعول هو الطريق الواصل، بخلاف الخصوصية من حيث المرتبة فانها داخلة في حقيقة الظن و هي القوة و الضعف، فان مرتبة الاطمئنان هي المرتبة القوية من الظن، و غير مرتبة الاطمئنان هي المرتبة الضعيفة من الظن، و المفروض وصول الظنون الاطمئنانية الوافية بمعظم الفقه، فاحتمال اخذ هذه الخصوصية لا يستلزم الخلف، لعدم احتياجها الى موصل، بل المفروض وصولها، و حيث انه لا اطلاق لفظي في المقام فلا بد من الاقتصار على القدر المتيقن و هو المرتبة

ص: 181

النتيجة هو نصب الطريق الواصل و لو بطريقه (1)، فلا إهمال فيها بحسب الاسباب، لو لم يكن فيها تفاوت أصلا، أو لم يكن بينها إلا واحد، و إلا

______________________________

القوية من الظن، و لذلك كانت النتيجة هي الاهمال من حيث المرتبة و لا مناص من الاقتصار على المتيقن، و لذا قال (قدس سره): «و اما بحسب المرتبة ففيها اهمال لاجل احتمال حجية خصوص الاطمئناني منه» أي من الظن «اذا كان وافيا» بمعظم الفقه «فلا بد من الاقتصار عليه» أي على خصوص الظن الاطمئناني لانه القدر المتيقن لحجيته على كل حال، اما لحجية مطلق الظن الشامل له او لحجيته بالخصوص.

(1) لا يخفى ان الملاك في كون الطريق المجعول هو الواصل و لو بطريقه: أي اعم من كونه واصلا بنفسه او بطريقه، بان يقوم طريق آخر غير هذه المقدمات على خصوصية اخرى في الظن.

و توضيح ذلك: ان المراد- كلّية- من كون الطريق المجعول واصلا و لو بطريقه هو ان اللازم في الطريق المنصوب من الشارع لتنجز احكامه به هو الطريق الواصل، فلا مانع من ان يجعل الشارع طريقا خاصا و يوصله بطريقين: طريق دال على ذات الطريق، و طريق آخر دال على خصوصية ذلك الطريق، و في المقام فان مقدمات الانسداد الكبير أوصلت ذات الظن، و حيث نحتمل ان يكون الشارع قد اخذ خصوصية اخرى فيه فلا مانع من اجراء دليل انسداد صغير لتعيين تلك الخصوصية.

و لا يخفى ان هذا لا مانع منه في غير دليل الانسداد، و اما في الانسداد فقد يقال انه لا مجال له.

و لا ينبغي ان تكون النتيجة فيه هو الطريق الواصل و لو بطريقه، لان الطريق الآخر هو الانسداد الصغير، و هو يتوقف على العلم الاجمالي بالخصوصية حتى تنضم اليه المقدمات الأخر لتعيينها، و حيث لا علم اجمالي بأخذ خصوصية في الظن

ص: 182

فلا بد من الاقتصار على متيقن الاعتبار منها أو مظنونه، بإجراء مقدمات دليل الانسداد حينئذ مرة أو مرات في تعيين الطريق المنصوب، حتى ينتهي إلى ظن واحد أو إلى ظنون متعددة لا تفاوت بينها، فيحكم بحجية كلها، أو متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقن الاعتبار، فيقتصر عليه (1).

______________________________

فلا مجال لجريان انسداد آخر لتعيينه، و لذا كان الاحتمال الاول بناء على الكشف اولى في المقام.

(1) لا يخفى انه بناء على هذا الاحتمال الثاني و هو نصب الطريق الواصل و لو بطريقه و ان للشارع ان يبين مجعوله بطريقين، فلا مانع من اجراء انسداد آخر لتعيين الخصوصية المحتملة بعد تعيين اصل الظن بالانسداد الكبير.

و على هذا نقول ان الظنون الموجودة ان لم يكن بينها تفاوت اصلا، بان يكون الظن الحاصل من الخبر كالظن الحاصل من الشهرة القدمائية- مثلا- او الاجماع المنقول في لسان الاكابر، أي ان الظن الحاصل من الخبر- مثلا- لا يكون متيقن الاعتبار بالنسبة الى الظن الحاصل من الشهرة القدمائية و لا من الاجماع المنقول في لسان الاكابر، و على هذا فلا مجال لاجراء انسداد آخر، لعدم وجود خصوصية محتملة على الفرض، و حينئذ فالنتيجة هي التعيين من حيث الاسباب و هي كلية ايضا، و يكون كل الظن حجة.

و مثله في عدم المجال لاجراء انسداد آخر فيما اذا لم يكن لنا الا واحد من الظن، بان لا يحصل لنا ظن الا من الخبر- مثلا- و هو واضح في عدم احتمال الخصوصية حينئذ حتى نحتاج لاجراء انسداد آخر.

و اما اذا كانت لنا ظنون متعددة متفاوتة، فتارة يكون بعضها متيقن الاعتبار كالخبر الصحيح الاعلائي- مثلا- بالنسبة الى الشهرة غير القدمائية او بالنسبة الى الاجماع المنقول على لسان غير الاكابر، و كان وافيا بمعظم الفقه، فيكون هو الحجة دون غيره.

ص: 183

و أما بحسب الموارد و المرتبة، فكما إذا كانت النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه، فتدبر جيدا (1).

______________________________

و اخرى لا يكون بينها ما هو متيقن الاعتبار، و حيث فرضنا التفاوت فلا بد و ان يكون بينها ما هو مظنون الاعتبار بخصوصه دون غيره، فلا بد من تعيين ذلك المظنون الاعتبار بخصوصه باجراء مقدمات الانسداد مرة او مرات حتى ننتهي الى ارجح الظنون في الاعتبار، و يكون هو المتعين للحجية دون غيره من الظنون.

و على كل، فلا اهمال في النتيجة من حيث الاسباب، و لذا قال (قدس سره):

«فلا اهمال فيها» أي لا اهمال في النتيجة «بحسب الاسباب لو لم يكن بينها تفاوت اصلا» لما عرفت من عدم امكان اجراء دليل الانسداد الصغير مرة اخرى لتعيين الخصوصية، لفرض عدم الخصوصية، و مثله ما اشار اليه بقوله: «او لم يكن بينها الا واحد» بان تكون الظنون كلها من نوع واحد و صنف واحد، كما اذا لم يكن هناك الا خبر الثقة مثلا.

ثم اشار الى ما فيه التفاوت فاشار اولا الى ما كان التفاوت بتيقن الاعتبار بقوله:

«و إلّا فلا بد من الاقتصار على متيقن الاعتبار منها».

ثم اشار الى ما كان التفاوت بظن الاعتبار بان يكون بينها ما هو مظنون الاعتبار بقوله: «او مظنونه» أي مظنون الاعتبار، و حيث كانت متفاوتة بظن الاعتبار و عدمه و يحتمل اعتبار الخصوصية الموجبة لظن الاعتبار و لا تتعين الا «باجراء مقدمات دليل الانسداد حينئذ مرة او مرات في تعيين الطريق المنصوب» بما هو مظنون الاعتبار «حتى ينتهي اما الى ظن واحد» يكون هو مظنون الاعتبار بخصوصه «او» ينتهي «الى ظنون متعددة لا تفاوت بينها» من حيث ظن الاعتبار بان تكون كلها مظنونة الاعتبار «فيحكم بحجية كلها».

(1) قد عرفت انه على الاحتمال الاول و هو كون الطريق المنصوب هو الواصل بنفسه لا اهمال في النتيجة من حيث الموارد، و نتيجتها كلية، و هي حجية الظن في جميع

ص: 184

و لو قيل بأن النتيجة هو الطريق و لو لم يصل أصلا، فالاهمال فيها يكون من الجهات (1)، و لا محيص حينئذ إلا من الاحتياط في الطريق

______________________________

الموارد لتنجز الاحكام الملزمة في جميع الموارد، و لا خصوصية لمورد دون مورد، و الحال مثله على هذا الاحتمال الثاني و هو واضح، لفرض تنجز الاحكام في موارد اهتمام الشارع و غيرها و فرض وصول الظن و لو بطريقه فيها ايضا، فلا مجال لاحتمال اختصاص حجية الظن بخصوص الموارد التي لم يعلم اهتمام الشارع فيها، و لا مجال لتوهم ان الانسداد قد تكون نتيجته الاحتياط، لوضوح ان جريان الانسداد الصغير لتعيين الخصوصية المأخوذة في الظن الواصل أصله بالانسداد الكبير، و منه تعرف ان النتيجة من حيث المرتبة هي الاهمال من حيث التعميم للظن الضعيف او التخصيص بخصوص الاطمئناني منه، لان التفاوت بين الظنين ليس امرا خارجا عن حقيقة الظن، فاذا كان الظن القوي- أي الاطمئناني- وافيا بمعظم الفقه يكون هو القدر المتيقن.

لا يقال: ان النتيجة انتهت الى التعيين، و هي حجية خصوص الظن الاطمئناني، فكيف يقول هنا و في الاول و هو الطريق الواصل بنفسه ان النتيجة هي الاهمال؟

فانه يقال: ان المراد من الاهمال هو عدم وصول التعيين من الشارع، و انما الأخذ بالظن القوي لاجل كونه قدرا متيقنا.

و قد اتضح مما ذكرنا: ان الحال في الطريق الواصل و لو بطريقه من حيث الموارد و المرتبة كالحال في الاحتمال الاول، و هو كون المجعول الظن الواصل بنفسه من حيث التعيين في الموارد و حجيّة الظن في جميعها و من حيث الاهمال في المرتبة، و لذا قال:

«و اما بحسب الموارد و المرتبة فكما اذا كانت النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه» في ان النتيجة في الموارد معينة و كلية، و في المرتبة مهملة.

(1) هذا هو الاحتمال الثالث- بناء على الكشف- و هو كون المجعول و المنصوب شرعا هو الطريق و لو لم يصل، و الملاك فيه هو ان جعل الطريق هو حكم كسائر

ص: 185

بمراعاة اطراف الاحتمال لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار (1)، لو لم يلزم منه محذور، و إلا لزم التنزل إلى حكومة العقل بالاستقلال، فتأمل فإن

______________________________

الاحكام له مراتب متعددة من الانشاء و الفعلية و التنجز، فكما يمكن ان يكون ساير الاحكام انشائية غير واصلة، فكذلك جعل الطريق فانه يمكن ان يكون منشأ و غير واصل.

و على كل، فعلى هذا الاحتمال فالنتيجة هي الاهمال سببا و مرتبة و موردا، لوضوح ان مقدمات الانسداد لم ينتج منها الا الكشف عن كون الظن مجعولا طريقا شرعا، و حيث لا يلزم وصول المجعول و كان الظن مختلفا من حيث الاسباب نوعا كالظن من الخبر باصنافه أو الاجماع المنقول او الشهرة، بل يحتمل اخذ خصوصية من احد الخصوصيات فيه، ككونه حاصلا من الخبر مثلا، او خصوص خبر العادل منه، او اعم منه باعتبار خصوصية كونه خبر ثقة، و لا مجال لاجراء دليل الانسداد مرة اخرى لتعيينها، لفرض عدم لزوم الوصول حتى يكون دليل الانسداد الصغير معيّنا للخصوصيّة.

فاتضح: ان النتيجة بناء على هذا الاحتمال الثالث هي الاهمال من حيث السبب، و مثله الحال بحسب المرتبة لتفاوت الظنون من حيث القوة و الضعف.

و اما بحسب المورد فكذلك ايضا لاحتمال اعتباره في خصوص ما علم عدم مزيد الاهتمام فيه، و اما في المورد الذي علم مزيد اهتمام الشارع فيه كالفروج و الدماء و حقوق الناس فالاحتياط هو الطريق دون الظن، و لذا قال (قدس سره): «فالاهمال فيها» أي تكون النتيجة- بناء على كون المجعول هو الطريق و لو لم يصل- هو الاهمال «من الجهات» المذكورة كلها سببا و مرتبة و موردا.

(1) لا يخفى ان مراده من الاحتياط في الطريق كما سيشير اليه في جوابه عن التعميم المنسوب الى شريف العلماء، هو الاتيان بما تدل الطرق المثبتة عليه دون الطرق النافية، فمراده من الاحتياط في الطريق بمراعاة اطراف الاحتمال هو العمل على وفق المثبتات من الطرق دون النافيات منها.

ص: 186

المقام من مزال الاقدام (1).

وهم و دفع: لعلك تقول: إن القدر المتيقن الوافي لو كان في البين لما كان مجال لدليل الانسداد، ضرورة أنه من مقدماته انسداد باب العلمي أيضا (2).

______________________________

(1) المراد من المحذور هو لزوم الاختلال او لزوم العسر: أي انه اذا لزم من الاحتياط محذور الاختلال في النظام او العسر يسقط حينئذ اعتبار الظن المكتشف بمقدمات الانسداد، و لا بد من الرجوع الى الحكومة، و السبب في ذلك انه اذا كانت النتيجة هي الاهمال- بناء على ان المجعول هو الطريق و لو لم يصل- و كان اللازم منه هو الرجوع الى الاحتياط، و كان اللازم منه على الفرض احد المحذورين فلا فائدة في اجراء دليل الانسداد مرة اخرى، لان النتيجة هي جعل الطريق و لو لم يصل، الذي قد عرفت ان لازمه الاهمال، و انه لا بد من الاحتياط، و كان الاحتياط على الفرض مستلزما للمحذور، فلا فائدة في الكشف، لوضوح انه بناء عليه لا فائدة في جعل الظن و لو لم يصل، فلا فائدة في اعتبار الشارع لهذا الطريق الذي لم يصل، و حيث علم باهتمام الشارع بامتثال احكامه فلا بد من الرجوع الى حكم العقل مستقلا و تعيينه للطريق الذي يعيّنه لامتثال أحكام الشارع، و الى هذا اشار بقوله: «و الّا» أي و اذا لزم من الاحتياط محذور الاختلال او العسر فيسقط الكشف لعد فائدة في جعل الشارع حينئذ و «لزم التنزل» حينئذ «الى حكومة العقل بالاستقلال».

(2) لا يخفى ان هنا توهمين قد ذكرهما الشيخ الاعظم في رسائله في جملة ما ورد على القول بالكشف.

الاول: ان فرض وجود القدر المتيقن من الطريق المجعول شرعا الوافي بمعظم الفقه ينافي الانسداد، فان من مقدمات الانسداد انسداد باب العلم و العلمي: أي عدم وجود الطريق العلمي للامتثال، ففرض امكان تحقق القدر المتيقن من الطريق مع القول بان نتيجة الانسداد هي الكشف لازمه امكان وجود الطريق المجعول قطعا

ص: 187

لكنك غفلت عن أن المراد ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبله، لاجل اليقين بأنه لو كان شي ء حجة شرعا كان هذا الشي ء حجة قطعا (1)،

______________________________

الذي هو الطريق العلمي، و مع تحقق الطريق العلمي الوافي بمعظم الفقه لا وجه لفرض الانسداد.

الثاني: ان الدليل على حجية القدر المتيقن و هو الخبر الصحيح الاعلائي هو الاجماع القائم على الملازمة بين حجية مطلق الظن و حجية الخبر الصحيح الاعلائي، و فرض تحقق الخبر الصحيح الاعلائي الوافي يرجع الى كون الدليل على حجيته هو الاجماع القائم على حجيته، فيكون الدليل على حجية هذا الخبر الاعلائي مستندا الى الاجماع و هو دليل شرعي لا عقلي، و الحال ان الفرض كون الدليل على الحجية هو الانسداد، و هو دليل عقلي لا شرعي و ان كانت نتيجته هي الكشف عن جعل الظن شرعا، لوضوح كون الدليل على حجية الخبر الاعلائي هو الاجماع القائم على حجيته دون الانسداد.

و عبارة المصنف في مقام بيان الوهم و ان كانت ظاهرة في الوهم الاول، الّا انه يمكن ان تكون شاملة لكلا التوهمين، فان قوله: «ان القدر المتيقن الوافي لو كان في البين لما كان مجال لدليل الانسداد ... الى آخر الجملة» يمكن ان يكون عدم المجال لدليل الانسداد من جهة منافاة وجود القدر المتيقن لدليل الانسداد و هو الوهم الاول، و لاجل ان الدليل على هذا القدر المتيقن لما كان هو الاجماع و هو دليل شرعي فلا مجال لدعوى كون الدال على حجية الظن هو الانسداد و هو دليل عقلي، يؤيد احتمال كون المصنف ارادهما معا في عبارته هو تعرضه لدفعهما معا في عبارته في مقام الجواب.

(1) هذا هو الجواب عن التوهم الاول، و حاصله: انه لا يعقل ان يكون ما هو مبني على دليل الانسداد منافيا لدليل الانسداد.

ص: 188

.....

______________________________

و توضيحه: ان هذا القدر المتيقن انما يكون حجة بواسطة دليل الانسداد القائم الكاشف عن جعل الظن في الجملة، فانه لو لا دلالة دليل الانسداد على كون الظن حجة في الجملة لما نفع الاجماع القائم على انه اذا كان مطلق الظن حجة فالخبر الاعلائي حجة قطعا اما لحجيّته بخصوصه او لحجيّته في ضمن العام، فلا تكون حجية هذا القدر المتيقن الحاصلة بالفعل بواسطة الانسداد منافية لدليل الانسداد .. و كيف تكون منافية مع ان هذا القدر المتيقن انما كان حجة بالفعل لاجل قيام الانسداد على حجية الظن في الجملة؟!

و الحاصل: ان الاجماع هو حجة على الخبر الاعلائي على فرض وجود الحجة على الظن في الجملة، و لما كان دليل الانسداد هو الحجة بالفعل على حجية الظن في الجملة كان هو الدليل بالفعل ايضا على حجية هذا القدر المتيقن، فلا يعقل ان يكون فرض القدر المتيقن منافيا له، و لذا قال (قدس سره): «لكنك غفلت» فانه انما يكون فرض القدر المتيقن منافيا للانسداد حيث تكون الدلالة عليه غير مستندة الى الانسداد، اما اذا كانت حجيته بالفعل مستندة الى الانسداد في الحقيقة لا يكون فرضه منافيا له، فقد غفلت ايها المتوهم «عن ان المراد» من فرض القدر المتيقن هو «ما اذا لو كان اليقين بالاعتبار» لهذا القدر المتيقن قد جاء «من قبله» أي من قبل دليل الانسداد «لأجل» أن «اليقين» بحجيّته هو تعليقي، فان محصله هو القطع «بانه لو كان شي ء» من الظن «حجة شرعا» ل «كان هذا الشي ء» و هو الخبر الاعلائي «حجة قطعا» و دليل الانسداد حيث كان هو الدليل على حجية الظن في الجملة، فتكون حجية هذا القدر المتيقن- و هو الخبر الاعلائي- مستندة بالفعل اليه حقيقة، فلا يعقل ان يكون فرض تحققه منافيا له.

ص: 189

بداهة أن الدليل على أحد المتلازمين إنما هو الدليل على الآخر، لا الدليل على الملازمة (1).

______________________________

(1) هذا راجع الى الجواب عن التوهم الثاني، و حاصله: انه اذا قام دليل على الملازمة بين شيئين فلا يكون دليلا على تحقق احد المتلازمين، لامكان قيام الملازمة بين المحالين، و لذا قالوا ان صدق الشرطية لا يلازم صدق طرفيها، بل تصدق مع العلم بكذب الطرفين، و هو واضح.

و اما اذا قام دليل على وجود احد المتلازمين المفروض تلازمهما فانه لا بد و ان يكون دليلا على وجود الملازم الآخر، لفرض تلازمهما في الوجود، و المقام من هذا القبيل، فان الاجماع الذي هو الدليل الشرعي قائم على الملازمة بين حجية الظن في الجملة و حجية الخبر الاعلائي، و دليل الانسداد قائم على تحقق احد المتلازمين و هو حجية الظن في الجملة، فيكون هو الدليل على الخبر الاعلائي بالفعل دون الاجماع الذي هو دليل الملازمة، و لذا قال (قدس سره): «بداهة ان الدليل على احد المتلازمين» مثل الانسداد القائم على حجية الظن في الجملة «انما هو الدليل على الآخر» بالفعل و هو الخبر الاعلائي الذي هو القدر المتيقن، فالانسداد هو الدليل على القدر المتيقن بالفعل «لا الدليل» الدال «على الملازمة» بين حجية القدر المتيقن و حجية الظن.

و لا يخفى انه كما يمكن ان تكون عبارة المتن جوابا عن التوهم الثاني، كذلك يمكن ان تكون تتمة للجواب عن التوهّم الاول، لما عرفت من ان ظاهر المتن هو التعرّض للتوهّم الاول لا غير، فهي و ان صلحت لأن تكون جوابا عن التوهّم الثاني الّا ان الظاهر كما عرفت عدم تعرّض المصنف له، فيكون ظاهر المتن كونها تتمة للجواب عن التوهّم الاول، و يكون المراد منها على نحو يربطها بالجواب عنه، هو ان فرض القدر المتيقن انما يكون منافيا لدليل الانسداد حيث يتوهم ان الدليل الدال على

ص: 190

ثم لا يخفى أن الظن باعتبار الظن بالخصوص، يوجب اليقين باعتباره من باب دليل الانسداد على تقرير الكشف بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه، فإنه حينئذ يقطع بكونه حجة، كان غيره حجة أولا، و احتمال عدم حجيته بالخصوص لا ينافي القطع بحجيته بملاحظة الانسداد، ضرورة أنه على الفرض لا يحتمل أن يكون غيره حجة بلا نصب قرينة، و لكنه من المحتمل أن يكون هو الحجة دون غيره، لما فيه من خصوصية الظن بالاعتبار، و بالجملة الامر يدور بين حجية الكل و حجيته، فيكون مقطوع الاعتبار.

و من هنا ظهر حال القوة، و لعل نظر من رجح بها إلى هذا الفرض، و كان منع شيخنا العلامة- أعلى اللّه مقامه- عن الترجيح بهما، بناء

______________________________

هذا القدر المتيقن هو غير دليل الانسداد، و ليس هنا ما يمكن ان يتوهم كونه دليلا عليه الا الاجماع القائم على الملازمة بين حجيته و حجية الظن في الجملة.

و من الواضح ان دليل الملازمة لا يكون دليلا على تحقق اللازم، و انما الدليل على تحقق احد المتلازمين هو الدليل على تحقق الملازم الآخر، فالدليل الدال على حجية الظن في الجملة- الذي هو دليل الانسداد- هو الدليل بالفعل على حجية هذا القدر المتيقن، لا الدليل القائم على الملازمة فان غاية ما يدل عليه هو انه لو كان الظن حجة لكان هذا القدر المتيقن حجة، و لكن الدليل الدال على حجية الظن في الجملة يدل بالفعل على حجية هذا القدر المتيقن لانه ملازم له دون الدليل الدال على صرف الملازمة.

فاتضح ان دليل الانسداد هو الدليل بالفعل على حجية القدر المتيقن، و اذا كان الانسداد هو الدليل على حجيّته فكيف يكون فرض هذا القدر المتيقن منافيا للانسداد؟!

ص: 191

التوفيق بين كلام الشيخ الاعظم (قده) و الفاضل النراقي (قده)

على كون النتيجة هو الطريق الواصل و لو بطريقه، أو الطريق و لو لم يصل أصلا، و بذلك ربما يوفق بين كلمات الاعلام في المقام (1)،

______________________________

(1) توضيح الغرض من هذا الكلام هو الخلاف بين الشيخ الاعظم و الفاضل النراقي و غيره، فان الفاضل النراقي يرى ان قوة الظن ككونه مظنون الاعتبار- مثلا- من المرجحات بناء على الكشف.

و قد اورد عليه الشيخ في رسائله بما يرجع الى ان فرض الحاجة الى الترجيح به فرض الاهمال و ان نتيجة الانسداد هي الظن في الجملة، و لا بد ايضا من الدليل على كون ظن الاعتبار مرجحا، اذ كون الظن المتعلق بالحكم حجة لا يستلزم حجية قوة الظن في مقام الترجيح، و على هذا فلا يصح الترجيح بها لانه ترجيح بغير ما هو الحجة، و لا يصح الترجيح شرعا الا بالحجة.

و اراد المصنف ان يجعل النزاع بينهما لفظيا، بان يكون مراد النراقي من الترجيح للقوى هو تعيينه للحجيّة و ان ظن الاعتبار- مثلا- انما هو من دون ملاحظة دليل الانسداد، و اما مع ملاحظته فمظنون الاعتبار هو مقطوع الاعتبار.

و توضيحه: انه قد عرفت ان الاحتمالات- بناء على الكشف في الطريق المنصوب- ثلاثة، الطريق الواصل بنفسه من دون حاجة الى اجراء دليل الانسداد مرة اخرى، فاذا قلنا به فالانسداد كشف عن حجية الظن الواصل بنفسه، و مظنون الاعتبار طريق ظني و اصل بنفسه، فان كان مطلق الظن الواصل حجة فهو حجة، و يحتمل ان يكون هو الحجة بالخصوص لاختصاصه بخصوصية كونه مظنون الاعتبار فيما اذا كان وافيا بمعظم الفقه، فلا بد و ان يكون حجة قطعا في حال الانسداد مع القول بالكشف، و كون الطريق المنصوب هو الواصل بنفسه فهو مظنون الاعتبار مع الغض عن الانسداد، و اما مع ملاحظته فهو مقطوع الاعتبار لانه طريق مجعول قطعا إمّا لجعل مطلق الظن أو لجعله بخصوصه.

ص: 192

.....

______________________________

نعم، لو قلنا بالاحتمالين الآخرين و هو كون نتيجة دليل الانسداد هي حجية الطريق الواصل و لو بطريقه، فلا يكون مظنون الاعتبار مقطوعا باعتباره، لان المفروض ان تعيين مظنون الاعتبار انما هو باجراء دليل الانسداد مرة اخرى لتعيين الخصوصية، فيكون اجراء دليل الانسداد مرة اخرى هو المعيّن دون ظن الاعتبار مثلا، و كذلك لو قلنا بان النتيجة هي حجية الطريق و ان لم يصل، فانه من الواضح يكون ظن الاعتبار لا اثر له لما عرفت من انه بناء عليه يكون اللازم هو مراعاة الاحتياط في الطرق، فلا وجه للترجيح بالقوة ككونه مظنون الاعتبار، و يكون مراد النراقي بالترجيح بالقوة هو تعيين القوي للحجية بناء منه على ان نتيجة الانسداد- على الكشف- هي نصب الطريق الواصل بنفسه.

و يكون مراد الشيخ المانع من الترجيح بالقوة مبنيا على كون النتيجة على الكشف هي اما الطريق الواصل و لو بطريقه او الطريق و ان لم يصل، فقد عرفت انه بناء على ذلك لا يتعين القوي من الظنون لاجل قوته، بل تعيينه اما بانسداد آخر أو لا يتعين اصلا، و يكون المرجع هو الاحتياط.

و قد اشار الى ان مظنون الاعتبار يكون مقطوع الاعتبار- بناء على كون نتيجة الانسداد على الكشف هي الطريق الواصل بنفسه- بقوله: «ان الظن باعتبار الظن بالخصوص يوجب اليقين باعتباره ... الى آخر الجملة».

ثم اشار الى ان كونه مظنون الاعتبار بالذات لا ينافي كونه مقطوع الاعتبار بناء على نصب الطريق الواصل بنفسه على الكشف بقوله: «و احتمال عدم حجيته» فان لازم الظن بشي ء احتمال عدمه ايضا، فلازم كونه مظنون الاعتبار هو كونه مما يحتمل عدم اعتباره ايضا ... فكيف يكون مظنون الاعتبار مقطوع الاعتبار؟! و هي منافاة واضحة.

ثم اشار الى رفع هذه المنافاة بقوله: «لا ينافي القطع بحجيته بملاحظة الانسداد» فانه محتمل عدم الحجية مع الغض عن دليل الانسداد، و اما بملاحظة الانسداد فهو

ص: 193

و عليك بالتأمل التام (1).

______________________________

مقطوع الحجية، و لا منافاة بين كون شي ء محتمل الحجيّة بذاته، و مقطوع الحجية بملاحظة شي ء آخر.

ثم اشار الى الوجه في كونه مقطوع الحجيّة بملاحظة الانسداد بقوله: «ضرورة انه على الفرض» من كونه مظنون الاعتبار «لا يحتمل ان يكون غيره» مما هو غير مظنون الاعتبار «حجة» دون مظنون الاعتبار مع فرض كون النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه، و مظنون الاعتبار قد وصل بنفسه فلا يعقل ان يكون الحجة غيره «بلا نصب قرينة» من الشارع على تعيين على ذلك الظن، فمظنون الاعتبار اما ان يكون هو الحجة دون غيره للخصوصية الموجودة فيه دون غيره و هي كونه مظنون الاعتبار، و اما ان يكون احد مصاديق الحجة فيما اذا كان المجعول هو الظن المطلق، و لذا قال (قدس سره): «و لكنه من المحتمل ان يكون هو الحجة دون غيره لما فيه من خصوصية الظن بالاعتبار ... الى آخر الجملة».

ثم اشار الى انه من المحتمل ان يكون مراد من قال بالترجيح بالقوة هو ما ذكره، لبناء القائل على ان النتيجة هو نصب الطريق الواصل بنفسه بقوله: «و لعل نظر من رجح ب» القوة «الى هذا الفرض».

ثم اشار الى ان منع الشيخ عن الترجيح بالقوة لعله بجعل الطريق الواصل و لو بطريقه او الطريق و لو لم يصل، و قد عرفت انه عليهما لا وجه للترجيح بالقوة بقوله:

«و كان منع شيخنا العلامة ... الى آخر الجملة».

(1) لعله يشير الى ان التامل التام في كلاميهما (قدس سرهما) يعطي غير ما ذكره من التوفيق بين كلاميهما، فان الشيخ انما منع عن الترجيح بالقوة، لقوله بان نتيجة الانسداد على الكشف هي تعميم حجية الظن لكل ظن سواء أ كان مظنون الاعتبار ام لا.

ص: 194

ثم لا يذهب عليك أن الترجيح بهما إنما هو على تقدير كفاية الراجح، و إلا فلا بد من التعدي إلى غيره بمقدار الكفاية (1)، فيختلف الحال باختلاف الانظار (2) بل الاحوال (3).

و أما تعميم النتيجة بأن قضية العلم الاجمالي بالطريق هو الاحتياط في أطرافه (4)، فهو لا يكاد يتم إلا على تقدير كون النتيجة هو نصب

______________________________

و النراقي حيث يرى ان النتيجة هي الاهمال و جعل الظن في الجملة لذا احتاج الى المرجحات.

(1) حاصله: ان الترجيح بالقوة- كظن الاعتبار مثلا- انما هو لتعيين الظن الذي يحصل به امتثال معظم الاحكام او يكون بمقدار المعلوم بالاجمال، فاذا لم يكن مظنون الاعتبار وافيا، فحيث المفروض ان الظن هو المتعين للامتثال دون الاحتياط، فلا بد من التعدي من مظنون الاعتبار الى غيره من الظنون الأخر، الى ان يحصل ما فيه الكفاية للوفاء بالمعظم او لمقدار المعلوم بالاجمال، و لذا قال: «فلا بد من التعدي» من مظنون الاعتبار «الى غيره» من الظنون «بمقدار» ما يحصل به «الكفاية» للوفاء اما بالمعظم او بمقدار المعلوم بالاجمال.

(2) لما كان الظن في المقام هو الظن الشخصي دون النوعي، و حصول الظن الشخصي للاشخاص مختلف، فانه قد يحصل لشخص ظن الاعتبار- مثلا- لجملة من الظنون بحيث تكون وافية، و بعضهم لا يحصل له ذلك المقدار، فيكون التعدي الى غير مظنون الاعتبار مختصا بالثاني دون الاول.

(3) فان الشخص الواحد ربما تكون حاله مختلفة من حيث احتمال الحكم الالزامي في مقام دون مقام.

(4) قد عرفت النتيجة من حيث التعيين و الاهمال على الكشف، و ينسب الى المحقق شريف العلماء تعميم النتيجة على الكشف بغير ما مرّ ذكره.

ص: 195

المناقشة في تعميم النتيجة على الكشف

الطريق و لو لم يصل أصلا (1)، مع أن التعميم بذلك لا يوجب العمل إلا على وفق المثبتات من الاطراف دون النافيات، إلا فيما إذا كان هناك

______________________________

و حاصل ما نسب اليه انه بعد ان كانت مقدمات الانسداد كاشفة عن جعل الطريق فيكون لنا علم اجمالي بان هناك طريقا مجعولا شرعيا لامتثال الاحكام، و مقتضى هذا العلم الاجمالي هو الاحتياط في اطرافه، و اطرافه هي الطرق، و لما كان الطريق هو الظن فلا بد من العمل بجميع الظنون، فتكون النتيجة معينة لا مهملة و هي الاحتياط في جميع الظنون.

و توضيحه: ان مقدمات الانسداد كشفت عن جعل الظن في الجملة، و لازمه ان لا يكون كل ظن حجة، و لكنه حيث لم يعلم من مقدمات الانسداد الا كون الظن في الجملة حجة، و عليه فلنا علم اجمالي بظن مجعول بين هذه الظنون، و مقتضى هذا العلم الاجمالي هو العمل بجميع الظنون احتياطا، لنعلم يقينا باتباع الظن المجعول قطعا فالنتيجة على كل حال عامة.

و الحاصل: ان مقدار كشف مقدمات الانسداد هو كون الظن في الجملة حجة لا كل ظن حجة، و لذا كان العلم الاجمالي بان هناك ظنا- في الجملة- مجعولا هو الموجب للاحتياط في العمل بجميع الظنون، و الى هذا اشار بقوله: «و اما تعميم النتيجة بان قضية العلم الاجمالي بالطريق هو الاحتياط في اطرافه» فتكون النتيجة معيّنة لا مهملة و هي الاحتياط بالعمل بجميع الظنون.

(1) اورد عليه المصنف ايرادين: و هذا هو الايراد الاول، و حاصله: انك قد عرفت ان الاحتمالات في الكشف نصب الطريق الواصل بنفسه، و عليه فالحاصل من الانسداد هو حجية جميع الظنون، فليس لنا علم اجمالي بجعل الطريق على وجه الاجمال حتى يكون مجال للاحتياط، و مثله بناء على كون المنصوب هو الطريق الواصل و لو بطريقه، فانه على هذا الاحتمال نستطيع تعيين الظن المجعول شرعا

ص: 196

ناف من جميع الاصناف، ضرورة أن الاحتياط فيها يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية إذا لزم، حيث لا ينافيه، كيف؟ و يجوز الاحتياط فيها مع قيام الحجة النافية، كما لا يخفى، فما ظنك بما لا يجب الاخذ بموجبه إلا من باب الاحتياط؟ فافهم (1).

______________________________

بخصوصه و لو باجراء الانسداد مرة او مرات، فالطريق المجعول يكون معلوما بالتفصيل لا بالاجمال، فلا مجال للاحتياط عليه ايضا.

نعم بناء على كون المجعول هو الطريق و لو لم يصل فاللازم هو الاحتياط كما مرّ.

فاتضح: ان التعميم بنحو الاحتياط لا يتم الّا على الوجه الثالث، و هو كون النتيجة هي الطريق و لو لم يصل، و لذا قال (قدس سره): «فهو لا يكاد يتم» أي التعميم بنحو الاحتياط لا يتم «الا على تقدير كون النتيجة» في الكشف «هو نصب الطريق و لو لم يصل» و اما بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه او و لو بطريقه فلا وجه للاحتياط.

(1) هذا هو الايراد الثاني، و توضيحه: ان لازم الاحتياط في المقام هو العمل بخصوص الطرق المثبتة للتكاليف دون النافية للتكليف، لان العمل بالطريق المثبت للتكليف موصل اما الى الواقع فيما اذا كان الحكم الالزامي الواقعي على طبق الطريق المثبت للحكم، و اما لا مانع منه فيما اذا اخطأ الظن و لم يكن على طبقه حكم الزامي واقعي، فالعمل بالطرق المثبتة للتكاليف الالزامية على وفق الاحتياط و العمل بها اخذ باحوط الطرق الموصلة الى الواقع، و اما الطرق النافية للتكليف فلا وجه للاحتياط فيها لفرض كونها نافية للتكليف.

فظهر ان الاحتياط في الطرق لاجل العلم الاجمالي يختصّ بالطرق المثبتة دون النافية، ففي الطرق النافية للتكليف لا اثر لهذا العلم الاجمالي.

و قد تبيّن مما ذكرنا: ان المسائل التي يلزم الاحتياط فيها- مثلا- لاجل العلم بمزيد اهتمام الشارع بها كالفروج و الدماء و حقوق الناس، لا وجه للعمل فيها بالظن النافي

ص: 197

.....

______________________________

للتكليف حيث لا يجب العمل به، و لما لم يعلم حجيّته بالخصوص لفرض كون الاخذ به من باب العلم الاجمالي، و حيث نحتمل التكليف الالزامي الذي هو موقع اهتمام الشارع لو كان و لا مانع من الاحتياط فيه، حيث يكون الفرض فرض عدم لزوم العسر و الحرج و عدم الاختلال في النظام، بل لا بد من العمل به لعدم قيام الحجة الشرعية في قباله، لما عرفت من ان العمل بالطرق من باب العلم الاجمالي لا يقتضي حجية الظن النافي للتكليف، فلا يجوز رفع اليد عن الاحتياط فيها، لانه رفع يد عن تكليف منجز لو كان من دون قيام حجة على رفعه، فيجب الاحتياط في هذه المسائل الفرعيّة.

نعم لو قامت جميع الظنون على نفي التكليف لما وجب الاحتياط للعمل بوجود الحجة الشرعية في قبال الاحتياط، و ان كان لا مانع من الاحتياط بنحو الجواز دون الوجوب.

اما مع عدم قيام جميع الظنون على نفيه فلا يكون لنا علم بوجود الحجة على نفيه، و حيث يلزم فيه الامتثال فلا بد و ان يكون بنحو الاحتياط فيكون الاحتياط فيها واجبا.

فاتضح مما ذكرنا: ان التعميم لكل ظن بواسطة العلم الاجمالي لا يتمّ في كل ظن، بل يختص بخصوص الظنون المثبتة فتكون النتيجة خاصة لا عامة، و لذا قال (قدس سره): «مع ان التعميم بذلك» أي بواسطة العلم الاجمالي بظن مجعول في ضمن هذه الظنون «لا يوجب» التعميم و العمل بكل ظن، بل لا يوجب «العمل الا على وفق» خصوص «المثبتات من الاطراف» أي الظنون المثبتات للتكاليف «دون» الظنون «النافيات» للتكاليف، لما عرفت من عدم حجية الظن النافي في مقام العلم الاجمالي بحجية ظن من الظنون، و لا تكون الظنون النافية حجة «الا فيما اذا كان هناك ناف من جميع الاصناف» للعلم حينئذ بوجود الحجة القائمة على النفي، اما اذا لم يكن هناك ظن ناف من جميع الاصناف للظنون فلا يجوز رفع اليد

ص: 198

اشكال خروج القياس عن عموم النتيجة

فصل قد اشتهر الاشكال بالقطع بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد (1)

______________________________

عن الاحتياط فيما اذا كان لازما في المسألة الفرعيّة، لما عرفت من عدم حجة الظن النافي فيما اذا كان الموجب للاخذ بالظن هو العلم الاجمالي بحجية ظن من الظنون، و لذا قال (قدس سره): «ضرورة ان الاحتياط فيها» أي في الظنون لاجل العلم الاجمالي بحجية احدها «لا يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية اذا لزم» الاحتياط في المسألة الفرعيّة «حيث لا ينافيه» أي حيث لا ينافي هذا الاحتياط اللازم في المسألة الفرعية الظن النافي للعلم الاجمالي بحجية ظن من الظنون، لانه انما يقتضي الاحتياط في خصوص الظنون المثبتة دون النافية فيه، فيكون رفع يد عن الاحتياط اللازم في المسألة من دون حجة تنافيه.

ثم اشار الى ان الاحتياط في مورد الظن النافي للتكليف يجوز و لو كان الظن النافي حجة، فلا يتوهّم منافاة الاحتياط للظن النافي مطلقا بقوله: «كيف و يجوز الاحتياط فيها» أي في المسألة الفرعية «مع قيام الحجة النافية» للتكليف لان الاحتياط حسن على كل حال «فما ظنك بما لا يجب الاخذ بموجبه الا من باب الاحتياط» أي حيث يجوز الاحتياط مع قيام الحجة النافية فبالطريق الاولى انه يجوز الاحتياط في المسألة الفرعية فيما كان الاخذ بموجب الظن لاجل الاحتياط بحجية احد الظنون، الذي قد عرفت انه لا يقتضي الّا العمل على طبق الظنون المثبتة دون الظنون النافية للتكاليف.

(1) لا يخفى ان المستفاد من النصوص الدالة على المنع عن العمل بالقياس، و من الاجماعات الكثيرة على عدم جواز العمل بالقياس مما يقطع بالنهي عن العمل بالقياس مطلقا، سواء على الانفتاح او على الانسداد، فعلى تمامية الاشكال الآتي في خصوص الانسداد على الحكومة يكون من قبيل الشبهة في مقابل البديهة للعلم بخروج الظن الحاصل من القياس و لو قلنا بالحكومة في الانسداد.

ص: 199

بتقرير الحكومة (1)، و تقريره على ما في الرسائل أنه كيف يجامع حكم العقل بكون الظن كالعلم مناطا للاطاعة و المعصية، و يقبح على الآمر

______________________________

(1) السبب في اختصاص الاشكال بالحكومة دون مسلكي الكشف و التبعيض في الاحتياط، انه بناء على الكشف و ان نتيجة الانسداد هي جعل الشارع للظن في حال الانسداد، فلا مجال لتوهم الاشكال بخروج الظن القياسي عنه، فانه بعد ان كان الظن مجعولا شرعا فادلة خروج الظن القياسي عنه توجب اختصاص الظن الانسدادي المجعول شرعا بغير الظن الحاصل من القياس، لوضوح انه للجاعل ان يخرج عن جعله ما يشاء و يدخل فيه ما يشاء.

لا يقال: ان جعل الشارع للظن في الانسداد انما هو لاجل طريقيّته الراجحة على الشك و الوهم، فلا فرق بين الظن القياسي و غيره من حيث كون كل منهما طريقا راجحا على الشك و الوهم، فالاشكال على فرضه لا يختص بالحكومة بل يرد حتى على الكشف.

فانه يقال، اولا: انه لو كانت طريقيّة الظن و رجحانه هي العلة التامة لحجيته لما احتجنا الى جعل له من الشارع، و تكون نتيجة الانسداد هي الحكومة دون الكشف و هو خلف، لفرض كون الانسداد على الكشف لا يكتفى في حجية الظن عليه بأرجحية الظن بل لا بد من جعل الشارع له.

و الحاصل: ان طريقيّة الظن و أرجحيّته تكون من قبيل ما هو المقتضي للموضوع الذي له الجعل من الشارع، و اما حجيّته فعلّتها جعل الشارع.

و ثانيا: ان جعل الشارع للظن في حال الانسداد على الكشف بما هو طريق انما هو لكونه اقرب الطرق الى الواقع دون الشك و الوهم، و منع الشارع عن الظن القياسي يكون كاشفا عن عدم قرب هذا الظن الى الواقع، فلا مانع من النهي عن الظن القياسي بناء على الكشف اصلا.

ص: 200

و المأمور التعدي عنه، و مع ذلك يحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القياس، و لا يجوز الشارع العمل به (1)؟ فإن المنع عن العمل بما يقتضيه

______________________________

و كذلك بناء على مسلك التبعيض في الاحتياط في الانسداد، فانه لا اشكال في خروج الظن القياسي عنه، فان مسلك التبعيض في الاحتياط في الانسداد معناه عدم حجية الظن في الانسداد، لان العمل على طبق الظنون المثبتة ليس عملا بها، بل هو عمل بالاحتياط، و في الظنون النافية لا موجب للعمل على طبقها حتى يكون في النهي عن الظن القياسي النافي للتكليف اشكال.

فاتضح: ان الاشكال بخروج الظن القياسي يختص بتقرير الحكومة.

(1) تقرير الاشكال في النهي عن الظن القياسي بناء على الحكومة:

ان مقدمات الانسداد- بناء على الحكومة- تستلزم عقلا حجية الظن، لاستلزام تلك المقدمات عقلا قبح ترك الاطاعة الظنيّة و تقديم الوهمية و الشكية عليها، و معنى قبح ترك الاطاعة الظنية عقلا هو حجية الظن عقلا.

و النهي عن الظن القياسي:

اما ان يرجع الى كون الظن ليس بما هو ظن حجة فهو خلف، لان المفروض كون الظن بما هو ظن حجة، و الحاصل من القياس ظن كسائر الظنون العادية، ان قلنا ان مطلق الظن حجة، او ان الحاصل منه مرتبة الظن القوي ان قلنا بان خصوص الظن القوي هو الحجة.

و اما ان يرجع النهي عن الظن القياسي مع تسليم كون الظن بما هو ظن حجة الى جواز انفكاك المعلول عن علته التامة، فالرجحان و ان كان هو العلة لحجية الظن إلّا انه ينفك المعلول عن علته التامة، و هذا محال واضح، لان انفكاك المعلول عن علته التامة من المحالات المسلمة برهانا بل وجدانا.

ص: 201

العقل من الظن، أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكنا، جرى في غير القياس، فلا يكون العقل مستقلا، إذ لعله نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القياس و اختفى علينا، و لا دافع لهذا الاحتمال إلا قبح ذلك على الشارع، إذ احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلا

______________________________

و اما ان يرجع الى جواز ارتكاب الشارع للقبيح، لانه اذا كان الظن بما هو ظن حجة و المعلول لا ينفك عن علته التامة فالمقدمات المذكورة تستلزم عقلا قبح ترك الاطاعة الظنية، فالنهي عن اتباعها و تركها الى غيرها قبيح.

فالظن حيث يكون بما هو ظن حجة، و كونه ظنا راجحا على غيره من الشك و الوهم هو العلة التامة لقبح ترك اتباعه- فترك اتباعه من المأمور قبيح و من الامر به قبيح ايضا، و مع ذلك نلتزم بنهي الشارع عنه، فمعنى هذا هو الالتزام بجواز ارتكاب الشارع للقبيح.

هذا حاصل الاشكال في النهي عن الظن القياسي بناء على الحكومة، و هو انه اما ان يستلزم الخلف او جواز انفكاك المعلول عن علته التامة، او جواز ارتكاب الشارع للقبيح.

و لا يخفى ان عبارة الرسائل غير واضحة في ترتيب هذا الاشكال.

فان المتحصّل من صدر العبارة هو ان الانسداد بناء على الحكومة هو حكم العقل بكون الظن في حال الانسداد منزلة العلم في حال الانفتاح، و ان الاطاعة الظنية في حال الانسداد كالاطاعة العلمية هي المناط التام لحجيتها. فيمكن ان يكون هذا اشارة الى الامرين و هو ان النهي عن الظن القياسي في الانسداد بعد ان كان الظن هو المناط التام اما خلف او التزام بتخلف المعلول عن علته التامة.

و قوله (قدس سره): «و يقبح على الآمر و المامور التعدي عنه» اشارة الى الامر الثالث و هو الالتزام بجواز ارتكاب الشارع للقبيح.

ص: 202

بقبحه (1)، و هذا من أفراد ما اشتهر من أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص ... انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه (2).

______________________________

(1) لا يخفى ان هذا دفع دخل مرتبط بالامر الثالث، و هو جواز ارتكاب الشارع للقبيح.

و توضيحه: انه لا ينبغي ان يتوهم عدم قبح النهي عن الظن القياسي، بدعوى ان حكومة العقل بحجيته معلقة على عدم النهي عنه، فمع النهي عنه لا حكومة للعقل بحجيته فلا قبح في النهي عنه، لان القبيح هو المنع عن حجية ما حكم العقل بحجيته، و مع كونها معلقة على عدم النهي لا حكومة للعقل فيه فلا قبح في النهي عنه.

و حاصل الدفع لهذا التوهم: ان حكم العقل بحجيته غير معلقة على عدم النهي عنه، فانها لو كانت معلقة على عدم النهي فلا فرق بين وصول النهي و بين احتماله، فان احتمال المانع كوجود المانع، فانه لا بد من احراز عدم المانع في تأثير المقتضي، و من الواضح ان احتمال المنع بالنسبة الى ساير الظنون موجود، لاحتمال ان الشارع قد نهى عنها و لكن اختفى علينا نهيه، و لا يدفع هذا الاحتمال إلّا بان العقل مستقل بالحجية، و معه لا وجه لمنع الشارع لانه قبيح و لا يصدر من الشارع القبيح، فالنهي عن الظن و ان كان ممكنا بالذات إلّا انه محال في المقام لأنه قبيح وقوعه، و لا يصدر القبيح من الشارع، و لذا قال (قدس سره): «لو فرض ممكنا جرى في غير القياس الى آخر عبارته».

فالعقل في حال الانسداد مستقل بحجية الظن، و ان الاطاعة الظنية كالعلمية في حال الانفتاح يقبح التعدي عنها و تركها على المأمور و الآمر معا، و ان محالية صدور القبيح من الشارع كما يدفع احتمال النهي كذلك يدفع النهي المقطوع به.

(2) لا يخفى ان احكام العقل الكلية انما هي لكون علتها كلية، فالتخصيص لها مرجعه الى انفكاك المعلول عن علته، و هذا بظاهره يرتبط بالمحال الثاني و هو لزوم

ص: 203

و أنت خبير بأنه لا وقع لهذا الاشكال، بعد وضوح كون حكم العقل بذلك معلقا على عدم نصب الشارع طريقا و اصلا، و عدم حكمه به فيما كان هناك منصوب و لو كان أصلا، بداهة أن من مقدمات حكمه عدم وجود علم و لا علمي، فلا موضوع لحكمه مع أحدهما (1)، و النهي عن

______________________________

انفكاك المعلول عن علته، الّا ان يتكلّف له بان يقال ان العقل يرى محالية الخلف كليا، و لا فرق عنده بين خلف و خلف، فالنهي في المقام اذا كان خلفا فهو كغيره محال، فلا يعقل ان يجوز في المقام، و كذلك ارتكاب الشارع للقبيح بعد ان كان محالا عند العقل ايضا فهو محال، و لا فرق بين ارتكاب قبيح و قبيح فيعم المحالات الثلاثة.

(1) المتحصّل من عبارة المتن في المقام جوابان عن هذا الاشكال: جواب حلّي، و جواب نقضي.

و الاول هو الجواب الحلّي الذي اشار اليه بقوله: «بانه لا وقع لهذا الاشكال بعد وضوح كون حكم العقل بذلك» أي ان الاطاعة الظنية كالاطاعة العلمية في حال الانسداد، و انه يقبح تركها عند العقل .. قد كان حكما عند العقل «معلّقا الى آخر الجملة».

و توضيحه: ان حكم العقل مستقلا في حال الانسداد بكون الاطاعة بمنزلة الاطاعة العلمية انما هو بعد تمامية مقدمات الانسداد، التي من جملتها انسداد باب العلم و العلمي، فلو فرض انفتاح باب العلم و العلمي في جميع ابواب الفقه لما وصلت النوبة الى الانسداد، و لما حكم العقل بقبح ترك الاطاعة الظنيّة، و لو فرض انفتاح باب العلم و العلمي في باب مخصوص و مسألة خاصة من الفقه لما كان في ذلك الباب او في تلك المسألة مجال، لحكم العقل بقبح ترك الاطاعة الظنيّة، لعدم موضوع حكمه و هو الانسداد، و بعد كون النهي عن الظن القياسي قد وصل بالقطع سنة و اجماعا، ففي هذا بالخصوص قد انفتح باب العلم و العلمي، فلا مجال لتوهّم

ص: 204

ظن حاصل من سبب ليس إلا كنصب شي ء (1)، بل هو يستلزمه فيما كان

______________________________

شمول الحكم المعلّق على الانسداد لمثله بعد كونه مما انفتح فيه باب العلم و العلمي، و هو خارج عن الحكم الانسدادي تخصّصا لا تخصيصا لعدم موضوع الانسداد فيه.

و الحاصل: انه اذا وصل طريق من الشارع في باب مخصوص او مسألة خاصة، سواء كان ذلك الطريق الواصل في ذلك الباب او تلك المسألة امارة أو اصلا، كما لو علمنا علما قطعيّا بحجية خبر الثقة في باب الطهارة مثلا أو بحجية اصالة الطهارة في خصوص ما شك في طهارته او نجاسته شكا بدويا، فانه لا مجال فيهما لجريان الانسداد و حجية الظن عند العقل في هذين الموردين بعد فرض انفتاح باب العلمي فيهما.

و قد اشار الى عدم الفرق في الطريق الواصل بين كونه امارة أو اصلا بقوله:

«و لو كان اصلا».

و أشار الى ان ما وصل فيه الطريق الشرعي هو من الانفتاح الخارج موضوعا و تخصصا عن الانسداد و احكامه بقوله: «بداهة ان من مقدمات حكمه» أي من مقدمات حكم العقل بكون الاطاعة الظنية كالاطاعة العلمية في حال الانسداد هو «عدم وجود علم و لا علمي فلا موضوع لحكمه مع احدهما» لارتفاع موضوع حكم العقل بوجود العلم و العلمي، لانه فرض الانفتاح لا الانسداد.

(1) هذا هو الجواب الثاني و مرجعه الى النقض، و توضيحه: ان نهي الشارع عن اتباع طريق خاص حاصل من سبب خاص، كالنهي عن الظن الحاصل بسبب القياس هو حكم من الشارع كسائر احكامه الثابتة بأوامره، لوضوح ان النهي عن شي ء شرعا كالامر بشي ء شرعا، و من البديهي انه لم يستشكل احد فيما لو وصل بالقطع حكم خاص من الشارع في باب مخصوص او مسألة مخصوصة مع فرض الانسداد و البناء على الحكومة، و لم يتوهم احد ان جعل الشارع لحكم خاص في

ص: 205

في مورده أصل شرعي (1)، فلا يكون نهيه عنه رفعا لحكمه عن موضوعه، بل به يرتفع موضوعه، و ليس حال النهي عن سبب مفيد للظن إلا

______________________________

مورد مناف للانسداد على الحكومة، و لا سبب لعدم توهم ذلك إلّا ان وصول الحكم من الشارع في ذلك المورد موجب لخروج ذلك المورد عن موضوع الانسداد لانفتاح باب العلم و العلمي فيه.

و بعد ما عرفت ان نهي الشارع عن اتباع طريق لحكمه بحكم من الاحكام الثبوتية فانه ايضا حكم من احكام الشارع، غايته ان نهيه حكم زجري و امره حكم طلبي ثبوتي، و ليس هذا بفارق قطعا، و هذا هو مراده من قوله: «و النهي عن ظن حاصل الى آخر الجملة».

(1) حاصله: انه اذا كان من المسلم انه لا اشكال في الحكم الثبوتي الواصل من الشارع في مورد من الموارد مع الانسداد و البناء على الحكومة، فينبغي ان لا يستشكل في النهي عن اتباع الظن القياسي في المقام، لان لازم نهي الشارع عن اتباعه هو جعل الشارع في مورد الظن القياسي حكما آخر غيره، و لا بد و ان يكون ذلك الحكم اصلا من الاصول، لانه بعد فرض الانفتاح في النهي عن الظن عن القياس، و لا يعقل ان يكون في مورد الظن القياسي ظن آخر لمحالية قيام ظنين عند شخص في آن واحد يتعلق احدهما بشي ء و يتعلق الآخر بضد ذلك الشي ء او نقيضه، فلا بد و ان يكون الحكم المجعول في مورد النهي عن الظن القياسي اصلا من الاصول يكون هو المرجع دون الظن القياسي، و قد عرفت ان الحكم الثبوتي الواصل في مورد من الموارد لا مجال لتوهم الاشكال فيه، فلا ينبغي الاشكال في النهي عن الظن القياسي في المقام، لان لازم وصول النهي عنه وصول حكم من الشارع في مورده و هو ما لم يتوهم الاشكال فيه، و الى هذا اشار بقوله: «بل هو يستلزمه» أي ان النهي عن الظن القياسي يستلزم وصول الحكم الثبوتي في مورده، و ذلك «فيما كان

ص: 206

كالامر بما لا يفيده، و كما لا حكومة معه للعقل لا حكومة له معه، و كما لا يصح بلحاظ حكمه الاشكال فيه، لا يصح الاشكال فيه بلحاظه (1).

______________________________

في مورده» أي في مورد الظن القياسي «اصل شرعي» فان هذا الاصل الشرعي حكم ثبوتي قد وصل بالقطع.

(1) هذا عودة من المصنف لاستعراض الجوابين:

اما الجواب الاول فقد اشار اليه بقوله: «فلا يكون نهيه عنه» أي لا يكون نهي الشارع عن الظن القياسي في حال الانسداد تخصيصا للحكم الانسدادي و «رفعا لحكمه» أي رفعا للحكم الانسدادي «عن موضوعه» بان يكون نهي الشارع عن الظن القياسي مع فرض شمول الانسداد له فيكون تخصيصا و رفعا للحكم مع ثبوت موضوع ذلك الحكم، «بل» هو من باب التخصيص و ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه حقيقة، لما عرفت من ان وصول النهي بالقطع مما يوجب الانفتاح الرافع لموضوع الانسداد حقيقة، و لذا كان «به يرتفع موضوعه» أي بوصول النهي يرتفع موضوع الانسداد حقيقة فلا يكون رفعا للحكم مع ثبوت الموضوع، بل يكون رفعا للحكم برفع الموضوع حقيقة.

و قد اشار الى الجواب الثاني بقوله: «و ليس حال النهي عن سبب مفيد للظن» كالنهي عن القياس المفيد للظن «الا كالامر» من الشارع في باب مخصوص او مسألة مخصوصة «بما لا يفيده» أي بما لا يفيد الظن، و قد عرفت عدم الاشكال فيما لو وصل بالقطع حكم من الشارع في مورد خاص، مع فرض الانسداد و البناء على الحكومة و لو كان ذلك الحكم على طبق اصل من الاصول، و من الواضح ان الحكم لاصل لا يوجب الظن، بل لا اشكال في اتباع ذلك الحكم الثابت بالاصل و لو كان هناك ظن على خلافه، و قد عرفت ان نهي الشارع عن اتباع ظن حاصل من سبب خاص كأمره بحكم ثبوتي في مورد خاص «و» انه «كما لا حكومة معه للعقل» أي كما لا حكومة للعقل في مورد الحكم الثبوتي كذلك «لا حكومة له» أي للعقل

ص: 207

نعم، لا بأس بالاشكال فيه في نفسه، كما أشكل فيه برأسه بملاحظة توهم استلزام النصب لمحاذير، تقدم الكلام في تقريرها و ما هو التحقيق في جوابها في جعل الطرق. غاية الامر تلك المحاذير- التي تكون فيما اذا أخطأ الطريق المنصوب- كانت في الطريق المنهي عنه في مورد الاصابة، و لكن من الواضح أنه لا دخل لذلك في الاشكال على دليل الانسداد بخروج القياس، ضرورة أنه بعد الفراغ عن صحة النهي عنه في الجملة، قد أشكل في عموم النهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل، و قد عرفت أنه بمكان من الفساد (1) و استلزام إمكان المنع عنه، لاحتمال المنع

______________________________

«معه» أي مع الحكم الزجري الذي هو النهي عن ظن خاص بسبب خاص «و كما لا يصح بلحاظ حكمه» أي بلحاظ حكم العقل في الانسداد «الاشكال فيه» أي الاشكال في الحكم الثبوتي كذلك «لا يصح الاشكال فيه» أي في الحكم الزجري و هو النهي عن الظن القياسي «بلحاظه» أي بلحاظ الانسداد.

و الحاصل: ان الامر بما لا يفيد الظن في حال الانسداد هو كالنهي عما يفيد الظن في حال الانسداد، فانه بعد فرض استقلال العقل بلزوم الاطاعة الظنية في حال الانسداد، فالامر بالاطاعة الشكية أو الوهمية في مورد من الموارد حاله حال النهي عن الاطاعة الظنية الحاصلة من سبب خاص.

و كما انه يجاب في الاول بانه لا وجه لاستقلال العقل بلزوم الاطاعة الظنية مع انفتاح الباب و وصول الحكم من الشارع و لو كانت اطاعة شكية او وهمية، كذلك يجاب عن الثاني بانه مع وصول نهي الشارع ينفتح الباب ايضا، فلا مجال لاستقلال العقل بلزوم الاطاعة الظنية و لو كانت بهذا الظن المنهي عنه.

(1) توضيح هذا الاشكال انه قد عرفت في مورد النهي عن الظن القياسي انه لا بد و ان يكون المجعول من الشارع اصلا من الاصول لفرض الانفتاح في ذلك المورد، و لا مانع مع فرض الانفتاح من الرجوع الى الاصول، و لا يكون المجعول في مورده

ص: 208

.....

______________________________

ظنا، لعدم امكان ان يقوم ظنان في آن واحد لشخص واحد متعلقان بمتناقضين او متضادين، و لكن جعل الاصل في مورد الظن القياسي يستلزم اجتماع الضدين، او التصويب فيما لو كان الحكم الواقعي موافقا لما قام عليه الظن القياسي، و هذا هو الاشكال الذي مر التعرض له في جعل الامارة، غاية الامر ان لزوم اجتماع الضدين هناك فيما أخطأت الامارة، بان قامت الامارة على الوجوب مثلا و كان الحكم هو الحرمة او بالعكس، و في المقام لزوم اجتماع الضدين هو فيما اذا اصاب الظن القياسي الحكم الواقعي، فالنهي عن الظن القياسي المستلزم لجعل حكم في مورده يستلزم اجتماع الضدين فيما اذا اصاب الظن القياسي، فانه اذا اصاب الظن القياسي الواقع يكون الحكم الواقعي على خلاف حكم الاصل في مورد الظن القياسي، فيلزم اجتماع الضدين، او التصويب فيما اذا قلنا بانه عنه قيام الاصل يرتفع الحكم الواقعي.

و لكنه لا يخفى ان الاشكال في المقام الذي هو محل الكلام هو امكان النهي عن الظن القياسي بما هو نهي عن الظن القياسي في حال الانسداد، لا لان النهي عنه يستلزم محذور اجتماع الحكم الواقعي و الظاهري، بل الاشكال في المقام في النهي عن الظن القياسي بعد الفراغ عن عدم المحذور في جعل الحكم الظاهري.

و يدل على ذلك ايضا ان الاشكال مختص بالحكومة دون الكشف، مع ان محذور الاجتماع موجود على الكشف ايضا.

و قد اشار الى نفس الاشكال بلزوم اجتماع الحكم الظاهري و الواقعي في مورد النهي عن الظن القياسي بقوله: «بملاحظة توهم استلزام النصب لمحاذير الى آخر الجملة».

و اشار الى الفرق بين هذا الاشكال في المقام و بينه في الامارة بان محذور الاجتماع هنا في ما اذا اصاب الظن القياسي الواقع، و في الامارة فيما اذا اخطأت الامارة الواقع بقوله: «غاية الامر تلك المحاذير الى آخر الجملة».

و المراد من قوله: «في مورد الاصابة» هو مورد اصابة الظن القياسي الواقع.

ص: 209

عن أمارة أخرى و قد اختفى علينا، و إن كان موجبا لعدم استقلال العقل، إلا أنه إنما يكون بالاضافة إلى تلك الامارة، لو كان غيرها مما لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية، و إلا فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض استقلال العقل، ضرورة عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعة، على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع و الممنوع (1). و قياس حكم

______________________________

و قد اشار الى ان هذا الاشكال لا ربط له بما هو المهم من الاشكال في المقام بقوله: «و لكن من الواضح الى آخر الجملة».

قوله: «و قد عرفت انه بمكان من الفساد» أي قد عرفت ان الاشكال في المقام في عدم معقولية النهي عن الظن القياسي- بناء على الحكومة- بمكان من الفساد، لما مر من الجوابين عنه.

(1) بعد ان فرغ من الجواب عن الاشكال في النهي عن الظن القياسي، تعرض لعبارة الرسائل في تقرير الاشكال، و قد مر ان العبارة يدل صدرها على شي ء و ذيلها يدل على شي ء آخر، و سيأتي التعرض لصدرها، و اما ذيلها فقد تعرض له بقوله:

«و استلزام امكان المنع ...».

و حاصله: ان المتحصل من عبارة الذيل، هو انه لو كان منع الشارع عن الظن القياسي ممكنا من الشارع الحكيم و لا قبح فيه، بدعوى كون حكومة العقل في حجية الظن معلقة على عدم المنع من الشارع، فيكون المنع من الشارع بما هو منع لا مانع منه، و بعد تحقق المنع من الشارع عن الظن القياسي لا حكومة للعقل بحيث يشمل الظن القياسي.

و حاصل ما تضمنه ذيل عبارة الرسائل في دفع هذه الدعوى في انه لو كان المنع بما هو منع ممكنا، و ان حجية الظن عند العقل معلقة على عدم المنع لما امكن حكم العقل بحجية سائر الظنون الأخرى غير الظن القياسي، لانه اذا كان المنع من الشارع ممكنا فلا مانع من وقوعه، و كل ما لا مانع من وقوعه فهو محتمل الوقوع، فاحتمال

ص: 210

.....

______________________________

المنع عن ساير الظنون موجود، لاحتمال كون الشارع قد منع عنها و لم يصل منعه الينا، فلا يكون للعقل حكومة في حجية ساير الظنون، لان حكومة العقل بالنسبة الى الحجية فيها من قبيل المقتضي، و مع احتمال المانع لا وجه لتأثير المقتضي فيها.

و حاصل ما اورده المصنف على هذا الذيل هو: انا نقول بان امكان المنع يستلزم احتمال المنع، و ان المنع لا قبح فيه، و حكومة العقل معلقة على عدم هذا المانع، و النافي لاحتمال المنع في ساير الظنون- غير الظن القياسي- ليس هو القبح كما هو صريح عبارة الذيل، بل النافي له هو اهتمام الشارع المحرز بموجب المقدمة الثالثة في الانسداد، فانه في الظنون التي هي بمقدار الكفاية الوافية بمعظم الاحكام او بمقدار العلم الاجمالي لا نحتمل المنع بعد اهتمام الشارع بامتثال احكامه المنحصر في الظن، و هذا هو النافي لاحتمال المنع بالنسبة الى الظنون التي هي بمقدار الكفاية، و لذا كان في الظن الخارج عن المعظم او عن مقدار المعلوم بالاجمال لا حكومة للعقل بالنسبة اليه، لاحتمال منع الشارع عنه.

و قد اشار الى ان امكان المنع يلازم احتمال المنع بقوله: «و استلزام امكان المنع عنه» أي عن الظن «لاحتمال المنع» لوضوح ان كل ما لا مانع عن تحققه فهو محتمل التحقق، فنحتمل ان يكون الشارع قد نهى «عن امارة اخرى» غير الظن القياسي «و قد اختفى علينا» منعه عنها.

و اشار الى انه مع منع الشارع لا حكومة للعقل، فحكومته معلقة على عدم المنع، و لازم ذلك هو عدم استقلاله مع احتمال المنع بقوله: «و ان كان موجبا لعدم استقلال العقل».

و قد اشار الى ان احتمال المنع انما يكون بالنسبة الى الظن الخارج عن قدر الكفاية، و في هذا الظن لا استقلال للعقل لاحتمال المنع، و اما في الظنون التي هي بمقدار الكفاية فلا نحتمل المنع عنها من الشارع، و الرافع للاحتمال فيها هو اهتمام الشارع و انحصار طريق الامتثال فيها بالظن، لا ما ذكر في الذيل من رفع الاحتمال

ص: 211

العقل بكون الظن مناطا للاطاعة في هذا الحال على حكمه بكون العلم مناطا لها في حال الانفتاح، لا يكاد يخفى على أحد فساده، لوضوح أنه مع الفارق، ضرورة أن حكمه في العلم على نحو التنجز، و فيه على نحو التعليق (1).

______________________________

برفع الامكان بقوله: «إلّا انه» أي إلّا ان عدم استقلال العقل بالحجية لاحتمال المنع «انما يكون بالاضافة الى تلك الامارة» الخارجة عن مقدار الكفاية، و ذلك فيما «لو كان غيرها» من الظنون التي هي «مما لا يحتمل فيه المنع» لانها «بمقدار الكفاية».

و اشار الى ان الرافع لاحتمال المنع في الظنون التي هي بمقدار الكفاية هو استقلال العقل بعدم المنع عنها للاهتمام و انحصار الامتثال في الظن بقوله: «و إلّا فلا مجال لاحتمال المنع فيها» أي في الظنون التي هي بمقدار الكفاية «مع فرض استقلال العقل».

و اشار الى ان حكم العقل من قبيل المقتضي و مع احتمال المانع لا تاثير له بقوله:

«ضرورة عدم استقلاله» أي ضرورة عدم استقلال العقل «بحكم مع احتمال وجود مانعة» فانه لا تأثير للمقتضي الا مع احراز عدم تحقق المانع، و مع احتمال المانع لا احراز لعدم المانع، فلا يستقل العقل بحكمه المعلق على عدم المانع مع احتمال وجود المانع عن حكمه.

(1) هذا هو التعرض للصدر، و قد عرفت ان صدر عبارة الرسائل هي قياس الاطاعة الظنية في حال الانسداد- على الحكومة- بالاطاعة العلمية في حال الانفتاح، و انه كما ليس للشارع التصرف في الاطاعة العلمية، كذلك ليس له التصرف في حال الانسداد- على الحكومة- بالاطاعة الظنية.

و حاصل مؤاخذة المصنف له: هو ان القياس مع الفارق، فان حكم العقل بالاطاعة العلمية غير معلق على شي ء، لان العلم علة تامة في آثاره، فحكم العقل

ص: 212

ثم لا يكاد ينقضي تعجبي لم خصصوا الاشكال بالنهي عن القياس، مع جريانه في الامر بطريق غير مفيد للظن، بداهة انتفاء حكمه في مورد الطريق قطعا، مع أنه لا يظن بأحد أن يستشكل بذلك، و ليس إلا لاجل أن حكمه به معلق على عدم النصب، و معه لا حكم له، كما هو كذلك مع النهي عن بعض أفراد الظن، فتدبر جيدا (1).

______________________________

فيه منجز على كل حال، و لا يعقل التعليق فيه بعد ان كان علة تامة، بخلاف حكم العقل في حال الانسداد بالنسبة الى الاطاعة الظنية، فانه معلق على عدم انفتاح باب العلم او العلمي، و بعد وصول النهي عن القياس ينفتح باب العلم فلا موضوع لحكم العقل.

و قد اشار الى صدر عبارة الرسائل بقوله: «و قياس حكم العقل بكون الظن مناطا للاطاعة في هذا الحال» أي في حال الانسداد بناء على الحكومة «على حكمه» أي على حكم العقل «بكون العلم مناطا لها» أي للاطاعة العلمية «في حال الانفتاح» فكما لا تصرف للشارع في الاطاعة العلمية في حال الانفتاح، كذلك لا تصرف له في الاطاعة الظنية في حال الانسداد، لان الظن في حال الانسداد على الحكومة بمنزلة العلم في حال الانفتاح.

و اشار الى المناقشة فيه بقوله (قدس سره): «لا يكاد يخفى على احد فساده» و هذه الجملة هي الخبر للمبتدا المتقدم، و هو قوله: و قياس حكم العقل.

و حاصلها: انه قياس في غير محله «لوضوح انه» قياس «مع الفارق ضرورة ان حكمه» أي حكم العقل «في العلم على نحو التنجز» غير المعلق على شي ء «و فيه» أي و في الانسداد حكم العقل «على نحو التعليق» و لا وجه لقياس ما كان الحكم فيه على نحو التعليق بما كان فيه على نحو التنجز و عدم التعليق.

(1) هذه عودة من المصنف الى الاشارة الى جوابه الثاني المتقدم عن الاشكال في النهي عن القياس، في انه اذا لم يكن للشارع النهي عن ظن خاص في حال

ص: 213

.....

______________________________

الانسداد، لم يكن له- أيضا- الامر بطريق خاص غير مفيد للظن في حال الانسداد، لانهما يشتركان في كون لازم كل منهما ترك الاطاعة الظنية، فلما ذا خصصوا الاشكال بالنهي عن القياس و لم يذكروه في الامر بالطريق الخاص؟

و لا فرق بين النهي و الامر في الاشكال المذكور، و لا سبب في عدم اشكالهم في الامر بطريق خاص، إلّا انه مع امر الشارع به ينفتح الباب فلا موضوع للانسداد و لحكم العقل بعد ان كان معلقا على موضوع يرتفع بأمر الشارع، و قد عرفت ان حال نهي الشارع عن طريق كأمره، فانه بوصول نهيه ينفتح الباب فلا يبقى موضوع لحكم العقل، و لذا قال (قدس سره): «لا يكاد ينقضي تعجبي انه لم خصصوا الاشكال بالنهي عن القياس مع جريانه» أي جريان الاشكال الذي ذكروه في النهي «في الامر بطريق مفيد للظن» لانهما يشتركان في ترك الاطاعة الظنية.

ثم اشار الى انتفاء حكم العقل في مورد الامر بالطريق لاجل الانفتاح بقوله:

«بداهة انتفاء حكمه» أي العقل «في مورد الطريق» أي في مورد الامر بالطريق «قطعا» و أضاف اليه الاشارة الى انه لا يظن باحد من الفقهاء ان يستشكل في مقام امر الشارع بطريق غير مفيد للظن في حال الانسداد بقوله: «مع انه لا يظن باحد ان يستشكل بذلك» ثم الى ان السبب في عدم الاشكال في مقام الامر بطريق غير مفيد للظن ليس هو إلّا لاجل كون حكم العقل معلقا على عدم الانفتاح، و بوصول امر الشارع يحصل الانفتاح بقوله: «و ليس إلّا لاجل ان حكمه» أي حكم العقل «به» أي بحجية الظن في حال الانسداد هو «معلق على عدم النصب، و معه» أي و مع النصب «لا حكم له» أي لا حكم للعقل لارتفاع موضوع حكمه.

ثم اشار الى ان حال النهي كحال الامر بقوله: «كما هو كذلك مع النهي عن بعض افراد الظن» و هو الظن الحاصل من القياس، فانه بوصول النهي عنه ينفتح الباب فلا موضوع لحكم العقل.

ص: 214

الوجوه المذكورة لدفع الاشكال و مناقشة المصنف (قده) فيها

و قد انقدح بذلك أنه لا وقع للجواب عن الاشكال: تارة بأن المنع عن القياس لاجل كونه غالب المخالفة، و أخرى بأن العمل به يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الاصابة (1)، و ذلك لبداهة

______________________________

(1) بعد فراغه عن جواب الاشكال- بما مر- حلا و نقضا تعرض لذكر اجوبة اربعة ذكروها عن الاشكال، و لم يرتضها المصنف، فاشار اليها و الى المناقشة فيها، و بقوله: «تارة ... و اخرى» أشار الى جوابين منها اجاب بهما الشيخ في الرسائل.

و توضيح الاول: ان الاشكال هو ان مقدمات الانسداد على الحكومة تستلزم قبح ترك الاطاعة الظنية من الآمر و المأمور، و كما ان تركها من المأمور قبيح كذلك النهي عنها من الآمر قبيح، فالنهي عن الظن القياسي من الآمر قبيح.

و حاصل الجواب عنه: ان ترك الاطاعة الظنية انما كان قبيحا لان الظن اقرب الى اصابة الواقع من الشك و الوهم، فاذا كان الشارع المطلع على الواقعيات قد علم ان الظن القياسي غالب المخالفة للواقع فلا يكون في النهي عنه قبح على الشارع، لان مناط القبح هو كونه اقرب، و لما كان كثير المخالفة للواقع لم يكن اقرب من الوهم، بل هو اقرب منه في مورده، و الى هذا اشار بقوله: «تارة بان المنع عن القياس لاجل كونه غالب المخالفة» أي للواقع و مع كونه غالب المخالفة للواقع، لا يكون النهي عنه من الشارع المطلع قبيحا.

الثاني: ما اشار اليه بقوله: «و اخرى» و توضيحه: انه قد عرفت ان السبب في حكم العقل بقبح ترك الاطاعة الظنية في حال الانسداد آمرا و مامورا انما هو لكون الظن اقرب من غيره لادراك مصلحة الواقع، فالعمل بما يقتضيه الظن لا غاية فيه عند العقل الا الايصال لمصلحة الواقع، فاذا كان في العمل بظن خاص حاصل من سبب خاص مفسدة غالبة على مصلحة الواقع فلا يقبح عند العقل ترك العمل بهذا الظن الخاص، فلا يكون نهي الشارع عن الظن القياسي في حال الانسداد قبيحا اذا كان قد اطلع على ان في العمل على طبقه مفسدة غالبة على مصلحة الواقع.

ص: 215

أنه إنما يشكل بخروجه بعد الفراغ عن صحة المنع عنه في نفسه، بملاحظة حكم العقل بحجية الظن، و لا يكاد يجدي صحته كذلك في الذب عن الاشكال في صحته بهذا اللحاظ، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة (1).

______________________________

و الى هذا اشار بقوله: «و اخرى بان العمل به» أي بالظن القياسي «يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الاصابة» فالعمل على الظن القياسي ان لم يصب الواقع كان ذا مفسدة لا غير، و ان اصاب الواقع لا فائدة في المصلحة التي اصابها لان مفسدة العمل على طبقه غالبة على المصلحة الواقعية التي أصابها.

(1) لا يخفى ان المصنف ناقش في هذين بمناقشة واحدة تجمعها، و منها يظهر ايضا وجه الانقداح.

و توضيح ذلك: ان الاشكال في النهي عن الظن القياسي في حال الانسداد، تارة: لكون الظن في حال الانسداد كالعلم في حال الانفتاح، و كما انه يقبح النهي من الشارع عن العلم و عن الاطاعة العلمية في حال الانفتاح، كذلك يقبح النهي منه عن الظن و عن الاطاعة الظنية في حال الانسداد، فالاشكال يكون من حيث كونه نهيا عن الظن في حال الانسداد.

و اخرى: يكون الاشكال في النهي عن الظن القياسي في حال الانسداد لكون الظن اقرب الى الواقع من غيره، فنهي الشارع عن ما هو اقرب قبيح، و من الواضح ان الاشكال في القبح من ناحية كونه اقرب من غيره غير الاشكال في القبح من ناحية كونه بمنزلة العلم.

و هذان الجوابان انما يتمان حيث يكون الاشكال في النهي عن الظن القياسي من الناحية الثانية دون الاولى، فانه حينئذ يصح ان يجاب عنه: تارة بكونه غير قريب الى الواقع بل غالب المخالفة، و اخرى بانه ذو مفسدة غالبة على الواقع فلا فائدة في قربه الى اصابة الواقع.

ص: 216

.....

______________________________

اما اذا كان الاشكال في النهي عن الظن القياسي من جهة القبح من الناحية الاولى فالجوابان اجنبيان عن ذلك، و فرض الاشكال في النهي عن الظن القياسي انما هو من الناحية الاولى، و انه بعد الفراغ عن ان الظن الحاصل من سبب خاص يصح النهي عنه في حال الانفتاح اذا كان غالب المخالفة او اذا كان في العمل على طبقه مفسدة، و لكن الاشكال في صحة النهي عنه في حال الانسداد من ناحية انه في هذه الحال هو كالعلم، فالاشكال انما هو في قبح النهي عنه في المقام من هذه الجهة، فلا يصح الجواب عنها بانه لا قبح في النهي عنه لكونه غالب المخالفة، او لان في العمل على طبقه مفسدة، فانه لا يدفع الاشكال في قبح النهي من ناحية ان الظن في حال الانسداد هو كالعلم يقبح من الشارع التصرف فيه.

و الى هذا اشار بقوله (قدس سره): «و ذلك» أي ان السبب في عدم دفع هذين الجوابين عن الاشكال في الظن القياسي في المقام هو «انه انما يشكل» في المقام «بخروجه» أي بخروج الظن القياسي عن ساير الظنون في الانسداد لأجل النهي عنه «بعد الفراغ عن صحة المنع عنه في نفسه» أي في مثل حال الانفتاح «بملاحظة حكم العقل بحجية الظن» في حال الانسداد: أي ان الاشكال بملاحظة حال الانسداد و حكم العقل بان الظن حجة في هذا الحال و ان له ما للعلم في الانفتاح، فهو اشكال من ناحية القبح في التصرف في الظن في الانسداد، لانه كالعلم لا من ناحية القبح لكون الظن اقرب من غيره.

ثم اشار الى ان الجواب عن القبح من ناحية القرب بالجوابين المذكورين لا ينفع في دفع الاشكال في القبح من ناحية كونه كالعلم بقوله: «و لا يكاد يجدي صحته كذلك» أي لا يكاد يجدي صحة النهي عن الظن القياسي من ناحية القرب في حال الانفتاح «في الذب عن الاشكال» أي في دفع الاشكال «في صحته» أي في صحة النهي عنه «بهذا اللحاظ» أي بلحاظ كون الظن في الانسداد بمنزلة العلم لانهما

ص: 217

و أما ما قيل في جوابه، من منع عموم المنع عنه بحال الانسداد، أو منع حصول الظن منه بعد انكشاف حاله، و أن ما يفسده أكثر مما يصلحه (1)، ففي غاية الفساد، فإنه مضافا إلى كون كل واحد من المنعين

______________________________

جهتان، و لا ربط للاشكال من ناحية القرب بالاشكال من ناحية كون الظن في الانسداد كالعلم في الانفتاح.

(1) يشير بكلامه هذا الى جوابين آخرين عن الاشكال المذكور.

و حاصل الاول: ان ادلة النهي عن الظن القياسي لا تشمل الظن القياسي في حال الانسداد، فالمنع عنه يختص بحال الانفتاح، و الظن في حال الانسداد حجة مطلقا و ان حصل من القياس، و الى هذا اشار بقوله: «من منع عموم المنع عنه» أي عن الظن الانسدادي بحيث يكون المنع عنه شاملا له بلحاظ كل احواله و لو كان «ب» لحاظ «حال الانسداد» أي لا عموم للادلة المانعة عن الظن القياسي بحيث تشمل حاله في الانسداد.

و حاصل الثاني: انه لا وقع للاشكال المذكور، لانه لا يحصل من القياس ظن حتى يستشكل في النهي عنه، فان الائمة عليهم السّلام كشفوا حال القياس و بينوا ما يترتب عليه من الفساد، بحيث كان ما يصلحه القياس من حيث اصابته النادرة لا يعتني بها بالنسبة الى ما يترتب عليه من الفساد في محق الدين و انه يأتي بدين جديد، لكثرة خطئه- مثلا- او لعدم وجود ضابط له فيختلف القائسون انفسهم في حكم مسألة واحدة، لاختلاف الجهات التي اقتضت القياس عندهم.

و على كل، فمفاسد القياس كثيرة، و بعد الاطلاع عليها لا يحصل للفقيه ظن منه حتى يستشكل بالنهي عنه في حال الانسداد، و ما اشد التباين بين هذين الجوابين، و على كل فقد اشار اليه بقوله: «او منع حصول الظن منه» أي نمنع حصول الظن من القياس «بعد انكشاف حاله» أي حال القياس «و ان ما يفسده اكثر مما

ص: 218

غير سديد- لدعوى الاجماع على عموم المنع مع إطلاق أدلته و عموم علته، و شهادة الوجدان بحصول الظن منه في بعض الاحيان- لا يكاد يكون في دفع الاشكال بالقطع بخروج الظن الناشئ منه بمفيد، غاية الامر أنه لا إشكال مع فرض أحد المنعين، لكنه غير فرض الاشكال، فتدبر جيدا (1).

______________________________

يصلحه» فلا يحصل من القياس ظن حتى يتأتى الاشكال في صحة المنع عنه في حال الانسداد.

(1) لا يخفى انه قد اجاب عن كل واحد منهما بجواب يخصه، و اجاب عنهما معا بجواب واحد يشملهما.

اما الجواب الذي يخص الاول فهو: ان ادلة المنع اللفظية لها اطلاق واضح يشمل الظن في حال الانسداد، فان قوله عليه السّلام: (ان السنة اذا قيست محق الدين)(1) له ظهور في ان ذات القياس ما حق للدين، و ما بالذات لا يختلف حاله في الانفتاح او الانسداد، و مثله قوله عليه السّلام: (ان دين اللّه لا يصاب بالعقول)(2) الظاهر في ان العقل لا يهتدي الى علل الاحكام، و القياس ليس هو إلّا دعوى ادراك علة الحكم و تسريتها من المقيس عليه الى المقيس، و هذا ايضا لا خصوصية له بحال الانفتاح، هذا مع ان دعوى الاجماع على عموم المنع عن الظن القياسي لحال الانسداد مما لا ريب فيها.

و قد اشار الى دعوى الاجماع على عموم المنع بقوله: «لدعوى الاجماع على عموم المنع» عن الظن القياسي بحيث يشمل كل احواله حتى حال الانسداد، ثم

ص: 219


1- 15. ( 1) الوسائل ج 18، 25/ 10 باب 6 من أبواب صفات القاضي.
2- 16. ( 2) ورد في الوسائل ج 18، 27/ 18 باب 6 من ابواب صفات القاضي:( ان دين اللّه لا يصاب بالمقاييس) و مثله في الوافي ج 1، ص 57( ط. حجر) و كذلك في الكافي ج 1، ص 56 حديث 7.

.....

______________________________

اشار الى اطلاق ادلة المنع عنه اللفظية بقوله: «مع اطلاق أدلته» أي مع اطلاق ادلة المنع.

عنه بقوله عليه السّلام: (السنة اذا قيست محق الدين)، ثم اشار الى ان العلة المنصوصة في الادلة الموجبة للمنع عنه موجودة في كلا الحالين بقوله: «و عموم علته» كمثل قوله:

(ان دين اللّه لا يصاب بالعقول).

و اما الجواب الذي يخص الثاني فهو: ان منع حصول الظن من القياس و لو في بعض الاحيان مكابرة واضحة، فان الوجدان خير شاهد بانه ربما يحصل من القياس ظن، و اليه اشار بقوله: «و شهادة الوجدان الى آخر الجملة».

و اما الجواب الذي يشمل كلا الجوابين المذكورين فهو: ان الاشكال في المنع عن الظن القياسي مع فرض القطع بدلالة الادلة المانعة عنه الشاملة لحال الانسداد فالجواب عنه بان ادلة المنع لا تشمل حال القياس خروج عن الفرض اولا، و تسليم للاشكال على الفرض ثانيا.

و مثله الجواب عنه بعدم حصول الظن من القياس، فانه خروج عن الفرض و تسليم للاشكال لو فرض حصول الظن منه.

نعم، لو فرض عدم عموم ادلة المنع او فرض عدم حصول الظن منه لما كان للاشكال المذكور مجال، و لكنهما لا يكونان جوابا عن الاشكال لو فرضنا عموم ادلة المنع للانسداد، او فرضنا حصول الظن من القياس، بل لازمهما تسليم الاشكال و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «لا يكاد يكون» ما ذكر من الجوابين «في دفع الاشكال ب» فرض «القطع بخروج الظن الناشئ منه» أي من القياس «بمفيد» أي لا يكاد يكون ما ذكر من الجوابين بمفيد في دفع الاشكال مع فرض القطع بخروج الظن الناشئ من القياس في حال الانسداد، الذي لازم هذا القطع هو فرض شمول ادلة المنع له و حصوله من القياس.

ص: 220

الظن المانع و الممنوع

فصل إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص، فالتحقيق أن يقال بعد تصور المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد: إنه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع عنه، فضلا عما إذا ظن، كما أشرنا إليه في الفصل السابق، فلا بد من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص، فإن كفى، و إلا فبضميمة ما لم يظن المنع عنه (1) و إن

______________________________

ثم اشار الى انه مع فرض عدم شمول ادلة المنع لحال الانسداد، او مع فرض عدم حصول الظن من القياس لا يتأتى الاشكال بقوله: «غاية الامر انه لا إشكال مع فرض احد المنعين» لوضوح انه لو فرض عدم شمول ادلة المنع له فيكون الظن القياسي في حال الانسداد حجة، و مع حجيته لا مجال للاشكال بانه لا يعقل النهي عنه، و كذلك لو فرض عدم حصول الظن من القياس، فانه ايضا لا مجال للاشكال في المنع عنه، فانه حيث لا ظن لا وقع للاشكال بانه لا يصح المنع عن الظن.

ثم اشار الى انهما لا يصحان جوابا عن الاشكال مع فرض عموم المنع و حصول الظن بقوله: «لكنه غير فرض الاشكال».

(1) تحرير البحث في هذا الفصل هو انه مع الانسداد اذا قام ظن على عدم حجية ظن من الظنون فلا ريب في تنافي هذين الظنين، لعدم معقولية حجية الظن المانع و حجية الظن الممنوع، فانه اذا قام خبر الثقة- مثلا- على عدم حجية الظن الحاصل من الشهرة، و قامت الشهرة على وجوب صلاة الجمعة- مثلا- فلا يعقل الجمع بين حجية خبر الثقة على عدم حجية الشهرة و حجية الشهرة الدالة على وجوب صلاة الجمعة، بل اما ان يكون المانع هو الحجة دون الممنوع، او الممنوع هو الحجة دون المانع، او تساقطهما.

و قد يقرر الاشكال بوجهين: الاول: ان حجية الظن المانع و حجية الظن الممنوع كليهما معا محال، لان لازم حجية الظن المانع عدم العمل على طبق مؤدى الظن

ص: 221

.....

______________________________

الممنوع، و لازم حجية الظن الممنوع هو لزوم العمل على طبق مؤداه، فاما ان يكون احدهما حجة دون الآخر و لا بد من المرجح له، و إلّا كان من الترجيح بلا مرجح، و إلّا فلا مناص عن التساقط.

و بتقرير الاشكال بهذا الوجه يرتبط الوجه الاول الذي سنذكره لبيان وجه الترجيح للظن المانع.

الوجه الثاني في تقرير الاشكال: هو ان حجية الظن مع احتمال المنع عنه غير معقول، لان حجية الشي ء لا بد و ان تكون مقطوعا بها، فاحتمال المنع عنها مناف لما لا بد منه في الحجية فضلا عن الظن بعدم الحجية، و فرض قيام الظن المانع فرض قيام الظن على عدم حجية الظن الممنوع، فاما ان يكون الظن الممنوع حجة فلا يكون الظن المانع حجة، و اما ان يكون الظن المانع حجة فلا يكون الظن الممنوع حجة، فشمول دليل الانسداد لهما معا محال.

و لعله بالتقرير على هذا النحو الثاني يرتبط ما أجاب به المصنف و هو الوجه الثاني الذي سنذكره.

و على كل حال فهناك وجوه لترجيح الظن المانع دون الممنوع، و لازمها حجية الظن المانع دون الممنوع و عدم التساقط ايضا، اذ لا وجه للتساقط مع وجود المرجح لاحدهما، و بعد وجود المرجح لخصوص الظن المانع ينتفي التساقط كما ينتفي ايضا الظن الممنوع لمرجوحيته:

الاول: ان الملاك في الظن المانع تام دون الممنوع، و تقريب التمامية فيه دون الممنوع هو ان حجية الظن مطلقا معلقة على عدم وصول المنع عنه من الشارع، و الظن المانع يكون منعا و اصلا بالنسبة الى الظن الممنوع، بخلاف الظن الممنوع فانه لا يصلح ان يكون مانعا عن الظن المانع، لان الظن الممنوع لا يدل على عدم حجية الظن المانع، و انما حجيته تنافي حجية الظن المانع، فالانسداد مقتض بلا مانع بالنسبة الى حجية المانع، بخلافه بالنسبة للظن الممنوع فانه مقتض مقترن بالمانع.

ص: 222

.....

______________________________

و الحاصل: ان الاقتضاء تام بالنسبة الى الظن المانع، لان الظن الممنوع لا يمنع عن حجيته و انما يزاحمها، و اما بالنسبة الى الممنوع فانه حيث كان الظن المانع و اصلا فالاقتضاء بالنسبة اليه قد اقترن بالمانع، فحجية الظن الممنوع تتوقف على عدم حجية الظن المانع، و حجية الظن المانع لا تتوقف على عدم حجية الظن الممنوع، فالظن الممنوع بعد ان كانت حجيته متوقفة على عدم حجية الظن المانع لا يعقل ان يكون مانعا عن حجية الظن المانع، و اما الظن المانع فلا تتوقف حجيته على عدم الظن الممنوع، فلا مانع من ان يكون مانعا عن حجية الظن الممنوع.

و بعبارة اخرى: ان شمول الحجية للظن المانع تقتضي انتفاء ملاك الحجية في الظن الممنوع، لوضوح انه بعد ان كانت دلالة الظن المانع هي عدم حجية الظن الممنوع فمعنى شمول الحجية لما كانت دلالته كذلك هو انتفاء حجية الممنوع، بخلاف شمول الحجية للظن الممنوع فانها ليس معناها انتفاء حجية الظن المانع، لفرض كون دلالة الظن الممنوع هي وجوب الصلاة لا عدم حجية الظن المانع.

نعم، كون الظن الممنوع حجية يزاحم حجية الظن المانع لا انه يرفع حجيته، و اذا كان هناك فردان احدهما شمول الحجية له غير موقوف على عدم حجية الآخر، بخلاف الفرد الآخر فان شمول الحجية له تكون موقوفة على عدم شمول الحجية للفرد الآخر، فلا بد و ان يكون الحجة هو الفرد الذي لا تكون حجيته موقوفة على شي ء، دون الثاني لان حجيته موقوفة على عدم شمول الحجية للفرد الاول، فشمول الحجية بالنسبة الى الفرد الاول و هو الظن المانع لا مانع عنها، بخلافها بالنسبة الى الظن الممنوع فانها مقترنة بالمانع، فتختص الحجية بالظن المانع دون الممنوع، و هذا هو مراد من قال: ان الظن المانع و الممنوع بالنسبة الى دليل الانسداد من قبيل دوران الامر بين التخصيص و التخصص، و التخصص اولى.

و مثله مراد من قال: ان الظن المانع و الممنوع من قبيل الاصل السببي و المسببي، و الاصل السببي هو الحجة دون الاصل المسببي.

ص: 223

.....

______________________________

و الحاصل: ان تقدم الظن المانع من قبيل التخصص و الممنوع من قبيل التخصيص، و كلما دار الامر بين التخصص و التخصيص فالتخصص اولى، او ان الظن المانع من قبيل الاصل السببي و الظن الممنوع من قبيل الاصل المسببي، و اذا كان الدليل شاملا للاصل السببي فيخرج الاصل المسببي عن ان يكون مشمولا للدليل.

الوجه الثاني ما اشار اليه الماتن بقوله: «فالتحقيق»، و حاصله: ان الموجب لاختصاص الحجية بالظن المانع دون الممنوع هو ما تقدم في المسألة السابقة: من ان حجية الظن معلقة على عدم احتمال المانع عن الحجية، و انه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع عنه فضلا عن ان يظن بالمنع عنه، فمع وجود الظن المانع عن حجية الظن الممنوع لا استقلال للعقل بحجيته، فالانسداد غير موجب لحجية الظن الممنوع حتى يكون مزاحما لحجية الظن المانع، لان احتمال المنع عن حجية الظن كاف في عدم اقتضاء مقدمات الانسداد لحجيته فضلا عن الظن بالمنع عن حجيته.

و بعبارة اخرى: قد مر انه لا مانع من المنع شرعا عن بعض الظنون في حال الانسداد، و لازم هذا هو اختصاص استقلال العقل بحجية الظن الذي لا يحتمل المنع عنه، و هو الظن الذي يقطع بعدم المنع عنه، فان وفى بمعظم الفقه و إلّا فيتنزل الى الظن الذي لا يكون المنع عنه مظنونا.

فاتضح مما ذكرنا: ان الظن الممنوع ليس بحجة قطعا، لفرض وجود الظن بالمنع عنه و مقدمات الانسداد قاصرة عن شمول حجيتها له، و الى هذا اشار بقوله:

«فالتحقيق ان يقال بعد تصور المنع» من الشارع «عن بعض الظنون في حال الانسداد» فلازمه كون استقلال العقل بحجية الظن موقوفة على احراز عدم المنع من الشارع، و لازم هذا «انه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع عنه فضلا عما اذا ظن» المنع عنه كما هو المفروض في الظن الممنوع من قيام الظن المانع على المنع عنه «كما اشرنا اليه في الفصل السابق» من كون لازم امكان المنع احتمال المنع في غير ما قطع بعدم المنع عنه.

ص: 224

احتمل، مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد، و إن انسد باب هذا الاحتمال معها، كما لا يخفى، و ذلك ضرورة أنه لا احتمال مع الاستقلال حسب الفرض (1).

______________________________

«ف» اتضح انه «لا بد» في حال الانسداد «من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص فان كفى» بالمعظم «و إلّا ف» يتنزل الى «ضميمته ما لم يظن بالمنع عنه».

فتبين من هذا ان الظن الممنوع لا اقتضاء لحجيته لفرض قيام الظن بالمنع عنه.

(1) هذا دفع لما يمكن ان يتوهم: من ان الظن لا بد من ان يكون مقطوع الحجية، فكيف يمكن ان يكون الظن الذي لا يظن بالمنع عنه حجة؟ فان ظاهر هذا هو كون الظن المحتمل المنع عنه حجة، و قد صرح ان الظن الذي يحتمل المنع عنه ليس بحجة و لا استقلال للعقل بحجيته.

فدفع هذا التوهم بان احتمال المنع عنه انما هو مع الغض عن دليل الانسداد، و إلّا فبملاحظة دليل الانسداد و عدم كفاية ما يقطع بالمنع عنه للوفاء بالمعظم يقطع بعدم المنع عن هذا الظن بالفعل و ان احتمل المنع عنه مع الغض عن الانسداد، لان لازم تنجز الاحكام و عدم اهمالها و لزوم امتثالها لها و انحصار الامتثال بالظن مع عدم كفاية ما يقطع بعدم المنع عنه يحصل القطع بعدم المنع فعلا عن هذا الظن الذي يحتمل المنع عنه في غير حال الانسداد، و لذا قال بعد قوله: «فبضميمة ما لم يظن» ب «المنع عنه و ان احتمل» المنع عنه «مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد» أي لا ينبغي ان يتوهم أن هذا الذي لا يظن المنع عنه و ان احتمل المنع عنه هو محتمل المنع بملاحظة حال الانسداد، بل هو محتمل المنع مع قطع النظر عن حال الانسداد، لما عرفت من انه بملاحظة حال الانسداد يكون مما قطع بعدم المنع عنه، و لذا قال (قدس سره): «و ان انسد باب هذا الاحتمال» أي باب احتمال المنع «معها» أي مع ملاحظة حال الانسداد، فانه مع ملاحظتها يكون مما قطع بعدم المنع عنه.

ص: 225

و منه انقدح أنه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة هي حجية الظن في الاصول أو في الفروع أو فيهما، فافهم (1).

______________________________

ثم اشار الى سبب عدم احتمال المنع عنه بملاحظة حال الانسداد بقوله: «و ذلك ضرورة انه لا احتمال» للمنع عن هذا الظن بالفعل مع عدم كفاية ما قطع بعدم المنع عنه مع تنجز الاحكام او انحصار امتثالها بالظن، فانه «مع» هذه الامور يحصل «الاستقلال» للعقل بحجية هذا الظن فعلا «حسب الفرض» من تنجز الاحكام و عدم الوفاء من دون ضم هذا الظن و انحصار الامتثال بالظن.

(1) لا يخفى ان الوجه الثالث لحجية خصوص الظن المانع دون الممنوع، هو انه بناء على كون نتيجة دليل الانسداد هو حجية الظن بالاصول دون الظن بالفروع، فالظن القائم على عدم حجية الظن بوجوب صلاة الجمعة مثلا هو الحجة دون الظن القائم على وجوب الجمعة، لان حجية الظن الانسدادي مما تختص بالظن المانع لانه من الظنون الاصولية دون الظن بالممنوع، لانه من الظن بالفرع الخارج عما تقتضيه الحجية في الانسداد.

و فيه- قبل التعرض لما ذكره المصنف من الايراد عليه- ان الظن الممنوع قد يكون من الاصول ايضا كما لو قام الظن المانع على عدم حجية الظن الحاصل من الشهرة فيكون هذا الجواب اخص من المدعى.

و أما ما أشار اليه المصنف فحاصله: انه بعد ما عرفت من ان العقل لا يستقل بحجية الظن الذي يحتمل المنع عنه، فسواء قلنا بكون النتيجة هي حجية خصوص الظن بالاصول او خصوص الظن بالحكم او هما معا، فان لازم الكل هو عدم حجية الظن الممنوع، لانه فيما اذا قلنا بان النتيجة هي خصوص الظن بالحكم، فالظن المانع و ان كان غير حجة بمقتضى دليل الانسداد لانه من الظنون الاصولية، إلّا انه لا ريب في ان الظن بالحكم يكون مما احتمل المنع عنه، فالظن الممنوع لا يكون داخلا في الظن الذي هو حجة في الانسداد، لانه يختص بالظن الذي يقطع بعدم المنع عنه،

ص: 226

الظن بالفاظ الآية او الرواية

فصل لا فرق في نتيجة دليل الانسداد، بين الظن بالحكم من أمارة عليه، و بين الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآية أو الرواية، كقول اللغوي فيما يورث الظن بمراد الشارع من لفظه، و هو واضح (1)، و لا يخفى أن

______________________________

فكون الظن المانع حجة في الانسداد او غير حجة لا يتفاوت حاله بالنسبة الى انه يوجب كون الظن الممنوع مما احتمل المنع عنه، و قد عرفت ان استقلال العقل بحجية الظن في الانسداد معلقة على عدم احتمال المنع، و مع احتمال المنع لا حكم للعقل بحجية الظن.

فاتضح: انه لا يتفاوت الحال حتى لو قلنا بان النتيجة هي خصوص الظن بالفروع دون الظن بالاصول، و اما لو قلنا بحجيتهما معا فكون الظن الممنوع مما قامت الحجة بحسب الانسداد على عدم حجيته مما لا ريب فيه، لفرض كون الظن المانع حجة كالظن الممنوع، لفرض حجية الظن بالاصول و الفروع معا، و الموجب لاختصاص الحجية بالظن المانع هو ما ذكرناه من كون الظن الممنوع مما ظن بالمنع عنه، و لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع عنه فضلا عما ظن بالمنع عنه، و لذا قال (قدس سره): «و منه انقدح»، ان وجه الانقداح هو اختصاص حكم العقل في حال الانسداد بحجية الظن الذي لا يحتمل المنع عنه، فانه منه يتضح «انه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة» في الانسداد «هي حجية» خصوص «الظن في الاصول او» قيل بكون النتيجة هي خصوص الظن «في الفروع او» قيل بكون النتيجة هي الحجية «فيهما» أي الظن بالاصول و الفروع معا، فانه على كل حال يكون الظن الممنوع غير حجة لاحتمال المنع عنه.

(1) حاصله: ان نتيجة دليل الانسداد هي حجية الظن بالحكم الشرعي، لان الظن بما هو ظن ارجح من الوهم و الشك، فالانسداد يقتضي حجية الظن الشخصي بالحكم سواء كان الظن بالحكم قد حصل من أمارة قائمة على الحكم، او كان الظن بالحكم

ص: 227

.....

______________________________

قد تعلق اولا و بالذات بالفاظ آية او بألفاظ رواية كانت مسلمة الحجية من حيث السند و لكن دلالتها كانت غير معلومة، لان الفاظ الآية او الرواية غير واضحة الدلالة، فحصل الظن من قول اللغوي في تفسير الفاظهما، فان هذا الظن و ان تعلق اولا و بالذات بألفاظ الرواية او الآية إلّا انه ينتهي الى الظن بالحكم الكلي الذي قد تضمناه، و لما كان المدار في الانسداد على الظن بالحكم فلا فرق بين الظن به بلا واسطة او مع الواسطة.

ثم ان هذا لا ربط له بكون قول اللغوي حجة بالخصوص اولا، لان الظن الحاصل من قوله حجة في الانسداد لانه ظن، لا لانه قد حصل من قول اللغوي، فان قول اللغوي و ان قلنا بعدم حجيته بالخصوص إلّا انه بعد ان حصل الظن منه فالظن الحاصل منه لانه ظن بالحكم في حال الانسداد حجة و ان كان قول اللغوي ليس بحجة، و لا مدخل لحجية قول اللغوي و عدم حجيته بذلك.

و الى هذا اشار بقوله: «لا فرق في نتيجة دليل الانسداد» بعد ان كانت هي حجية الظن بالحكم بما هو ظن بالحكم الكلي «بين الظن بالحكم» الحاصل «من امارة» تقوم «عليه» بلا واسطة «و بين الظن به» مع الواسطة بان يحصل الظن بالحكم الكلي «من امارة متعلقة» اولا و بالذات «بالفاظ الآية او الرواية كقول اللغوي» فان متعلق تفسيره هو الفاظ الآية او الرواية، و لكن حيث كان ذلك الظن ينتهي الى الظن بالحكم الكلي فهو حجة، لكونه بالنتيجة كان ظنا بالحكم الكلي و ان كان مع الواسطة، فقول اللغوي «فيما يورث الظن بمراد الشارع من لفظه» في الآية او الرواية المنتهى الى الظن بالحكم الشرعي حجة لكونه ظنا بالحكم و هو واضح.

ص: 228

اعتبار ما يورثه لا يختص ظاهرا بما إذا كان مما ينسد فيه باب العلم، فقول أهل اللغة حجة فيما يورث الظن بالحكم مع الانسداد، و لو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد (1).

نعم لا يكاد يترتب عليه أثر آخر من تعيين المراد في وصية أو إقرار أو غيرهما من الموضوعات الخارجية، إلا فيما يثبت فيه حجية مطلق الظن

______________________________

(1) بعد ما عرفت من ان الظن الحاصل من قول اللغوي انما كان حجة في الانسداد لانه ظن بالحكم الكلي، لا لحجية قول اللغوي بالخصوص، بل هو حجة مع القول بان قول اللغوي ليس بحجة يتضح لك انه لا حاجة الى ترتيب الانسداد في اللغة، لان ترتيب مقدمات الانسداد في اللغة انما تنفع في اثبات حجية قول اللغوي، لا فيما كان الظن بما هو ظن حجة، فلو فرضنا انفتاح باب العلم باللغة في جميع الموارد عدا تلك الالفاظ الواردة في الآية او الرواية لكان الظن الحاصل من قول اللغوي حجة فيهما، حيث يكون انسداد في الاحكام، و لذا قال (قدس سره): «و لا يخفى ان اعتبار ما يورثه» قول اللغوي من الظن «لا يختص ظاهرا» بحجية قول اللغوي حتى يتوقف حجية الظن الحاصل من قوله على حجية الظن الحاصل من قوله على حجية قوله فتحتاج في الانسداد الى اثبات انسداد خاص به، فيكون الظن الحاصل من قوله حجة مختصا «بما اذا كان» قول اللغوي «مما ينسد فيه باب العلم» بالخصوص، و لما لم يكن كذلك، بل كان الظن الحاصل من قوله حجة لانه ظن في حال الانسداد بالاحكام «ف» لذلك كان «قول اهل اللغة حجة فيما يورث الظن بالحكم مع الانسداد» في الاحكام «و لو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد» مما يتعلق بالفاظ الآية او الرواية، فانه من الواضح انه لو كان الامر مرتبطا بحجية قول اللغوي لما كان الظن الحاصل من قوله حجة في فرض انفتاح باب العلم باللغة.

ص: 229

حجية الظن الحاصل من قول الرجالي

بالخصوص، أو ذاك المخصوص (1)، و مثله الظن الحاصل بحكم شرعي كلي من الظن بموضوع خارجي، كالظن بأن راوي الخبر هو زرارة بن أعين مثلا، لا آخر (2).

______________________________

(1) لا يخفى ان الانسداد المفروض انما هو في الاحكام الكلية، فالظن المتعلق بكلي الحكم الاقراري او بكلي الحكم بالوصايا- مثلا- هو الذي يكون قول اللغوي حجة فيه فيما اذا أورث الظن بالفاظ رواية مؤداها حكم كلي فيهما.

اما في مصداق الحكم الكلي كما لو شك في تعيين مراد المقر في اقراره او مراد الموصي في وصيته، فلا يكون الظن الحاصل من قول اللغوي حجة فيه، لوضوح ان المتحصل منهما ليس حكما كليا، و الذي يكون قول اللغوي حجة فيه من جهة الانسداد هو الحكم الكلي دون الحكم الجزئي لانه لا انسداد فيه، فلا يكون قول اللغوي الموجب للظن فيه حجة.

نعم، اذا ثبت بدليل خاص حجية مطلق الظن، او ثبت بالدليل الخاص حجية الظن في خصوص الاقرار او الوصية- مثلا- يكون حينئذ الظن الحاصل من قول اللغوي المتعلق بالفاظ المقر او ألفاظ الموصي حجة، و الى هذا اشار بقوله: «نعم لا يكاد يترتب عليه» أي على قول اللغوي «اثر آخر» غير المتعلق بالحكم الكلي فيما اذا كان متعلقا بغيره من الحكم الجزئي، كما لو لم يظهر الحال «من تعيين المراد في وصية» لموص «او اقرار» لمقر «او» في «غيرهما من الموضوعات الخارجية» فحصل الظن من قول اللغوي في الفاظ الوصية او الاقرار، فان هذا الظن ليس بحجة، و لا يكون الظن الحاصل من قول اللغوي حجة في الموضوعات الخارجية «الا فيما يثبت فيه حجية مطلق الظن» بدليل يدل عليه «بالخصوص او» ثبت بالدليل الخاص حجية الظن في «ذاك الموضوع المخصوص».

(2) هذا معطوف على قول اللغوي المتعلق بالحكم الكلي، فقد عرفت حجية الظن الحاصل منه في حال الانسداد، و مثله في الحجية هو الظن الحاصل من التمييز بين

ص: 230

فانقدح أن الظنون الرجالية مجدية في حال الانسداد، و لو لم يقم دليل على اعتبار قول الرجالي (1)، لا من باب الشهادة و لا من باب الرواية (2).

______________________________

المشتركات في الرجال في كون الراوي للرواية الفلانية هو زرارة بن اعين الثقة دون زرارة بن لطيفة المجهول، فان هذا الظن الحاصل من قولهم مما ينتهي الى الظن بالحكم الكلي لكنه مع الواسطة، و قد عرفت عدم الفرق بين الظن المتعلق بالحكم بلا واسطة او به مع الواسطة، فشأن هذا الظن شأن قول اللغوي في انه في حال الانسداد حجة، و هو مثله ايضا في انه ينتهي الى الظن بالحكم الكلي مع الواسطة، فلا فرق بين ظن متعلق بالفاظ الرواية و بين ظن متعلق بموضوع خارجي في كون كل منهما ينتهي الى الظن بالحكم الكلي، و لذا قال (قدس سره): «و مثله» أي و مثل الظن الحاصل بالحكم الكلي من قول اللغوي في الحجية هو «الظن الحاصل بحكم شرعي كلي» قد حصل «من الظن بموضوع خارجي كالظن بان راوي الخبر هو زرارة بن اعين مثلا» الثقة دون زرارة «الآخر» غير الثقة.

(1) وجه الانقداح واضح، فان الظن الحاصل من قول اللغوي انما كان حجة لا لكون قول اللغوي حجة، بل لحجية الظن المتعلق بالحكم الكلي في حال الانسداد، و لما كان قول اللغوي موجبا للظن كان قول اللغوي حجة بهذا المعنى، مع القول بعدم حجية قول اللغوي في نفسه، فالظن الحاصل من اقوال الرجال المتعلق بالحكم الكلي في حال الانسداد حجة من هذا الطريق، لا من جهة حجية الظن الرجالي في نفسه، بل مع القول بعدم حجية الظنون الرجالية مع ذلك تكون نافعة و مجدية في حال الانسداد، لانها مما تنتهي الى الظن بالحكم الكلي، و الى هذا اشار بقوله: «فانقدح ان الظنون الرجالية مجدية الى آخر الجملة».

(2) الفرق بين باب الشهادة و باب الرواية هو اشتراط التعدد في باب الشهادة، بان يكون الشاهد اكثر من واحد، بخلاف باب الرواية فانه لا يشترط التعدد فيها، فيكفي في باب الرواية الراوي الواحد.

ص: 231

تنبيه: لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرقة إلى مثل السند أو الدلالة أو جهة الصدور، مهما أمكن في الرواية، و عدم الاقتصار على الظن الحاصل منها بلا سد بابه فيه بالحجة من علم أو علمي، و ذلك لعدم جواز التنزل في صورة الانسداد إلى الضعيف مع التمكن من القوي أو ما بحكمه عقلا، فتأمل جيدا (1).

______________________________

و بعبارة اخرى: ان اول حد في باب الشهادة هو الاثنان و لكنه لا يشترط فيما يزيد على الاثنين، و أول الحد في باب الرواية هو الواحد و هو ايضا لا يشترط من حيث ما يزيد على الواحد.

(1) توضيحه: ان الملاك لحجية الظن في حال الانسداد لانه ارجح، فتجب الاطاعة الظنية لانها ارجح من الوهمية و الشكية، و بهذا المناط يترجح الظن القوي على الظن الضعيف، فمهما امكن تحصيل الظن القوي لا يتنزل عنه الى الظن الضعيف، لان القوي ارجح من الضعيف، و ترجيح المرجوح على الراجح قبيح و لا بد من الاخذ بالراجح اذا امكن.

و لا يخفى ايضا ان في الخبر جهات ثلاث: الصدور و هي حيثية سند الرواية، و الدلالة و هي حيثية ظهور الرواية، و جهة الصدور و هي كون الحكم صادر البيان الواقع في الرواية.

و لا يخفى ان حصول الجهات الثلاث بالعلم موجب لخروج الرواية عن فرض الانسداد لانه يكون من باب الانفتاح حقيقة، و مثله حصول الجهات الثلاث بالعلمي فانه موجب للخروج ايضا عن الانسداد لانه انفتاح حكما، ففرض الانسداد يقتضي الكلام في امكان حصول بعض هذه الجهات الثلاث بالعلم أو العلمي لا كلها، فمع امكان تحصيل العلم أو العلمي في بعض الجهات هل يجب تحصيله أو لا؟

ص: 232

.....

______________________________

و بعد ما عرفت من تعدد الجهات في الخبر فاحتمال الخلاف في الحكم الذي هو مؤدى الخبر يتعدد ايضا، لاحتمال كونه غير صادر و احتمال كونه غير ظاهر و احتمال كونه غير صادر لبيان الواقع بان يكون لتقية او غيرها.

و من الواضح: انه قيام العلم أو العلمي على جهة واحدة او جهتين منها موجب لقوة الظن بالحكم، و قد عرفت لزوم تحصيل الظن القوي مهما امكن، فاذا امكن تقليل احتمال الخلاف في الخبر في جهة واحدة أو جهتين فالعقل يحكم بلزوم ذلك لاقتضائه قوة الظن بالحكم، فاذا احتملنا تحصيل علم او علمي يقوم على جهة واحدة او جهتين في الرواية يجب الفحص عن ذلك ليقوي الظن بالحكم، فيلزم سد باب الاحتمال مهما امكن.

و قد اشار (قدس سره) الى لزوم تقليل الاحتمالات بقوله: «لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات» و اشار الى الجهات الثلاث في الرواية بقوله:

«المتطرقة الى مثل السند او الدلالة او جهة الصدور» و اشار الى عدم صحة الاقتصار على الظن الضعيف حيث يمكن تحصيل الظن القوي بقوله: «و عدم الاقتصار على الظن الحاصل منها» أي من الرواية «بلا سد بابه» أي بلا سد باب الاحتمال «فيه» تذكير الضمير في (فيه) يقتضي عدم رجوعه الى الرواية، و هو اما ان يرجع الى استقلال العقل، او يرجع الى الانسداد و ان لم يتقدم للفظه ذكر، لكنه هو موضوع الكلام في هذا التنبيه و هذه الفصول، و على كل فلا بد من سد باب الاحتمال مهما امكن «بالحجة من علم او علمي».

ثم اشار الى العلة في ذلك، و هو مناط الأرجحية في الظن القوي على الظن الضعيف بقوله: «و ذلك لعدم جواز التنزل في صورة الانسداد الى الظن الضعيف مع التمكن من القوي» حقيقة بواسطة تقليل الاحتمال بالعلم «او» في «ما بحكمه» أي بحكم العلم و هو العلمي، و قد عرفت لزوم ذلك «عقلا».

ص: 233

الظن بمقام التكليف و الظن بمقام الإتيان به

فصل إنما الثابت بمقدمات دليل الانسداد في الاحكام هو حجية الظن فيها، لا حجيته في تطبيق المأتي به في الخارج معها، فيتبع مثلا في وجوب صلاة الجمعة يومها، لا في إتيانها، بل لا بد من علم أو علمي بإتيانها، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) توضيحه: ان لنا مقامين: مقام التكليف، و مقام الاتيان به، و من الواضح ان مجرى دليل الانسداد المقتضي لحجية الظن هو مقام التكليف و الحكم الكلي، لان مقدمات الانسداد المنتجة لحجية الظن هي العلم بالتكاليف الكلية، و انسداد باب العلم و العلمي فيها الى آخر المقدمات المذكورة مفصلا.

و اما المقام الثاني و هو إتيان التكليف و تطبيقه على الفعل الخارجي فهو خارج عن مجرى دليل الانسداد، فانه لا علم اجمالي فيه و لا انسداد لباب العلم فيه، فلا وجه لدعوى حجية الظن الانسدادي فيه.

و لكنه يمكن ان يدعى ان وجه التوهم لكفاية الظن في مقام الإتيان و التطبيق هو ان جل التكاليف ثابتة بالظن دون العلم، فاشتراط العلم بالتطبيق لا يفيد العلم بامتثال الحكم الواقعي، لان الحكم بعد ان كان ثبوته بالظن، و النتيجة بالضرورة تابعة لأخس المقدمات، فسواء علم باتيان التكليف في الخارج او ظن باتيانه فالنتيجة دائما هي الظن باتيان الحكم الواقعي، فلا وجه لاشتراط العلم بالإتيان و انطباقه على الخارج، نعم في ما اذا علم بالاتيان للتكليف المظنون يكون الظن باتيان الواقع اقوى مما اذا كان الإتيان به بنحو الظن.

و يرد عليه أولا: انه لا بد من اتباع الاقوى مهما امكن.

و ثانيا: ان حجية الظن عقلا على الحكومة في الانسداد او شرعا بناء على الكشف هو كون الظن منجزا للواقع لو اصاب و معذرا لو أخطأ، و لا بد على فرض

ص: 234

نعم ربما يجري نظير مقدمات الانسداد في الاحكام في بعض الموضوعات الخارجية، من انسداد باب العلم به غالبا، و اهتمام الشارع به بحيث علم بعدم الرضا بمخالفته الواقع بإجراء الاصول فيه مهما أمكن، و عدم وجوب الاحتياط شرعا (1)

______________________________

الاصابة من الاتيان بالتكليف الواقعي، و مع الاكتفاء بالظن في مقام الاتيان لا يحرز الاتيان بالتكليف الواقعي على فرض الاصابة.

و بعبارة اخرى: انه لا بد من احراز المؤمن عن عهدة التكليف الثابت و لو بالظن، و مع الاتيان به ظنا لا يحرز المؤمن عن عهدته، لاحتمال عدم اتيان ما هو الواقع مع احتمال كون الظن بالتكليف قد اصاب الواقع، بل لا بد اما من العلم او من العلمي كالبينة او مثل قاعدة التجاوز او الفراغ، و لذا قال (قدس سره): «انما الثابت بمقدمات دليل الانسداد في الاحكام هو حجية الظن فيها» أي في الاحكام لانها هي المجرى لمقدمات الانسداد، و «لا» تقتضي مقدمات الانسداد «حجيته» أي حجية الظن «في» مقام «تطبيق المأتي به في الخارج معها» أي مع الاحكام فانه مقام آخر غير مقام الظن بالاحكام.

ثم فرع عليه بقوله: «فيتبع مثلا في وجوب صلاة الجمعة يومها» أي انما يتبع الظن الانسداد في اتيانه لوجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة، و «لا» يتبع في مقام «اتيانها» أي اتيان صلاة الجمعة خارجا، بان يكتفي المكلف باتيان صلاة الجمعة ظنا «بل لا بد من علم او علمي باتيانها» أي لا بد في مقام امتثالها من علم المكلف بالاتيان بها، أو قيام علمي بالخصوص على اتيانها، كما لو شك المكلف باتيانها و قامت عنده البينة باتيانها، او شك في اتيان اجزائها او شرائطها و احرزها بقاعدة التجاوز او الفراغ.

(1) قد عرفت ان محل الانسداد و حجية الظن هو الاحكام الكلية دون غيرها لا في مقام التطبيق، و من موارده هو الاحتمال الناشئ من الموضوعات الخارجية، فانه

ص: 235

أو عدم إمكانه عقلا، كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب و الحرمة مثلا، فلا محيص عن اتباع الظن حينئذ أيضا (1)،

______________________________

- مثلا- بعد قيام الظن بالتكليف الكلي و لو بالانسداد باشتراط مأكولية اللحم او الطهارة في لباس المصلي، فعلمنا ان احد الثوبين من غير مأكول اللحم او علمنا بنجاسة احدهما، و لكنا ظننا بان احدهما بخصوصه هو من المأكول او انه هو الطاهر فلا مجال لحجية الظن في هذا المقام، بل لا بد من الرجوع فيه الى الاصول، فان احرزت طهارة احدهما- مثلا- بان كان احدهما مستصحب النجاسة و الآخر مستصحب الطهارة فهو المرجع، و إلّا فلا بد من تركهما معا و الصلاة في غيرهما.

نعم، فيما لو علمنا باهتمام الشارع في مورد من الموارد بالخصوص بحيث احرزنا انه لا يرضى بالترك للامتثال فيما اذا اقتضت الاصول ذلك، فمع احراز الاهتمام كذلك و انسداد باب العلم و العلمي فلا بد حينئذ من الرجوع الى الظن، فيكون هذا الانسداد في الموضوع الخارجي الذي له حكم جزئي نظير الانسداد في الحكم الكلي، و يكون الظن هو المتبع فيه كالظن في مقام الانسداد في الاحكام الكلية.

و الحاصل: انه في هذا المورد الخاص يجري انسداد مختص به، و مقدماته هو العلم بلزوم امتثال هذا الحكم للعلم باهتمام الشارع فيه، و انسداد باب العلم و العلمي في مقام امتثاله، و عدم وجوب الاحتياط شرعا في مقام الامتثال، او عدم امكان الاحتياط فيه، و سيأتي بيان مثاله و عدم جواز الرجوع فيه الى الاصول، فحينئذ يتعين الظن في مقام امتثاله، و قد اشار الى انه نظير الانسداد في الاحكام الكلية بقوله: «ربما يجري نظير مقدمات الانسداد الى آخر الجملة» و اشار الى مقدمات الانسداد في مورد هذا الموضوع الخارجي بقوله: «من انسداد باب العلم به غالبا و اهتمام الشارع به الى آخر الجملة».

(1) قد أشار الى مثاله في المتن و هو موارد الضرر، و قد نقل عنه (قدس سره) مثال آخر غير موارد الضرر، و هو ما اذا ضاق الوقت بحيث لا يسع إلّا صلاة واحدة في احد

ص: 236

.....

______________________________

الثوبين المردد امرهما بين الماكولية و غير الماكولية، بان علم ان احدهما من غير المأكول، و من الواضح اهتمام الشارع بالصلاة بحيث لا يجوز تركها بحال، و من الواضح ايضا لزوم كون الساتر من المأكول، و قد انسد باب العلم و العلمي بمعرفة غير المأكول فلا يجوز الرجوع الى البراءة عن وجوب الصلاة المشترطة بالساتر بعد تردده بين المأكول و غير المأكول، فيتعين الرجوع الى الظن في تمييز الساتر غير المأكول من الساتر المأكول، فان حصل الظن بان احدهما من الساتر المأكول عمل بموجبه، و إلّا فيصلي عريانا او يتخير بين الصلاة عريانا و الصلاة في احد الثوبين.

و لا يخفى انه كان مثالا لعدم امكان الاحتياط عقلا بفرض ضيق الوقت الا عن صلاة واحدة.

و اما ما ذكره مثالا في الكتاب و هو موارد الضرر ..

فتوضيحه: ان ما يوجب استعماله الضرر حرام واقعا، فاحتمل المكلف ان في استعمال الماء في الوضوء او الغسل ضرر، فيدور امر استعمال الماء في الغسل او الوضوء بين كونه واجبا واقعا لاشتراط الصلاة بالطهارة اما وضوءا او غسلا فيما اذا لم يكن مضرا، و بين كونه حراما واقعا فيما اذا كان مضرا واقعا، و من الواضح ان ما يدور امره بين الوجوب و الحرمة لا يمكن الاحتياط فيه عقلا، و قد انسد باب العلم و العلمي بمعرفة كونه مضرا او غير مضر، و من الواضح اهتمام الشارع بالصلاة و لا يجوز تركها بحال، فلا مناص حينئذ من اتباع الظن لو امكن حصوله في كون استعمال الماء مضرا او غير مضر، فان حصل الظن بكونه مضرا ترك الطهارة المائية و صار فرضه الطهارة الترابية، و ان حصل الظن بعدم الضرر استعمل الماء في الطهارة الوضوئية او الغسلية، و الى هذا اشار بقوله: «كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب» لكونه شرطا في الوضوء أو الغسل «و الحرمة مثلا» لكونه مضرا واقعا «فلا محيص عن اتباع الظن حينئذ ايضا» كما يتبع في مورد الانسداد في الاحكام الكلية.

ص: 237

فافهم (1).

خاتمة: و فيها امران:

خاتمة: يذكر فيها أمران استطرادا: الاول: هل الظن كما يتبع عند الانسداد عقلا في الفروع العملية، المطلوب فيها أولا العمل بالجوارح، يتبع في الاصول الاعتقادية المطلوب فيها عمل الجوانح من الاعتقاد به و عقد القلب عليه و تحمله و الانقياد له، أو لا؟ الظاهر لا (2)، فإن الامر

______________________________

(1) لعله اشارة الى ان المتحصل من الاخبار هو كون الموضوع لجواز الاستعمال و عدمه هو خوف الضرر العقلائي و ان لم يكن بالغا درجة الظن، بل و لو كان وهما و لكنه كان عقلائيا، كما لو حصل الاحتمال للضرر من قول الطبيب العارف و لكنه لم يحصل من قوله الظن، فان هذا الاحتمال عقلائي و ان لم يكن بالغا مرتبة الظن، فاذا كان المدار على خوف الضرر العقلائي و هو امر وجداني اما ان يحصل او لا يحصل، فلا يدور الامر في موارد الضرر بين الوجوب و الحرمة، بل الفرض اما ان يكون هو وجوب استعمال الماء للوضوء أو الغسل حيث لا يحصل خوف من استعمال الماء، و اما ان يكون الفرض الطهارة الترابية حيث يحصل خوف من استعمال الماء، و حصول الخوف و عدمه امر وجداني لا واقعي، بخلاف ما اذا كان الموضوع هو الضرر الواقعي فانه يمكن فيه الدوران بين الوجوب و الحرمة واقعا لانه امر واقعي.

(2) الامر الاول في هذه الخاتمة هو: انه قد مر حكم العقل في الفروع بلزوم التنزل الى الظن حيث ينسد باب العلم فيها، فهل العقل يحكم في الاصول الاعتقادية بلزوم التنزل الى الظن فيها فيما اذا انسد باب العلم بها كما حكم في الفروع أو لا؟

و ينبغي بيان امرين توضيحا لعبارة المتن:

الاول: ان المطلوب في الفروع هو العمل الجارحي: أي الفعل الذي تقوم به الجوارح، و هي الاعضاء كاليد و الرجل و اللسان كما في الصلاة و الحج و امثالهما، او ما يتعلق بأمر خارجي كالزكاة فان المطلوب فيها اعطاء المال.

ص: 238

.....

______________________________

و اما في الاصول الاعتقادية فالمطلوب فيها هو العمل الذي تقوم به الجوانح كالعلم بها و عقد القلب عليها و تحملها: أي جعلها من محمولات القلب و البناء على الانقياد لها.

لا يقال: ان الفروع ايضا لها عمل تقوم به الجوانح كما تقوم بفعلها الجوارح و هو الالتزام بها.

فانه يقال، اولا: انه قد مر في باب القطع عدم وجوب الالتزام بها، و ان المطلوب فيها ليس إلّا العمل الاعضائي دون العمل القلبي.

و ثانيا: و على فرضه فنقول: ان الفرق بين الفروع و الاصول الاعتقادية هو ان المسلم في الفروع هو طلب العمل الجارحي، و اما العمل الجانحي ففيه خلاف، و على فرض القول به فهو مطلوب ثان غير العمل الجارحي، و اما في الاصول الاعتقادية فالمطلوب فيها ليس إلّا العمل الجانحي من العلم و عقد القلب و امثالها دون العمل الجارحي.

الامر الثاني: ان عقد القلب امر غير العلم و التصديق بالشي ء، كما مر بيانه في مبحث اتحاد الطلب و الارادة، و يدل عليه- مضافا الى شهادة الوجدان بان عقد القلب و البناء القلبي غير العلم و التصديق- قوله تعالى حاكيا عن الكفار بالنسبة الى رسالة النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ 17] بناء على ان المراد من الجحود بها هو البناء القلبي على عدم التصديق بها، و ان كانوا قد صدقوا بها واقعا دون الجحود اللساني.

و قد اشار بقوله: «هل الظن كما يتبع عند الانسداد عقلا في الفروع العملية» التي هي «المطلوب فيها اولا العمل بالجوارح» و في قوله اولا اشارة الى ان الفروع

ص: 239

الاعتقادي و إن انسد باب القطع به، إلا أن باب الاعتقاد إجمالا- بما هو واقعه و الانقياد له و تحمله- غير منسد، بخلاف العمل بالجوارح، فإنه لا يكاد يعلم مطابقته مع ما هو واقعه إلا بالاحتياط، و المفروض عدم وجوبه شرعا، أو عدم جوازه عقلا، و لا أقرب من العمل على وفق الظن.

و بالجملة: لا موجب مع انسداد باب العلم في الاعتقاديات لترتيب الاعمال الجوانحية على الظن فيها، مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها، فلا يتحمل إلا لما هو الواقع، و لا ينقاد إلا له، لا لما هو مظنونه، و هذا بخلاف العمليات، فإنه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الانسداد (1).

______________________________

اما المطلوب فيها هو العمل الجارحي لا غير أو ان العمل الجانحي مطلوب ثانوي فيها، بخلاف الاصول الاعتقادية فان المطلوب هو العمل الجانحي لا غير.

و على كل، فهل الظن كما يتبع عند الانسداد عقلا في الفروع «يتبع» ايضا عند الانسداد «في الاصول الاعتقادية» التي كان «المطلوب فيها هو عمل الجوانح» لا غير «من الاعتقادية» أي بالاصل الاعتقادي «و عقد القلب عليه و تحمله» أي جعله حملا للقلب يحتفظ به و البناء على «الانقياد له، اولا» أي أو لا يتبع الظن في الاصول الاعتقادية اذا انسد باب العلم فيها.

(1) توضيحه: انه في الامر الاعتقادي عملان للجوانح: الاول العلم به الذي هو التصديق، و الثاني و هو مما يترتب على العلم و التصديق و هو عقد القلب على ما علم و صدق به، و من الواضح في غير الانسدادي- أي في الانفتاح- حصول الامرين معا العلم بالشي ء بعنوانه الخاص به، و عقد القلب عليه بذلك العنوان الخاص به، و اما في حال الانسداد فلا مجال للامر الاول و هو العلم لفرض انسداد باب العلم، و لا سبيل لحكم العقل بالتنزل الى الظن حيث ينسد باب العلم، لان العقل انما حكم

ص: 240

.....

______________________________

بلزوم التنزل الى الظن في الفروع لان المطلوب فيها العمل الخارجي بامتثالها و عدم جواز اهمالها، و حيث لا يجب الاحتياط فيتعين العمل بالظن لانه ارجح من الوهم و الشك، و ليس في الاصول الاعتقادية عمل خارجي يلزم امتثاله حتى يحكم العقل بلزوم التنزل الى العمل بالظن فيها، فلا سبيل الى العقل في الحكم بلزوم التنزل الى الظن في الاصول الاعتقادية.

و بعبارة اخرى: ان متعلق الامر في الفروع هو الواقع، و العلم طريق اليه لان يمتثل المكلف و يأتي بمتعلق الامر خارجا، و اما في اصول الدين فمتعلق الامر نفس العلم به و ليس العلم فيها طريقا للامتثال، و لما كان العلم في الفروع طريقا للامتثال فاذا تمت مقدمات الانسداد يحكم العقل بلزوم الامتثال الظني بدلا عن الامتثال العلمي، و في الاصول ليس العلم طريقا للامتثال حتى يصح للعقل الحكم بالتنزل الى الامتثال الظني، بل نفس العلم و المعرفة متعلق الامر فلا مجال لحكم العقل بالتنزل الى الظن، لعدم تمامية مقدمات الانسداد، فان المقدمة الاولى- و هي العلم الاجمالي بتعلق الامر بالواقع- مفقودة، لما عرفت من ان متعلق الامر في الاصول ليس هو الواقع، بل العلم بالواقع.

و اما الامر الثاني و هو الذي يترتب على الاول من عقد القلب فلم ينسد الباب فيه حتى يكون مجال لحكم العقل بالتنزل الى عقد القلب على الظن، حيث لا مجال لعقد القلب على العلم، لوضوح امكان عقد القلب في حال الانسداد اجمالا عليه، بان يعقد قلبه على ما هو الواقع بما له من العنوان الواقعي و ان لم يعلم تفصيلا بعنوانه الواقعي.

و الفرق بين حال الانفتاح و الانسداد هو ان عقد القلب في الانفتاح على الواقع بعنوانه تفصيلا، و في الانسداد عقد القلب عليه بما له من العنوان اجمالا، فلا انسداد هنا حتى يلزم التنزل الى الظن و عقد القلب على المظنون بعنوانه التفصيلي، بل لا وجه له لاحتمال الخطا في عقد القلب على المظنون بعنوانه، بخلاف عقد القلب

ص: 241

.....

______________________________

على الواقع بما له من العنوان الواقعي اجمالا فانه لا مجال لاحتمال الخطأ فيه، ففي باب الانسداد فيه حيث لا مجال لعقد القلب عليه بعنوانه التفصيلي فالعقل يحكم بلزوم عقد القلب اجمالا و لا تصل النوبة الى الظن.

و قد اشار الى الانفتاح في عقد القلب بقوله: «فان الامر الاعتقادي و ان انسد باب القطع به إلّا ان باب الاعتقاد اجمالا بما هو واقعه و الانقياد له و تحمله» بما هو عليه من عنوانه الواقعي «غير منسد»، و اذا لم يكن الباب منسدا فلا مجال للتنزل الى عقد القلب على ما يعينه بظنه، لعدم الموضوع لحكم العقل حيث لا انسداد.

و قد اشار الى الفرق بين الفروع و الاصول، و انه انما يحكم العقل في الفروع بلزوم التنزل الى اتباع الظن و العمل على طبقه لان المطلوب في الفروع هو العمل و الامتثال خارجا، بخلاف الاصول الاعتقادية فانه لم يطلب فيها الامتثال و العمل خارجا بقوله: «بخلاف العمل بالجوارح» و هو مقام الفروع فان المطلوب فيها هو العمل، و امتثال المطلوب فيها واقعا منحصر في العلم و الاحتياط، و المفروض انسداد باب العلم، و اما الاحتياط فقد اشار الى عدم وجوبه بقوله: «فانه لا يكاد يعلم مطابقته» أي مطابقة العمل «مع ما هو واقعه إلّا بالاحتياط و المفروض عدم وجوبه شرعا» لادلة نفي العسر «او عدم جوازه عقلا» فيما اوجب الاختلال بالنظام، و حيث لا بد من الامتثال عملا «و لا اقرب من العمل على وفق الظن» فلا مناص من لزوم اتباع الظن و العمل على طبقه عقلا.

و قوله «و بالجملة الى آخره» هو بيان لما اشار اليه اولا من انفتاح باب العلم في مقام عقد القلب، لإمكان عقد القلب بنحو الاجمال، فلا انسداد حتى يكون مجال لحكم العقل بالتنزل الى الظن في حال الانسداد، و الى هذا اشار بقوله: «مع امكان ترتيبها» أي مع امكان ترتيب عقد القلب في حال عدم العلم «على ما هو الواقع فيها» اجمالا.

ص: 242

نعم، يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن، من باب وجوب المعرفة لنفسها، كمعرفة الواجب تعالى و صفاته أداء لشكر بعض نعمائه (1)،

______________________________

و اشار الى الفرق بين الفروع و الاصول في ان المطلوب في الفروع هو العمل خارجا دون الاصول الاعتقادية فانه لا عمل خارجي مطلوب فيها، فلذا كان مجال في حال الانسداد الى حكم العقل بلزوم اتباع الظن في الفروع دون الاصول بقوله:

«و هذا بخلاف العمليات» التي هي مقام الفروع «فانه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع» الانسداد و تمامية «مقدمات الانسداد فيها».

(1) الكلام في مقامات ثلاثة: وجوب معرفة اللّه عزّ و جل، و صفاته تعالى شانه، و وجوب معرفة انبيائه و رسله، و وجوب معرفة الأئمة و هم الاوصياء للانبياء و خلفائهم في الامة على الانبياء و عليهم افضل الصلاة و السلام.

اما الكلام في المقام الاول: و هو وجوب معرفة ذاته و صفاته جل و علا، فقد استدل المصنف على وجوب ذلك عقلا بقاعدة وجوب اداء شكر المنعم عقلا، و الكلام في مرحلتين: مرحلة دلالة القاعدة على وجوب المعرفة، و الثانية كون المعرفة بنفسها شكرا للمنعم، لا انها مقدمة لشكر المنعم.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 6 ؛ ص243

ا دلالة القاعدة على وجوب المعرفة فلأجل قاعدة الحسن و القبح العقلية المقتضية لحسن العدل و قبح الظلم، لانه من الواضح ان شكر المنعم من اظهر مصاديق العدل فيجب الشكر لانه عدل من العبد لمولاه، و ترك شكره من ظلم العبد لمولاه، فشكر المنعم عليه لمن انعم عليه عدل منه اليه فيجب عقلا، و ترك شكره ظلم منه اليه فيحرم عقلا، فاذا ثبت وجوب شكر المنعم عقلا نقول: انه من الجلي البديهي انه لا يتأتى شكر المنعم الا بمعرفته فتجب معرفته اداء لشكره.

و اما المرحلة الثانية فهي ان معرفته ليست مقدمة لشكره حتى يكون وجوبها مقدميا، بل المعرفة بنفسها هي المرتبة الاولى للشكر الواجب، فهي واجب نفسي لما تقرر في محله من ان للشكر مراتب ثلاث: علم، و حال، و عمل، و المعرفة للمنعم

ص: 243


1- 18. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

و معرفة أنبيائه، فإنهم وسائط نعمه و آلائه (1)، بل و كذا معرفة الامام عليه السّلام على وجه صحيح، فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي و وصيه لذلك (2)،

______________________________

هي مرتبة الشكر له علما، و التخضع و الخشوع قلبا للمنعم هي مرتبة الشكر له حالا، و عبادته هي مرتبة الشكر له عملا، فمعرفة المنعم وجوبها وجوب نفسي لانها اول مراتب الشكر له.

و قد اشار الى كونها واجبا نفسيا بقوله: «وجوب المعرفة لنفسها»، و اشار الى كون وجوبها لقاعدة وجوب شكر المنعم بقوله: «اداء لشكر بعض نعمائه».

(1) الظاهر من المتن ان وجوب معرفة الانبياء لانها ايضا هي من مصاديق قاعدة وجوب شكر المنعم لانهم وسائط نعم اللّه الى عباده، لان فيض اللّه و فضله يمر من الاعلى الى الادنى، فالاعلى مجرى الآلاء و النعم الى الادنى، فنعمته تعالى على عباده تنسب اليه بما يليق لمقام وجوبه و غناه، و تنسب الى الوسائط بما تنسب مقام امكانهم و فقرهم، فإليه جل و علا تنسب اولا، و الى الوسائط تنسب ثانيا، و من الواضح وجوب شكر كل منعم و لو كان منعما بالواسطة، و قد عرفت ان معرفة المنعم تجب بالوجوب النفسي، لانها بنفسها مصداق للشكر الواجب عقلا، فمعرفة الانبياء تجب لان من له دخالة في النعمة فهو منعم ايضا، و أول مراتب شكر المنعم معرفته، و لذا قال (قدس سره): «و معرفة انبيائه» أي و تجب معرفة انبيائه «فانهم وسائط نعمه» و وسيط النعمة منعم، و أول مرتبة شكر المنعم معرفته.

(2) الكلام في الامامة على الوجه الصحيح في مقامين:

الاول: في كونها كالنبوة مجرى للفيض، فالامام كالنبي من وسائط النعم و يجب معرفته لوجوب شكره، لعين ما مر في وجوب معرفة الانبياء اداء لوجوب شكرهم.

و توضيحه: ان قاعدة الامكان الاشرف القاضية بوجوب وجود الاعلى دائما ليكون مجرى للفيض و واسطة في بلوغ نعمه الى من هو دون الوجود الاعلى من

ص: 244

.....

______________________________

موجودات عالم خلقه، أو لأن الوجود الاعلى هو الغاية لخلق الوجود الادنى للزوم كون الغاية لفعل الخالق العالي هو الوجود الاعلى من خلقه.

و على كل، فهم اما مجرى فيض الوجود و وسائط النعم، او انهم الغاية له، فهم من علل الوجود الغائية للوجود الادنى، و على كل حال فلهم الدخالة في النعم، و ممن تنسب النعمة اليهم اما وساطة او غاية فتجب معرفتهم أداء لوجوب شكرهم كما مر في وجوب معرفة الانبياء.

المقام الثاني في كون الامامة من المناصب الالهية لانهم الطريق لتبليغ احكامه الواقعية، فلا بد و ان يكون المبلغ مضافا الى قداسته في نفسه ان يكون مامونا من الخطأ معصوما من الوقوع فيه، و لا يكون كذلك الا من كان وجودا عاليا قدسيا قد ارتفع عن الخطأ بحسب مقام ذاته، فارتفاع نفسه و علو مقامه مانع له عن ان ينسى او يغفل، فالطريق لتبليغ الاحكام الواقعية يجب ان يكون معصوما من الخطأ لئلا يكون من جهة التبليغ حجة للناس على اللّه، و لا بد و ان يكون له تعالى الحجة دائما على الناس، و لذا قالوا: ان من يقع في طريق التبليغ لا بد و ان يكون واجب العصمة، و لما كان هذا الوجود العالي المعصوم مما يعسر على الناس معرفته و الاهتداء اليه كان يجب على اللّه نصبه و تعيينه، فلذلك كانت الامامة من المناصب الالهية المحتاجة الى نص من رسله على اوصيائهم و الائمة من بعدهم.

لا يقال: إن كون الامامة من المناصب الالهية و طريقا لتبليغ احكامه الواقعية لازمه ان تكون ملغاة في الغيبة، اذ لا يصل الناس الى الامام حتى يمكن ان يبلغهم احكام اللّه الواقعية.

فانه يقال: ان المراد كون الامام ممن يمكن ان يبلغ لا انه يلزم ان يبلغ بالفعل.

و بعبارة اوضح: انه لما كان لا بد ان لا يكون للناس على اللّه الحجة فاللازم وجود الحجة، بحيث لو رجع الناس اليه لبلغهم، و احتجابه عنهم خوفا منهم، فالذي على اللّه ان يكون حجته موجودا بالفعل دائما، بحيث لو امن الناس و رجعوا

ص: 245

و لاحتمال الضرر في تركه (1)، و لا يجب عقلا معرفة غير ما ذكر، إلا ما وجب شرعا معرفته، كمعرفة الامام عليه السّلام على وجه آخر غير صحيح،

______________________________

اليه لبلغهم احكام اللّه الواقعية، و اما اذا لم يكن موجودا بالفعل فاذا رجع الناس اليه لا يجدونه فيكون لهم على الحجة.

و اما كون الامامة رئاسة دينية و دنيوية مما يحتاج النظام الصحيح اليها فهو طريق آخر لاثبات الامامة.

و على كل حال، فيجب معرفتهم بعد معرفة اللّه تعالى و انبيائه، لانهم طرق المعارف الالهية و الاحكام الواقعية، و لعله اشار الى كلا المقامين بقوله: «و كذا» أي و كما يجب معرفة النبي كذلك «تجب معرفة الامام عليه السّلام على وجه صحيح الى آخر الجملة».

(1) لا يخفى ان وجوب دفع الضرر المحتمل هو طريق ثان لوجوب المعرفة عقلا غير طريق وجوب اداء شكر المنعم، و هو يعم المعرفة له تبارك و تعالى و لانبيائه و لاوصيائه، و يؤيد ذلك تعقيبه له بقوله: «و لا يجب عقلا معرفة غير ما ذكر» و ما ذكر هو معرفة اللّه تعالى و معرفة انبيائه (ص) و معرفة اوصيائه عليهم السّلام التي هي معرفة الامام عليه السّلام، و لا وجه لاختصاص وجوب دفع الضرر المحتمل بخصوص معرفة الامام عليه السّلام لوضوح احتمال الضرر ايضا في ترك معرفته تعالى و معرفة انبيائه (ص).

و على كل حال، فقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل اما قاعدة عقلية بنفسها بناء على كون العقل هو الحاكم بوجوب دفع الضرر المحتمل، او كون دفع الضرر المحتمل من فطريات كل ذي شعور فلا يكون قاعدة عقلية، و لكنه من الفطري لكل ذي شعور الفرار من الضرر المحتمل، و سيأتي ان شاء اللّه تعالى الكلام فيها من حيث كونها قاعدة عقلية برأسها، او انها من الفطريات في مقام آخر.

و على كل حال، فدفع الضرر المحتمل في المقام اما واجب عقلا لقاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل، او انه لازم طبعي لكل ذي شعور، فترك المعرفة محتمل للضرر

ص: 246

أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته (1)، و ما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص، لا من العقل و لا من النقل، كان أصالة

______________________________

و لا مؤمن منه، و دفعه اما واجب عقلي او انه من طبع كل ذي شعور، و لا يخفى ان الضرر المحتمل في المقام هو العقاب بترك المعرفة.

و لا ينبغي ان يتوهم ان احتمال الضرر منفي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان فانها لا مجرى لها في مثل المعرفة، اما لان موردها الشك في حكم من له البيان، و لا يكون ذلك الا بعد معرفة من له البيان، و لا محل لها في نفس معرفته.

أو لأن احتمال الضرر الذي لا مؤمن منه صالح لان يكون بيانا، فلا مجرى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان على كل حال.

فاتضح مما ذكرنا: ان معرفة الواجب تعالى و معرفة انبيائه و اوصيائه يجب تحصيلها، اما لوجوب شكر المنعم، أو لأن في تركها احتمال الضرر و يلزم دفعه.

قوله: «و لا يجب عقلا معرفة غير ما ذكر الخ» أي ان غير معرفة اللّه تعالى و النبي و الامام على الوجه الصحيح لا تجب عقلا، لعدم منعم سواهم و لعدم احتمال الضرر في ترك معرفة غيرهم.

قوله (قدس سره): «الا ما وجب شرعا معرفته الخ» حاصله: ان المعرفة اما ان تجب عقلا كما في معرفة المنعمين ثلاثتهم، او يدل دليل شرعي على وجوب المعرفة في غيرهم.

(1) المراد من الامامة- على الوجه غير الصحيح- هي كونها ليست من المناصب الالهية الراجع امرها الى اللّه تعالى، بل هي من المناصب البشرية تحصل من اجتماع بعض المسلمين و اختيارهم رئيسا للمسلمين جميعا. و اما اجتماع المسلمين جميعا و مشاورتهم كلهم في اختيار الرئيس لهم فهو ممتنع، لامتناع اجتماعهم كلهم عادة، و امتناع اجتماعهم كلهم- ايضا- على رأي واحد، و لا وجه لترجيح رأي بعض على

ص: 247

البراءة من وجوب معرفته محكمة (1). و لا دلالة لمثل قوله تعالى:

______________________________

بعض بعد ان يكون لكل واحد منهم حق الرأي، و على كل فالامامة على الوجه غير الصحيح هي كونها من غير المناصب الالهية.

ثم لا يخفى ان قوله: «كمعرفة الامام على وجه آخر غير صحيح» يحتمل ان يكون متعلقا بقوله و لا يجب عقلا معرفة غير ما ذكر، و لكنه بعيد لانه خلاف سياق العبارة اولا، و لان قوله بعده «اوامر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته» يكون مستدركا، لانه مساوق لقوله «الا ما وجب شرعا معرفته» فلا وجه لإعادته، و الظاهر من السياق هو كونه متعلقا بقوله: «الا ما وجب شرعا معرفته» و يكون المعنى المراد منه هو ان معرفة الامام و ان كانت على الوجه غير الصحيح، إلّا انها مع ذلك قد دل الدليل الشرعي على وجوبها و هو الخبر المتواتر عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم: (من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(1) و حينئذ يكون المراد من قوله: «أو امر آخر الى آخر الجملة» هو دلالة الدليل الشرعي على وجوب معرفة المعاد الجسماني فانه امر آخر غير الامامة.

(1) بعد بيانه لما دل العقل على وجوب معرفته، و ما دل النقل بالخصوص على وجوب معرفته، اشار الى ان الاصل فيما شك في وجوب معرفته هو البراءة عقلا لقبح العقاب بلا بيان، و نقلا لقوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: (رفع ما لا يعلمون)، و لا عموم و لا اطلاق يرجع اليه مقتض لوجوب معرفة كل ما شك في وجوب معرفته، و لذا قال (قدس سره): «كان اصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة» و هو ما شك في وجوب معرفته و لم يدل دليل بالخصوص من العقل على وجوب معرفته كما دل على وجوب معرفة اللّه تعالى و انبيائه و اوصيائه، و لا من النقل على وجوب معرفته

ص: 248


1- 19. ( 1) الحدائق الناضرة ج 5، ص 176.

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ الآية (1)، و لا لقوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم:

______________________________

كما دل الدليل الشرعي على وجوب معرفة الامامة، و لو فرض كونها من المناصب غير الالهية، و على وجوب معرفة المعاد الجسماني.

(1) لا يخفى انه قد استدل باطلاق ادلة اربعة على وجوب معرفة كل ما شك في وجوب معرفته، و لذلك اشار المصنف اليها و الى اجوبتها.

الدليل الاول: اطلاق الآية و هي قوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ 20].

و يتوقف الاستدلال بهذه الآية المباركة على كون المراد من قوله لِيَعْبُدُونِ هو ليعرفون، كما يظهر من اطباق المفسرين على ان المراد من ليعبدون هو ليعرفون، و انما عبر عن المعرفة بالعبادة لان العبادة هي لازم المعرفة او هي بنفسها عبادة.

و وجه الاستدلال بها على هذا هو دلالة الآية على ان الغاية للخلق هي المعرفة، و ما كان هو الغاية لأصل الخليقة فوجوبه على الخلق من اوضح الاشياء، فالمعرفة لما كانت هي الغاية فهي الواجبة، و حيث حذف متعلق المعرفة في الآية و لم تقيد المعرفة بشي ء فيها فلها اطلاق يشمل كل ما شك في وجوب معرفته.

و الجواب عنها: هو ان النون في قوله لِيَعْبُدُونِ هي نون الوقاية لا نون الجمع، لوضوح ان الفعل من الافعال الخمسة الذي يكون نصبه بحذف النون، فنون الجمع فيه محذوفة، و هذه النون الموجودة هي نون الوقاية، و نون الوقاية هي اللاحقة للفعل لتقيه من كسرة ياء المتكلم التي لا بد من كسر ما قبلها، و بعد اتصال ياء المتكلم بالفعل يكون المتحصل من الآية هي الدلالة على وجوب معرفته تبارك و تعالى فقط، و لا يكون لها اطلاق يشمل غير معرفته، فضلا عن ان يكون اطلاقها شاملا لكل ما شك في وجوب معرفته.

ص: 249

(و ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس) (1) و لا لما

______________________________

و الحاصل: ان متعلق المعرفة في الآية المحذوف هو ياء المتكلم و المتكلم هو اللّه تبارك و تعالى، فالآية تدل على وجوب معرفته، و ليس المحذوف امرا غير معين ليكون مطلقا يشمل كل ما شك في وجوب معرفته، و قد عرفت ايضا انه انما عبر عن المعرفة بالعبادة لكونها لازم المعرفة أو انها هي بنفسها عبادة، و انما تكون العبادة من لوازم المعرفة او بنفسها عبادة حيث تكون المعرفة معرفة اللّه، و اما غير معرفة اللّه لو فرضنا القول بوجوبها فلا يلازمها العبادة، لوضوح عدم صحة عبادة كل ما وجب معرفته، بل خصوص معرفة اللّه هي عبادته او التي يلازمها عبادته، فلو كان المراد معرفة كل ما شك في وجوب معرفته لما حسن التعبير عنه بالعبادة.

(1) هذا هو الدليل الثاني و هو قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما أعلم شيئا بعد المعرفة افضل من هذه الصلوات الخمس)(1).

و وجه الاستدلال به هو دلالة هذا الحديث المبارك على كون المعرفة اعلى و افضل من الصلوات الخمس، لجعل افضلية الصلوات الخمس بعد المعرفة، و لا ريب في وجوب ما كان افضل من المسلم وجوبه، فالمعرفة واجبة لكونها افضل من الصلوات الخمس المسلم وجوبها، و حيث لم يقيد المعرفة بشي ء فيكون لها شمول و اطلاق او عموم بناء على افادة لام الجنس للعموم.

و الجواب عنها اولا: بان الرواية لم تسق لبيان وجوب المعرفة حتى يصح الاستدلال باطلاقها، و انما هي مسوقة لبيان فضل الصلوات الخمس.

و اما دعوى عمومها فقد عرفت في مبحث العام و الخاص عدم كون اللام من الفاظ العموم.

ص: 250


1- 21. ( 1) الكافي، ج 3، ص 264.

دل على وجوب التفقه (1) و طلب العلم من الآيات و الروايات على

______________________________

و ثانيا: بان التدبّر في الرواية يقتضي كون اللام في المعرفة عهدية، و المراد بها معرفة اللّه خاصة او مع انبيائه و اوصيائه، لان المعرفة حيث يراد بها العموم تكون شاملة لمعرفة الصلوات الخمس، و لا وجه لان تكون معرفة الصلوات الخمس افضل من نفس الصلوات الخمس، مضافا الى القطع بكون بعض ما شك في وجوب معرفته هو اقل فضلا من الصلوات الخمس، فلا وجه لان يراد بالمعرفة في الخبر الاطلاق الشامل لكل ما شك في وجوب معرفته.

(1) هذا هو الدليل الثالث و المراد مما دلّ على وجوب التفقه هو آية النفر المتقدّمة في مبحث خبر الواحد، و هي قوله تعالى: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ 22].

و وجه الاستدلال بهذه الآية او بغيرها من الروايات الدالة على وجوب التفقه على وجوب المعرفة المطلقة الشاملة لكل ما شك في وجوب معرفته هو ان المعرفة من جملة التفقه، و حيث وجب التفقه فتجب المعرفة لانها من التفقه في الدين، فكل ما شك من الدين في وجوب معرفته تجب معرفته لانها من التفقه في الدّين.

و الجواب عنه: ان البيان في الآية مسوق لبيان وجوب التفقه لا لبيان ما يجب التفقه فيه حتى يكون لها اطلاق من هذه الجهة، و انما يكون لها اطلاق ينفع في المقام حيث تكون مسوقة لبيان ما يجب التفقه فيه، لا لبيان وجوب التفقه.

و بعبارة اخرى: ان هنا أمرين: وجوب معرفة ما اوجبه اللّه و حرمة، و وجوب المعرفة نفسها في كل ما شك في وجوب معرفته، و الآية مسوقة لبيان الامر الاول و وجوب التفقه لمعرفة ما هو الواجب.

ص: 251

وجوب معرفته بالعموم (1)، ضرورة أن المراد من (ليعبدون) هو خصوص عبادة اللّه و معرفته، و النبوي إنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات لا بيان حكم المعرفة، فلا إطلاق فيه أصلا، و مثل آية النفر،

______________________________

و الحاصل: ان التفقه لمعرفة الواجب نفسه غير التفقه لنفس وجوب المعرفة، فهاتان جهتان، و سوق الآية للبيان من الجهة الاولى لا يقتضي لها اطلاقا من الجهة الثانية، و الذي ينفع في المقام هي الجهة الثانية، و لم تسق الآية للبيان من ناحيتها حتى يكون لها اطلاق.

و من الواضح اشتراط الدلالة الاطلاقية باحراز البيان، و كثيرا ما يكون الدليل له اطلاق من جهة و لا يكون له اطلاق من جهة اخرى، لسوق البيان فيه في خصوص جهة دون جهة اخرى.

(1) هذا هو الدليل الرابع و هو ما دلّ على وجوب طلب العلم.

و وجه الاستدلال بذلك على نحو آية التفقه و هو كون المعرفة من العلم، فما دلّ على وجوب طلب العلم يدلّ على وجوب المعرفة.

و الجواب عنه ايضا مثل الجواب عن آية التفقه، بانه لا اطلاق للدليل الذي يساق من جهة طلب العلم من جهة لزوم معرفة ما يجب طلب العلم به.

و بعبارة اخرى: ان المراد مما دلّ على وجوب طلب العلم هو معرفة نفس ما اوجبه اللّه و ما حرّمه و ذات المعارف الالهية و الاخلاق التي بها يصل العبد الى رضاه تبارك و تعالى، و هذا غير نفس وجوب المعرفة بذاتها بما هي معرفة، و أدلة طلب العلم لها اطلاق من تلك الناحية لا من هذه الناحية، فلا اطلاق في ادلة وجوب طلب العلم ليتمسك به في مقام الشك في وجوب معرفة ما شك في وجوب معرفته بما هي معرفة.

و الحاصل: ان الظاهر ان العلم المسوق الاطلاق له هو العلم الطريقي لا الموضوعي، و المعرفة هي العلم، فالعلم فيها موضوعي لا طريقي.

ص: 252

إنما هو بصدد بيان الطريق المتوسل به إلى التفقه الواجب، لا بيان ما يجب فقهه و معرفته، كما لا يخفى، و كذا ما دل على وجوب طلب العلم إنما هو بصدد الحث على طلبه، لا بصدد بيان ما يجب العلم به (1).

ثم إنه لا يجوز الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلا أو شرعا، حيث أنه ليس بمعرفة قطعا، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن (2)، و مع العجز

______________________________

(1) شروع في الاشارة الى الاجوبة عن الادلة المذكورة، فاشار الى الجواب عن الآية الاولى بقوله: «ان المراد من لِيَعْبُدُونِ هو خصوص عبادة اللّه و معرفته» لان النون نون الوقاية، و لازمها كون الواجب هو خصوص معرفة اللّه، فلا اطلاق فيها يشمل غيرها مما شك في وجوب معرفته.

و اشار الى الجواب عن الحديث النبوي بقوله: «و النبوي ... الى آخر الجملة» و قد مرّ بيانه.

و اشار الى الجواب عن آية التفقه بقوله: «و مثل آية النفر انما هو بصدد بيان الطريق ... الى آخر الجملة» و قد مر ايضا تفصيله.

و اشار الى الجواب عما دل على وجوب طلب العلم بقوله: «انما هو بصدد الحث ... الى آخره» و قد مر ايضا توضيحه.

(2) لا يخفى ان ما تقدم من الكلام كان في عدم كفاية الظن في اصول الدين، و الآن يشرع في الدليل على عدم الكفاية، و قوله: «ثم انه لا يجوز الاكتفاء بالظن» ...

شروع في الدليل على عدم الكفاية.

و حاصله: ان العقل و النقل دلا على لزوم المعرفة و هي العلم، و لذلك لا يجوز الاكتفاء بالظن فيما وجب معرفته و العلم به عقلا كمعرفته تبارك و تعالى، لأن العلم هو الهيئة النورانية التي تتجوهر بصورتها النفس المجردة من الظلمة، و هو التصديق و الاذعان النفسي، و هو حقيقة الايمان الموجب للخلود في نعيم الآخرة، و هو المعرفة التي اوجبها العقل، و من الواضح ان الظن لكونه مشوبا باحتمال الخلاف لا يكون

ص: 253

عنه كان معذورا إن كان عن قصور لغفلة أو لغموضة المطلب مع قلة الاستعداد، كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال (1)، بخلاف

______________________________

مجردا عن الظلمة و لا خالصا عن الجهل و لم يحضر عنده حضورا خالصا عن العدم، فان معنى احتمال الخلاف هو احتمال العدم، و العدم ظلمة و جهل، و المعرفة هي الحضور النوري الذي لا جهل فيه و لا ظلمانية، و لا يقال لمن ظن بشي ء انه قد عرفه، بل يقال لمن علم به قد عرفه، فالظن ليس بمعرفة.

و حيث قد وجبت المعرفة فلا يجوز الاكتفاء بالظن لانه ليس بمعرفة، و لذا قال (قدس سره): «حيث انه» أي الظن «ليس بمعرفة قطعا فلا بد من تحصيل العلم» لانه هو حقيقة المعرفة.

(1) الكلام في مقامين: الاول: في كون الجاهل قاصرا او مقصرا و وجود كلا الفردين.

الثاني: في معذورية الجاهل القاصر عقلا، و عدم معذورية المقصر عقلا.

اما المقام الاول: فلا شبهة في اختلاف الاستعدادات في طبائع البشر، فان من المشاهد بالوجدان ان من الناس من لا استعداد له لإدراك أي معنى غامض، و لا تنفع أي محاولة في ايصال ادراكه اليه، و هو المستضعف المشار اليه في القرآن الكريم و في الروايات عن آل البيت عليهم السّلام، و من الناس من يكون له استعداد و لكنه يكون غافلا بحيث لم يخطر بباله و لو بنحو الاحتمال ما يحتمل لزوم الفحص عنه و احتمال الضرر في تركه، و هؤلاء هم الجاهل القاصر.

و اما الجاهل المقصر فهو غيرهم ممن له استعداد لادراك الغامض من الامور و لا يكون غافلا، بل يكون ملتفتا الى ما يلزمه بالفحص لاحتمال الضرر في تركه.

فاتضح مما ذكرنا الفرق بين الجاهل القاصر و المقصر، و ان الاول ما لا استعداد له أو ما كان غافلا اصلا، و الثاني ما له الاستعداد و لا يكون غافلا من رأس، و اتضح أيضا وجود كلا الفردين بشهادة الوجدان في عدم الاستعداد في كثير من الرجال و النساء.

ص: 254

ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد (1)، و لو لاجل حبّ طريقة الآباء و الاجداد و اتباع سيرة السلف، فإنه كالجبلّي للخلف، و قلما عنه تخلّف (2) و المراد من المجاهدة في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا

______________________________

و اما المقام الثاني: فمعذورية القاصر عقلا ترجع الى التكليف بايجاد المعلول مع فرض عدم علته و هو محال بيّن، و اما رجوع تكليفه الى ذلك فلان من الواضح ان الاستعداد للادراك من اجزاء علة الادراك، فتكليف من لا استعداد له لادراك المعرفة بالمعرفة مع فرض عدم استعداده لإدراكها من التكليف بايجاد المعلول مع فرض عدم علّته، و لذا كان من المسلّمات معذورية القاصر عقلا.

و قد اشار الى معذورية القاصر بقوله: «و مع العجز عنه كان معذورا ان كان عن قصور» فانه مع فرض العجز عن الشي ء لا يعقل التكليف بالشي ء، لرجوعه الى التكليف بالمعلول مع فرض عدم علته، ثم اشار الى ان العجز عن قصور اما للغفلة او لعدم الاستعداد بقوله: «لغفلة او لغموضة المطلب مع قلة الاستعداد»، ثم اشار الى وجود القاصر بقوله: «كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال».

(1) قد اتضح مما ذكرنا في معذورية القاصر عدم معذورية المقصّر لفرض تمامية العلة فيه فلا يكون من التكليف بالمعلول مع فرض عدم العلة، لان الجاهل المقصّر هو من له الاستعداد لإدراك المطلب و ان كان غامضا و لفرض عدم الغفلة ايضا، فيرجع تركه للمعرفة الى تقصيره مع قدرته و عدم غفلته، فلذا لم يكن معذورا لا عقلا و لا شرعا، و الى هذا اشار بقوله: «بخلاف ما اذا كان عن تقصير في الاجتهاد» لرجوع الترك منه الى عدم الفعل مع القدرة على الفعل.

(2) لا يخفى ان الجاهل المقصّر قسمان: هو من لم يبحث و لم يجتهد فلم يصل، و من بحث و اجتهد و لكنه لم يصل ايضا، و ربما اعتقد بحسب ما وصل اليه بخلاف الحق.

ص: 255

لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا هو المجاهدة مع النفس، بتخليتها عن الرذائل و تحليتها بالفضائل، و هي التي كانت أكبر من الجهاد، لا النظر و الاجتهاد، و إلّا لادّى إلى الهداية، مع أنه يؤدي إلى الجهالة و الضلالة، إلا إذا كانت هناك منه- تعالى- عناية، فإنه غالبا بصدد إثبات أن ما وجد آباءه عليه هو الحق، لا بصدد الحق، فيكون مقصّرا مع اجتهاده، و مؤاخذا إذا أخطأ على قطعه و اعتقاده (1).

______________________________

و لا اشكال في كون الاول مقصّرا، و لكن الاشكال في الثاني لدعوى كونه من القاصر دون المقصّر، لان عدم وصوله مع بحثه و اجتهاده يرجع الى عدم قدرته، فاشار الى الجواب عنه بقوله: «و لو لاجل حب طريقة الآباء و الاجداد».

و حاصله: ان البحث عن الحق على نحوين: لانه تارة: يكون بحثا عن الحق لاجل الحق، و هذا هو الذي يكون- بحيث لم يصل- معذورا و بحكم الجاهل القاصر، و اخرى لا يكون بحثا عن الحق للحق، بل يكون بحثه لاجل ان يصبغ طريقة آبائه و اجداده بصبغة الحق على كل حال، فلا يكون بحثه بحثا عن الحق لاجل الحق بل يكون بحثه ناشئا عن تعصب لطريقة آبائه في اعطائها صبغة الحقية على كل حال، و هذا يرجع الى باب تمويه النفس على النفس، و لو رجع هذا الباحث الى انصافه لوجد نفسه شاكا غير معتقد، و حيث فرض استعداده و قدرته على الوصول الى الحق كان غير معذور في ترك معرفته، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و لو لاجل حبّ طريقة الآباء ... الى آخر الجملة».

(1) ظاهر المتن انه جواب عن سؤال مقدّر في المقام، و حاصله: انه لقائل ان يقول:

ان قوله تعالى: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا(1) يدل على ان المجاهدة في

ص: 256


1- 23. ( 1) العنكبوت: الآية 69.

ثم لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم، فيما يجب تحصيله عقلا لو أمكن، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه، بل بعدم جوازه، لما أشرنا إليه من أن الامور الاعتقادية مع عدم القطع بها أمكن الاعتقاد بما هو واقعها و الانقياد لها، فلا إلجاء فيها

______________________________

اللّه تستلزم الهداية، و نفس البحث من الباحث هي المجاهدة في اللّه، فكيف يمكن ان يبحث باحث و لم يصل؟

و قد اجاب عنه أولا: بان المراد من المجاهدة في الآية ليست البحث و الاجتهاد، بل المراد منها هي الجهاد و لكنه للنفس بقمعها عن رذايل الشهوات، و تخليتها عن اتباع الهوى و ارغامها على فضائل العبادات و تحليتها بحلية الهدى، فهي اجنبية عن المقام، و اليه اشار بقوله: «هو المجاهدة مع النفس ... الى آخر الجملة» أي ان المراد من الذين جاهدوا هم اهل المجاهدة مع النفس لا اهل البحث و الاجتهاد.

و ثانيا: ما يظهر من طي كلماته، و هو انه لو سلّمنا ان المراد من المجاهدة هي البحث و الاجتهاد، و لكنها لا تستلزم اهداء هذا المقصّر، لان المجاهدة في اللّه هي البحث عن الحق لاجل الحق لا البحث لاعطاء طريقة اهله صبغة الحق على كل حال، و اليه اشار بقوله: «فانه غالبا بصدد اثبات ان ما وجد آباءه عليه هو الحق لا بصدد الحق» و مثل هذا الباحث يكون مقصّرا غير معذورا، و لذا قال (قدس سره):

«فيكون مقصّرا ... الى آخر الجملة».

و قد ظهر انه بناء على ان المراد بالمجاهدة هي جهاد النفس لا ما يشمل لزوم اعطاء الهداية للباحث، و لو فيما اذا كان باحثا عن الحق لاجل الحق، و عليه فالفرق بين الباحث لاجل الحق و الباحث لحبّ طريقة الآباء، هو ان الاول اذا لم يصل الى الحق كان معذورا و له حكم الجاهل القاصر، و الثاني لا يكون معذورا و يستحق العقاب.

ص: 257

أصلا إلى التنزل إلى الظن فيما انسد فيه باب العلم، بخلاف الفروع العملية، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) هذا هو الدليل الثاني على ان العاجز عن المعرفة في الاصول لا استقلال للعقل بلزوم التنزل الى الظن، و قد مرت الاشارة اليه فيما سبق.

و حاصله: ان من مقدمات الانسداد العلم الاجمالي بالتكليف، و عدم امكان الامتثال الاجمالي و لو بنحو الاحتياط، و على هذا نقول: ان متعلق التكليف في اصول الدين ان كان هو العلم بها بنحو ان يكون العلم جزء متعلق التكليف فالعلم الاجمالي بالتكليف مفقود، لانه مع تعذر احد جزأي متعلق التكليف لا تكليف، و ان كان متعلق التكليف هو التدين بالواقع من دون تقيده بالعلم فلا انسداد ايضا، لامكان الامتثال بالتدين بالواقع على ما هو عليه فيما اذا لم يتأت العلم به تفصيلا.

و الحاصل: انه لو فرضنا ان العقل يحكم بلزوم التنزل الى الظن مع الانسداد حتى في اصول الدين، إلّا انه لما كان التكليف في الاصول هو المعرفة و عقد القلب، و بعد الانسداد و العجز عن المعرفة بالعنوان الخاص بعينه تفصيلا لا انسداد و لا عجز عن عقد القلب على الواقع اجمالا بما له من عنوانه الخاص واقعا، فلا وجه للتنزل الى الظن، اذ لا احتمال للخطإ مع عقد القلب اجمالا، بخلاف عقد القلب مع الظن على عنوان خاص تفصيلا فانه محتمل للخطإ، و مع امكان الامتثال على نحو لا يحتمل الخطأ لا وجه لحكم العقل للتنزل لما يحتمل الخطأ.

و بعبارة اخرى: انه مع انفتاح باب الامتثال و لو بنحو الاجمال لا انسداد حتى يكون مجال للتنزل الى الظن، فان موضوعه هو الانسداد، و لا مجال له مع الانفتاح.

و الحاصل: انه قد اتضح مما ذكرنا امران:

الاول: ان حكم العقل بلزوم تحصيل الظن و وجوبه منوط بالانسداد، فحيث لا انسداد لا يجب بحكم العقل لزوم تحصيل الظن، و الى هذا اشار بقوله: «ثم

ص: 258

.....

______________________________

لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم فيما يجب تحصيله» أي فيما يجب تحصيل العلم به «عقلا لو امكن» تحصيل العلم به.

و من الواضح ان عدم استقلال العقل بالوجوب اعم من استقلاله بعدم الوجوب، كما ان استقلاله بعدم الوجوب اعم من استقلاله بالحرمة، و لذا نفى أولا استقلال العقل بوجوب تحصيل الظن في صدر عبارته، ثم في ذيلها حكم باستقلال العقل بعدم الوجوب بقوله: «لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه».

ثم ترقّى الى حكم العقل بعدم جواز التنزّل الى الظن مع امكان عقد القلب على الواقع اجمالا، مشيرا اليه بقوله: «بل بعدم جوازه» و هذا هو الامر الثاني الذي ظهر مما ذكرنا، و هو ان انفتاح باب المعرفة بنحو الاجمال فيما يجب تحصيل العلم به كاصول الدين يقتضي بعدم جواز التنزل الى الظن عقلا، لاحتمال الخطا في الظن في عقد القلب على المظنون بخصوصه، دون عقد القلب بنحو الاجمال على الواقع بما له من عنوانه الخاص واقعا، فانه لا احتمال للخطإ فيه، و مضافا الى احتمال الخطأ ان عقد القلب على المظنون بخصوصه فيما لو أخطأ الظن يكون من التشريع و ادخال ما ليس من الدين في الدين، بخلاف عقد القلب على الواقع اجمالا فانه لا تشريع فيه، و لذا قال (قدس سره): «بل بعدم جوازه» أي ان العقل مستقل بعدم جواز التنزل الى الظن «لما اشرنا اليه من ان الامور الاعتقادية مع عدم القطع بها» بعنوانها الخاص تفصيلا لا ينسد باب العلم بها، لأنها مما «امكن الاعتقاد» بها اجمالا «بما هو واقعها و الانقياد لها» بما لها من عنوانها الواقعي «فلا إلجاء فيها اصلا الى التنزل الى الظن فيما انسد فيه باب العلم» بها بعنوانها الخاص تفصيلا لانفتاح باب الاعتقاد بها اجمالا، و لما كان المطلوب في الفروع هو العمل، فحيث لا يجب الاحتياط أو لا يجوز فلا بد من التنزل الى الظن و العمل على وفق المظنون، و لذا قال (قدس سره): «بخلاف الفروع العملية».

ص: 259

و كذلك لا دلالة من النقل على وجوبه، فيما يجب معرفته مع الامكان شرعا، بل الادلة الدالة على النهي عن اتباع الظن دليل على عدم جوازه أيضا (1).

و قد انقدح من مطاوي ما ذكرنا، أن القاصر يكون في الاعتقاديات للغفلة، أو عدم الاستعداد للاجتهاد فيها، لعدم وضوح الامر فيها بمثابة لا يكون الجهل بها إلا عن تقصير، كما لا يخفى، فيكون معذورا عقلا (2).

______________________________

(1) لا يخفى انه كان الكلام في حكم العقل فيما لو انسد باب العلم تفصيلا بالعنوان الخاص الواقعي في الاصول الاعتقادية، و قد انتهينا الى حكم العقل بعدم جواز التنزل الى الظن فيه ... فأراد ان يشير الى ان النقل ايضا لا يدل على وجوب الظن في الاصول الاعتقادية، بل النقل ايضا يدل على عدم جواز الظن فيها، و هي الآيات الدالة على النهي عن اتباع الظن، فان القدر المتيقن منها هو النهي عن اتباع الظن في الاصول الاعتقادية، و لذا قال (قدس سره): «بل الادلة الدالة على النهي عن اتباع الظن» كقوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ 24] وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً(1) فانهما و امثالهما «دليل على عدم جوازه» أي على عدم جواز الظن في الاصول الاعتقادية لما تقدم من انه هو القدر المتيقن من هذا النهي.

(2) لا يخفى ان وجه العودة من المصنف للتعرض لوجود الجاهل القاصر، و ان القصور يكون اما عن غفلة رأسا عما يوجب احتمال الضرر في ترك الفحص، او عن عدم الاستعداد لادراك ما هو غامض من الامور هو التمهيد لما يشير اليه بعد هذا من دعوى انكار وجود الجاهل القاصر.

و على كل، فوجه الانقداح هو ما مر من شهادة الوجدان و العيان، بل و دلالة الآيات و الروايات على وجود الجاهل القاصر ككثير من الرجال و النساء، و قد أشار

ص: 260


1- 25. ( 2) النجم: الآية 28.

و لا يصغى إلى ما ربما قيل: بعدم وجود القاصر فيها، لكنه إنما يكون معذورا غير معاقب على عدم معرفة الحق، إذا لم يكن يعانده، بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله. هذا بعض الكلام مما يناسب المقام (1)،

______________________________

الى القصور عن غفلة بقوله: «ان القاصر يكون في الاعتقاديات للغفلة» و اشار الى القصور لعدم الاستعداد بقوله: «او عدم الاستعداد للاجتهاد فيها لعدم وضوح الامر بمثابة» يكون الجهل بها مسببا عن عدم الاستعداد لادراكها و هو الجاهل القاصر، و ليس الجهل عنده مع الاستعداد حتى «لا يكون الجهل بها الا عن تقصير» كما في الجاهل المقصّر، فان جهله بالاصول لما كان مع الاستعداد و عدم الغفلة فلا يكون جهله الا عن تقصير منه، و لذا لم يكن معذورا، بخلاف الجاهل القاصر فانه معذور بحكم العقل، و لذا قال (قدس سره): «فيكون معذورا عقلا».

(1) لا يخفى انه انكر بعضهم وجود الجاهل القاصر خارجا، و لو كانت براهينه على انكاره لا يهتدى الى الخدشة فيها لكانت من الشبهة في مقابل الوجدان و العيان، لما عرفت من وجود الجاهل القاصر خارجا وجدانا و عيانا ... فكيف؟

و ما ذكره من الادلة على عدم وجود القاصر ظاهر الخدشة، فلا ينبغي ان يصغى الى هذا الانكار و هذه الدعوى.

و على كل، فقد ادعي عدم وجود القاصر، و ان المقصّر على نوعين: نوع معذور غير معاقب و هو الذي يعقد قلبه على الواقع اجمالا حيث يحتمله، و نوع غير معذور و معاقب و هو الذي مع احتماله لا يعقد قلبه على الواقع مع تركه للفحص عنه.

و ما استدل به لهذه الدعوى امور اهمها: قوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ 26] سواء كان المراد منها هي المعرفة او العبادة، لوضوح كان الجاهل بالحق لا عبادة له للحق.

ص: 261

و أما بيان حكم الجاهل من حيث الكفر و الاسلام، فهو مع عدم مناسبته خارج عن وضع الرسالة (1).

______________________________

و حاصل الاستدلال بهذه الآية الكريمة هو دلالتها على كون الغاية للوجود لكل فرد من الجن و الانس هي المعرفة و العبادة المستلزمة للمعرفة، و لما كانت هذه الغاية غاية لأصل خلقة كل فرد من الجن و الانس فما لا يمكن تحقق الغاية فيه لا يعقل ان يكون موجودا، لان الموجود الممكن مرتبط بعلته الغائية كارتباطه بعلته الفاعلية، و من الواضح ايضا ان من لا استعداد له- و هو القاصر- لا يمكن تحقق هذه الغاية فيه، و قد عرفت ان ما لا يمكن تحقق الغاية فيه لا يعقل ان يكون موجودا، فالقاصر لا يعقل ان يكون موجودا.

و الجواب عنه حلا و نقضا: أما حلا فلانه لا ظهور في الآية لكون المعرفة و العبادة غاية لخلقة كل فرد فرد، بل الظاهر منها انها غاية لخلق جنس الجن و الانس.

و اما نقضا فبخلقة الصبيان الذين يموتون قبل البلوغ، و المجانين الذين يستمر جنونهم قبل البلوغ الى ما بعد البلوغ حتى الموت، فانه لا اشكال في عدم امكان تحقق المعرفة منهم مع انهم مخلوقون، و لو كانت هذه الغاية غاية لخلقة كل فرد فرد لما خلقوا، فلا بد و ان تكون الغاية غاية للنوع لا للفرد.

(1) لما فرغ من بيان حكم الجاهل من حيث العقاب و عدمه بمعذورية الجاهل القاصر و عدم استحقاقه للعقاب، و بعدم معذورية الجاهل المقصر و استحقاقه للعقاب ...

اشار الى ان التعرض لحكم الجاهل و المعتقد من ناحية ما يترتب عليهما من الآثار الشرعية كالطهارة و النجاسة، و مثل صحة الزواج- دواما- و عدمه، و غيرهما من الآثار للكفر و الاسلام لا مناسبة للبحث عنه في اصول الفقه، و انما يبحث عنه في الفقه، و من الواضح ان موضوع هذا الكتاب هو البحث عن اصول الفقه لا عن الفقه.

و من الواضح ايضا: ان الجهل باللّه تعالى و بصفاته و بنبوة النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم كفر و ان كان الجهل عن قصور، فلا ينافي المعذورية عن العقاب و التخليد في النار ترتيب آثار

ص: 262

الثاني: الظن الذي لم يقم على حجيته دليل، هل يجبر به ضعف السند أو الدلالة بحيث صار حجة ما لولاه لما كان بحجة، أو يوهن به ما لولاه على خلافه لكان حجة، أو يرجح به أحد المتعارضين، بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح لاحدهما، أو كان للآخر منهما، أم لا (1)؟

______________________________

الكفر من حيث الطهارة و امثالها من الآثار الشرعية الدنيوية، لان الكفر هو عدم الاعتقاد باللّه و النبي و ان كان عن قصور، و الاسلام هو الاعتقاد بهما، و اما الامامة على الوجه الصحيح فلا ريب ان عدم الاعتقاد بها ليس من الكفر الموجب للآثار، و ان كان موجبا للعقاب و التخليد، هذا على نحو الاجمال و تفصيله في الفقه.

و قد اشار الى عدم المناسبة في البحث عن الكفر و الاسلام من ناحية الآثار الشرعية الدنيوية في المقام بقوله: «و اما بيان حكم الجاهل» غير المعتقد باللّه و لا بالنبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم «من حيث الكفر» الذي هو عدم الاعتقاد و ان كان عن قصور «و الاسلام» الذي هو الاعتقاد من ناحية الآثار الدنيوية الشرعية «فهو مع عدم مناسبته» لان البحث عنه في الفقه لا في اصول الفقه و وضع الرسالة لأصول الفقه «خارج عن وضع الرسالة» الظاهر ان وجه خروجه عن وضع الرسالة مع عدم المناسبة هو كون وضع الرسالة مبنيا على الاختصار.

(1) لا يخفى ان الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل، تارة لا يقوم دليل على النهي عنه كالشهرة فان الظن الحاصل منها لم يقم على اعتباره دليل، و لكنه لم يقم دليل على النهي عنه و عدم اعتباره.

و اخرى مضافا الى عدم اعتباره يقوم دليل على النهي عنه، و على عدم اعتباره شرعا كالقياس.

و الكلام الآن في الاول، و هو مراده من قوله: «الظن الذي لم يقم على حجيّته دليل» لما سيأتي من كلامه على الظن الذي قام الدليل على النهي عنه، و الغرض من الكلام فيه هو الكلام من جهات متعددة: جبره للخبر الضعيف من ناحية سنده،

ص: 263

.....

______________________________

و جبره له من ناحية ضعف دلالته، و وهنه للخبر المستكمل لشروط الحجية سندا و دلالة تارة من ناحية سنده، و اخرى من ناحية دلالته و ظهوره، بحيث يكون الخبر تام الحجية من حيث السند و الظهور لو لا قيام هذا الظن على خلافه من ناحية سنده او من ناحية ظهوره و دلالته.

و الترجيح بهذا الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل لاحد المتعارضين على الآخر، بان يكون المتعارضان متكافئين في الحجة لو لا هذا الظن المرجح لاحدهما بالخصوص على الآخر او يكون المعارض الآخر اقوى في الحجية من المعارض الذي وافقه هذا الظن، بحيث لو لا هذا الظن لكان الترجيح في جانب المعارض له.

و قد اشار الى هذه الجهات بقوله: «هل يجبر به ضعف السند او الدلالة» أي هل يجبر بالظن الذي لم يقم على اعتباره دليل و لم يكن منهيا عنه الخبر الضعيف من حيث سنده او من حيث دلالته، و معنى جابرية هذا الظن للخبر هو جعل هذا الظن لهذا الخبر غير الحجة من ناحية سنده او من ناحية دلالته حجة من ناحية سنده او دلالته، فلو لا هذا الظن لم يكن هذا الخبر حجة، و بناء على جبره بهذا الظن يكون حجة اما سندا أو دلالة، و هذا هو مراده من قوله: «بحيث صار حجة ما لو لاه لما كان حجة» أي معنى الجابرية صيرورة هذا الخبر الضعيف غير الحجة حجة بواسطة موافقة هذا الظن له، بحيث لو لا هذا الظن لما كان هذا الخبر حجة.

و قد اشار الى وهن الخبر المستكمل لشرائط الحجية لو لا قيام هذا الظن على خلافه بقوله: «او يوهن به» أي و هل يوهن بهذا الظن «ما لو لاه» أي الخبر الذي لو لا قيام هذا الظن «على خلافه لكان» ذلك الخبر «حجة» فهل يوجب هذا الظن القائم على خلاف الخبر المستكمل لشرائط الحجية عدم حجيته ام لا يوجب ذلك و يكون الخبر المستكمل لشرائط الحجية حجة و ان قام هذا الظن- الذي لم يقم على اعتباره دليل- على خلافه؟

ص: 264

و مجمل القول في ذلك: إن العبرة في حصول الجبران أو الرجحان بموافقته، هو الدخول بذلك تحت دليل الحجية، أو المرجحية الراجعة إلى دليل الحجية، كما أن العبرة في الوهن إنما هو الخروج بالمخالفة عن تحت دليل الحجية (1)، فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر بالظن بصدوره

______________________________

و اشار الى الترجيح به بقوله: «او يرجح به» أي بهذا الظن «احد المتعارضين بحيث لولاه» أي بحيث لو لا قيام هذا الظن «على وفقه لما كان ترجيح لاحدهما» و هو الذي وافقه الظن من المتعارضين فيما اذا كانا متكافئين لو لا هذا الظن «او» يرجح بهذا الظن المرجوح لو لا موافقة هذا الظن له بحيث «كان» الترجيح «للآخر منهما» لو لا هذا الظن «ام لا» يرجح به و يكون المتعارضان بحالهما لو كانا متكافئين، و يتقدم الراجح لو لا هذا الظن على المرجوح الذي وافقه الظن فلا يكون لموافقة الظن له اثر

(1) أوّل ما يذكر هو ميزان الجبر و الترجيح و الوهن بهذا الظن للخبر، ثم بعد ذلك يذكر ما يحصل به الجبر و الترجيح و الوهن و ما لا يحصل به، فالعبرة في حصول الجبر بهذا الظن للخبر الضعيف هو دخول هذا الخبر الضعيف بواسطة هذا الظن تحت عنوان الحجية، بان يكون هذا الخبر الضعيف بسبب هذا الظن قد صار حجة و مشمولا لدليل حجية الخبر بعد ان لم يكن حجة و لا مشمولا لدليل الحجية، و العبرة في الترجيح بهذا الظن هو كون الخبر الذي وافقه الظن داخلا في الحجية، و خروج الخبر المعارض عن الحجية لمرجوحيته بواسطة قيام هذا الظن على خلافه، و لو لا موافقة هذا الظن لهما لما كان الخبر الضعيف داخلا في الحجية، و لما ترجح المعارض الذي وافقه الظن على معارضه الذي خالفه هذا الظن، حيث ان المتعارضين اذا لم يترجح احدهما لا يكونان معا حجة لتنافيهما، و لا يعقل حجية المتنافيين معا بالفعل، و لا يترجّح احدهما بخصوصه دون الآخر، لانه من الترجيح من غير مرجح، فلو لا

ص: 265

أو بصحة مضمونه، و دخوله بذلك تحت ما دل على حجية ما يوثق به، فراجع أدلة اعتبارها (1). و عدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد

______________________________

هذا الظن لما ترجح احدهما على الآخر، و المترجح بهذا الظن يكون هو الداخل تحت الحجية دون المرجوح، و إلّا لما كان للترجيح اثر.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «ان العبرة في حصول الجبران او الرجحان بموافقته» أي ان العبرة في حصول الجبر بهذا الظن و حصول الترجيح به للخبر الذي وافقه هذا الظن «هو الدخول» للخبر الضعيف غير الحجة «بذلك» بواسطة موافقة هذا الظن له «تحت دليل الحجية او» دخول المعارض الذي وافقه الظن تحت «المرجحية الراجعة الى دليل الحجية» و شمولها له دون المعارض الذي خالفه هذا الظن.

و مما ذكرنا يظهر العبرة في الوهن بهذا الظن للخبر الذي خالفه، فان معنى وهن الخبر به هو خروجه بواسطة قيام هذا الوهن على خلافه عن دليل حجية الخبر، و اليه اشار بقوله: «كما ان العبرة في الوهن» بهذا الظن للخبر «انما هو الخروج» لهذا الخبر «ب» سبب «المخالفة» لهذا الظن «عن تحت دليل الحجية».

(1) توضيحه في بيان امور: الاول: انه قد تقدم ان الكلام في هذا الظن من جهات ثلاث: الجبر به، و الوهن به، و الترجيح به، و الكلام الآن في الجبر به.

الثاني: ان عدم دخول الخبر تحت دليل الحجية، تارة لضعف سنده بأن لا يكون من ناحية سنده مشمولا لدليل الحجية، و اخرى لضعف دلالته بان لا يكون له ظهور حتى يؤخذ بظهوره، و الكلام الآن في الجبر من ناحية السند.

الثالث: ان الذي يظهر من المصنف مما مر ان المدار عنده في حجية الخبر و شمول دليلها له هو الاعم من كون الخبر اما رواته عدول، او كونه موثوق الصدور، او موثوق المضمون بان يوثق بصدقه و مطابقته للواقع، و انما ذكر خصوص الموثوق بصدوره و الموثوق بصحة مضمونه لوضوح ان الكلام في مقام الجبر بالظن، و الجبر كما سيأتي انما هو لاقتضاء الظن و ان كان غير معتبر لدخول الخبر في عنوان دليل

ص: 266

.....

______________________________

الحجية، و من البديهي ان قيام الظن و موافقته للخبر الذي رواته غير عدول لا تجعلهم عدولا و لذلك ذكر خصوص موثوق الصدور و موثوق المضمون، لانهما هما اللذان يمكن ان يكون الظن موجبا لدخول الخبر غير الموثوق صدورا او مضمونا في الموثوق صدورا او مضمونا، بان يكون الخبر اما موثوقا بصدوره او موثوقا بصدق مضمونه و صحته في مطابقته للواقع.

و قد اشار اليهما بقوله: «فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر بالظن بصدوره او بصحة مضمونه» و يتحصّل من هذه العبارة اقسام للخبر من حيث الوثوق بصدوره او بصحة مضمونه:

الخبر الموثوق الصدور الموثوق المضمون، و لا اشكال في شمول دليل الحجية له.

و مثله الخبر الموثوق الصدور و ان لم يكن موثوقا بصحة مضمونه على ان لا يكون موثوقا بعدم صحة مضمونه.

الثالث الخبر الذي يكون موثوقا بصحة مضمونه و ان لم يكن موثوقا بصدوره، و هذا ايضا حجة لدخوله تحت قوله او بصحة مضمونه.

الرابع: الخبر الذي لا يوثق بصدوره و لا بصحة مضمونه، و هذا غير مشمول لدليل الحجية.

الخامس: الخبر الذي يوثق بصدوره و لكنه يوثق ايضا بعدم صحة مضمونه، فانه ايضا غير حجة لاشتراط وثوق الصدور بان لا يوثق فعلا بعدم صحة مضمونه و بكذبه.

اذا عرفت هذا فنقول: ان الخبر الضعيف و هو الذي لا يكون موثوقا بصدوره و لا موثوقا بصحة مضمونه لو خلّي و ذاته اذا قام الظن غير المعتبر على صدوره او على صحة مضمونه، فانه و ان لم يكن هذا الظن حجة بذاته إلّا انه يكون موجبا لدخول الخبر غير الحجة بطبعه في عنوان ما هو حجّة، لوضوح ان هذا الظن اوجب

ص: 267

لاختصاص دليل الحجية بحجية الظهور في تعيين المراد، و الظن من أمارة خارجية به لا يوجب ظهور اللفظ فيه كما هو ظاهر (1)، إلا فيما أوجب

______________________________

كون هذا الخبر اما موثوقا بصدوره، او موثوقا بصحة مضمونه، و قد عرفت حجية الخبر الموثوق بصدوره او بصحة مضمونه.

و قد اتضح مما ذكرنا: ان الخبر الموثوق بعدم صحة مضمونه لا يعقل ان يقوم الظن على صحة مضمونه، و اتضح ايضا ان الخبر الموثوق عدم صدوره ايضا لا يعقل ان يقوم الظن على صدوره فانهما خلف واضح، و اما الخبر الموثوق بعدم صدوره فيمكن ان يقوم الظن على صحة مضمونه، و لكنه لا يدخله في دليل حجية الخبر بعد ان كان موثوقا بعدم الصدور، نعم لو بنينا على حجية الوثوق بالمضمون كان مضمونه حجة، لا لانه مضمون خبر بل لكونه موثوق المطابقة.

و قد اشار الى السبب في جبر الخبر الضعيف سندا من جهة صدوره او مضمونه بقيام الظن على صدوره او على صحة مضمونه بقوله: «و دخوله بذلك» أي ان السبب في هذا الجبر بهذا الظن و ان لم يكن معتبرا هو انه يجعل الخبر غير الموثوق صدورا لو خلي و طبعه بواسطة قيام هذا الظن على صدوره يكون الخبر موثوق الصدور، فيدخل تحت دليل الحجية لما عرفت من كون موثوق الصدور حجة، و كذلك اذا قام هذا الظن على صحة مضمونه يكون حجة لكون الخبر الموثوق المضمون حجة، فيوجب هذا الظن دخول هذا الخبر الضعيف سندا «تحت ما دل على حجية ما يوثق به».

و الحاصل: انه لا منافاة بين ان لا يكون هذا الظن بنفسه معتبرا، و بين كونه موجبا لتحقق ما هو موضوع الحجية في الخبر.

(1) توضيحه: انه لا يخفى ان حجية الظهور هو كون اللفظ قالبا للمعنى بحسب المتفاهم العرفي، و الضعف من جهة الظهور هو كون اللفظ لا ظهور له بحسب المتفاهم، و من الواضح ان قيام الظن على كون المراد من هذا اللفظ هو معنى من

ص: 268

القطع و لو إجمالا باحتفافه بما كان موجبا لظهوره فيه لو لا عروض انتفائه (1)، و عدم وهن السند بالظن بعدم صدوره، و كذا عدم وهن

______________________________

المعاني لا يجعل اللفظ ظاهرا فيه بحسب المتفاهم العرفي، و لذا يصح ان يقال ان هذا اللفظ بما هو غير ظاهر في هذا المعنى بحسب المتفاهم العرفي، و مع ذلك نظن بان هذا المعنى هو المراد منه، و لو كان هذا الظن موجبا للظهور لما صحّ تسليم عدم الظهور مع تحقق الظن، و ان من البديهي ان ما لا قالبيّة له لا يكون قالبا اذا ظن بانه يراد منه معنى بخصوصه، و لذا قال (قدس سره): «و عدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد» فانه مع فرض عدم الظهور للفظ لا يكون له ظهور بقيام الظن على ارادة معنى بخصوصه من اللفظ، و انما لا يكون هذا الظن جابرا لضعف الدلالة «لاختصاص دليل الحجيّة بحجية الظهور» الذي هو قالبية اللفظ للمعنى «في» مقام «تعيين المراد» من اللفظ «و» من الواضح ان «الظن من امارة خارجية به» أي بالمراد «لا يوجب ظهور اللفظ فيه» أي في المعنى لعدم اقتضاء هذا الظن كون اللفظ قالبا للمعنى «كما هو ظاهر».

(1) توضيحه: ان الظن الحاصل من أمارة خارجية، تارة يقوم على ان المراد من هذا اللفظ هو هذا المعنى، مع فرض كون هذا المعنى هو احد المحتملات في هذا اللفظ و لا ظهور له في خصوصه، كما لو وافق فتوى المشهور احد المحتملات في معانيه، فان الظن الحاصل من فتوى المشهور لا يجعل اللفظ غير الظاهر ظاهرا كما عرفت.

و اخرى يعلم اجمالا بان المشهور استندوا في فتواهم الى ظاهر هذا الخبر، و هذا ايضا على نحوين: الاول: ان لا يعلم بان ما استندوا اليه لو اطلعنا عليه لكان ظاهرا عندنا ايضا، و مثل هذا الاستناد ايضا لا يوجب كون اللفظ ظاهرا، لعدم حجية رأي على رأي آخر. الثاني: ان يعلم اجمالا ان المشهور استندوا الى هذا الخبر لانه كان محتفا بقرينة لو اطلعنا عليها لكان له ظهور عندنا ايضا، و مثل هذا الاستناد يوجب القطع بكون هذا الخبر داخلا في حجية الظهور و ان لم يكن ظاهرا بالفعل،

ص: 269

دلالته مع ظهوره (1)، إلا فيما كشف بنحو معتبر عن ثبوت خلل في سنده، أو وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهوره فيما فيه ظاهر لو لا تلك

______________________________

و الى هذا اشار بقوله: «الا فيما اوجب» الظن بان المراد واقعا من هذا اللفظ هو هذا المعنى كون اللفظ ظاهرا في هذا المعنى، للقطع اجمالا بان المشهور قد استندوا الى ما هو الظاهر، لاحتفاف الكلام بقرينة كانت موجبة لظهوره و قد سقطت عنه، فيكون هذا الظن موجبا «القطع و لو اجمالا باحتفافه» أي باحتفاف هذا الكلام «بما كان موجبا لظهوره فيه لو لا عروض انتفائه» أي لو لم ينتف هذا الموجب للظهور و لم يسقط لكان لهذا الكلام ظهور بالفعل.

و قد اتضح مما ذكرنا: ان متعلق الظن و القطع ليس شيئا واحدا حتى يقال بانه لا يعقل ان يتعلق الظن و القطع بشي ء واحد في زمان واحد، بل متعلق الظن هو كون المراد من هذا اللفظ واقعا هو هذا المعنى، و متعلق القطع هو احتفاف هذا الكلام بما يوجب الظهور.

و قد ظهر ايضا ان هذا الاستثناء ليس بمنقطع، لان المستثنى منه هو اللفظ الذي لا ظهور له بالفعل، فانه تارة لا يكون هذا الظن موجبا لان يكون له ظهور اجمالا، و اخرى يكون هذا الظن موجبا لظهوره اجمالا، بمعنى انه لو وجد تلك القرينة المحتفة به لكان له ظهور بالفعل، فان العلم بان له ظهورا بهذا النحو لا ينافي كونه ليس له ظهور بالفعل.

(1) لما فرغ من الكلام في جبر ضعف السند و الدلالة بهذا الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل ... شرع في الكلام في حصول الوهن به للخبر و عدمه سندا و دلالة، و انه لا يوجب و هنا في سند الخبر و لا في دلالته في غير مورد الاستثناء كما سيظهر ان شاء اللّه تعالى.

و توضيحه ببيان امور: الاول: انك قد عرفت ان المتحصل من ادلة حجية الخبر هو الاعم من كون رواته ثقات، او كونه موثوقا بصدوره، او بصحة مضمونه.

ص: 270

.....

______________________________

الثاني: ان المراد من الظن الموهن القائم على خلاف مؤدى الخبر هو الظن الشخصي دون النوعي، لكون المراد من الظن الجابر هو الشخصي قطعا، لوضوح عدم كون الظن النوعي غير المعتبر موجبا لتحقق الموضوع في الخبر في جعل الخبر غير الموثوق صدورا أو مضمونا موثوقا صدورا او مضمونا، و الظن الموهن هو بعينه الظن الجابر، الّا ان الاول يقوم على خلاف مؤدّى الخبر، و الثاني يقوم على ما يوافق مؤدّاه، و وحدة السياق فيما هو محل الكلام في الجابرية و الموهنيّة تدل على ذلك.

الثالث: ان محل الكلام في وهنه بقيام الظن على خلافه و عدمه هو خبر الثقة دون الخبر الموثوق بصدوره او مضمونه، لعدم امكان ان يكون الموثوق بصدوره او بمضمونه مظنونا بعدم صدوره او بعدم مضمونه فانه خلف واضح.

نعم، الخبر الذي كان حجة لكون راويه ثقة يمكن ان يقوم الظن من امارة خارجية على خلافه.

اذا عرفت هذا فنقول: ان دليل حجية خبر الثقة سواء كان هو الاخبار أو بناء العقلاء ليس بمشروط بالظن اصلا، لا بان يقوم على وفقه و لا بان لا يقوم على خلافه، فخبر الثقة حجة و ان قام الظن على خلافه، و منه يتضح عدم وهن خبر الثقة بقيام هذا الظن على خلافه، و اتضح الفرق بين كون هذا الظن جابرا و موهنا، فان جابريته انما هي للخبر باعتبار ايجابه دخول الخبر في الموثوق صدورا او مضمونا، و عدم وهنه انما هو لكون مورد الوهن هو خبر الثقة غير المشروطة حجيته بشي ء من الظن اصلا، و سيشير فيما يأتي من كلامه بان مورد الوهن هو خبر الثقة في مقام التعليل لعدم الوهن بالظن في قوله: «لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة».

و على كل، فقد ظهر عدم الوهن بهذا الظن، و اليه اشار بقوله: «و عدم وهن السند» في خبر الثقة «بالظن بعدم صدوره» الحاصل من امارة خارجية لم يقم على اعتبارها دليل.

ص: 271

القرينة (1)، لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة و لا دليل اعتبار

______________________________

و اما عدم وهن دلالة ما له ظهور بقيام هذا الظن على خلافه فلانه لا يوجب خللا في ظهوره، لما ذكرناه ايضا و هو عدم اشتراط دليل حجية الظهور بان لا يقوم ظن على خلافه كما مر بيانه في مبحث الظواهر، فان بناء العقلاء قد استقر على الاخذ بالظهور و ان قام الظن الشخصي على خلافه، و لما لم تكن حجية الظهور مشروطة لم يكن قيام هذا الظن على خلاف الخبر التام ظهوره موجبا لخلل في حجية ظهوره، و لذا قال (قدس سره): «و كذا عدم وهن دلالته مع ظهوره» أي كما ان هذا الظن القائم على خلاف هذا الخبر لا يكون موجبا للوهن من جهة السند، كذلك لا يوجب الخلل و الوهن من ناحية ظهوره و دلالته.

(1) الكلام في هذا الاستثناء كالكلام في الاستثناء المتقدم، و حاصله: ان الظن الحاصل من امارة خارجية على خلاف الخبر التام سندا او ظهورا كمخالفة فتوى المشهور له و اعراضهم عنه لا توجب خللا في حجيته كما عرفت، و لا اعتبار لهذا الظن الحاصل من فتوى المشهور على خلاف مؤدى هذا الخبر التامة حجيته، الا فيما علمنا بان السبب لفتوى المشهور على خلافه و اعراضهم عن التمسك به هو انهم قد اطلعوا على خلل في رجال السند بحيث لو اطلعنا عليه لكان خللا عندنا، اما لو كان السبب في الاعراض احتمال كون الخلل خللا عندهم لا عندنا، او كان السبب للمشهور هو حسن ظن المتأخر منهم بمن تقدمهم، كحسن ظنهم بالشيخ و كان قد افتى على خلاف مؤدى هذا الخبر، او كان السبب للمشهور مخالفة هذا الخبر للاحتياط أو امثال هذه الاحتمالات، فلا يكون فتوى المشهور على خلافه و اعراضهم عنه موجبا للخلل في سنده.

نعم لو علمنا بان سبب الاعراض هو اطلاع المشهور- مثلا- على طعن في رجال هذا السند، بحيث لو اطلعنا على هذا الطعن لكان موجبا لخروجهم عن الوثاقة عندنا ايضا، فانه حينئذ يكون ذلك كاشفا عن وجود الخلل في السند، فان اعراض

ص: 272

الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره، أو ظن بعدم إرادة ظهوره (1).

______________________________

المشهور اذا كان كذلك يكون من اقوى الشهادات على الخلل الموجب لخروج هذا السند عن دليل الحجيّة، و الى هذا اشار بقوله: «الا فيما كشف بنحو معتبر عن ثبوت خلل في سنده».

و اما في اعراض المشهور الموجب للوهن في الدلالة فهو فيما اذا كشف ان السبب في الاعراض عن دلالة هذا الخبر هو اطلاعهم على قرينة قد احتفت به تكون مانعة عن انعقاد ظهوره، بحيث لو اطلعنا عليها لكانت ايضا قرينة عندنا على خلاف ظهوره و لما انعقد له ظهور عندنا ايضا، و فيما عدا ذلك لا يكون اعراض المشهور موجبا لخلل في الدلالة، و الى هذا اشار بقوله: «او وجود قرينة» أي فيما كان السبب في هذا الظن الحاصل من اعراض المشهور الكاشف لكون السبب في هذا الاعراض منهم هو وجود قرينة «مانعة عن انعقاد ظهوره فيما» كان «فيه ظاهرا لو لا تلك القرينة» أي ان تكون تلك القرينة موجبة لان لا يكون ظاهرا فيما هو فيه ظاهر فعلا.

(1) هذا تعليل لعدم كون الظن القائم على خلاف خبر الثقة موجبا للوهن فيه في غير مورد الاستثناء، و حاصل التعليل هو ما مرّ من عدم كون دليل حجية خبر الثقة مشروطا بعدم قيام الظن على خلافه، و مثله الظن القائم على خلاف الخبر التام الظهور فانه لا يوجب وهنا كما عرفت في غير مورد الاستثناء ايضا، لعدم اشتراط دليل حجية الظهور ايضا بعدم قيام الظن على خلافه، و لذا قال (قدس سره): «لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة» الذي هو الممكن ان يقوم الظن على خلافه «و لا دليل اعتبار الظهور بما اذا لم يكن ظن بعدم صدوره او ظن بعدم ارادة ظهوره» و السبب في عدم الاختصاص هو عدم اشتراط دليل الحجية فيهما بعدم الظن على الخلاف كما مرّ بيانه.

ص: 273

الترجيح بالظن غير المعتبر

و أما الترجيح بالظن، فهو فرع دليل على الترجيح به، بعد سقوط الامارتين بالتعارض من البين، و عدم حجية واحد منهما بخصوصه و عنوانه، و إن بقي أحدهما بلا عنوان على حجيته، و لم يقم دليل بالخصوص على الترجيح به.

و إن ادعى شيخنا العلامة- أعلى اللّه مقامه- استفادته من الاخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات الخاصة، على ما في تفصيله في التعادل و الترجيح (1) و مقدمات الانسداد في الاحكام إنما توجب حجية الظن

______________________________

(1) قد مرّ ان الكلام في هذا الظن غير المعتبر، تارة من جهة الجبر به، و ثانية من ناحية الوهن، و ثالثة في خصوص الترجيح. و لما فرغ من الكلام عليه في الجهتين شرع في الجهة الثالثة و هي الترجيح به.

و توضيحه في بيان امور: الاول: ان جعل الامارة تارة على مبنى الطريقية فيها و انها جعلت طريقا الى الواقع، و اخرى على الموضوعية و انها سبب لجعل الحكم على طبق ما قامت عليه.

الثاني: ان القاعدة الاوّليّة في الامارتين المتعارضتين- بناء على الطريقية- هو التساقط من ناحية الحجيّة الفعليّة و ان احدهما بلا عنوان معين له هو الحجة، اما تساقطهما فلانه لما كان الواقع الذي كانت الامارتان طريقا اليه واحدا و المفروض تنافيهما فيه، فلا وجه للاخذ باحدهما من باب كونه طريقا اليه من دون الآخر، لانه من الترجيح بلا مرجح، و اما كون احدهما بلا عنوان حجة فلأن احدهما هو الطريق- واقعا- الى الواقع، و حيث لم يعلم به بخصوصه فيبقى العلم بان احدهما هو الحجة، و لما يعلم عنوانه بخصوصه فيكون احدهما من دون عنوان هو الحجة.

و اما بناء على الموضوعيّة فالقاعدة الاولية تقتضي التخيير لعدم امكان حجيتهما، معا لاستلزام ذلك جعل حكمين متضادين بالفعل، و لما كان كل واحد منهما مقتضيا لجعل الحكم الفعلي المشتمل على المصلحة فتركهما معا ترك المصلحة القطعيّة، فلا بد

ص: 274

.....

______________________________

من الاخذ باحدهما لئلا تفوت المصلحتان معا كما سيأتي التعرّض لذلك مفصّلا في باب التعادل و التراجيح ان شاء اللّه تعالى.

و اما بناء على القاعدة الثانوية المستفادة من الادلة الخاصة في خصوص مورد التعارض فمجمل القول فيها: ان الامارتين المتعارضتين اذا كانتا من غير الاخبار كالاجماعين المنقولين المتعارضين فالمدار على القاعدة الاولية المذكورة، و اما اذا كانتا خبرين فسيأتي في باب التعارض ان المستفاد من الاخبار الخاصة المسماة بأدلة العلاج هل هو التخيير مطلقا، أو الاخذ بالمرجحات المنصوصة، و الّا فالتخيير أو الاخذ بكل ما له مزية و ان لم تكن منصوصة و الّا فالتخيير بدعوى ان المنصوصات من باب المثال؟

الثالث: انه لما كان المختار للمصنف هي الطريقية لم يتعرّض للموضوعيّة في المتن في هذا المقام.

الرابع: انه قد ذكر لترجيح احد المتعارضين بهذا الظن وجوه، اشار المصنف الى ثلاثة منها و هي كلها غير مرضية له.

الاول: قيام الدليل على الترجيح به، بدعوى ان المستفاد من ادلة العلاج الخاصة هو الترجيح لكل ذي مزية و ان لم تكن من المنصوصات، و من الواضح ان المعارض الذي وافقه هذا الظن له المزية على المعارض الآخر، و لما لم يستفد المصنف ذلك لم يكن هذا الوجه صحيحا عنده، و اليه اشار بقوله: «و لم يقم دليل بالخصوص على الترجيح به» أي بهذا الظن «و ان ادّعى شيخنا العلامة اعلى اللّه مقامه استفادته» أي استفادة الدليل على الترجيح به، و هو ما استفاده «من الاخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات الخاصة» بدعوى ان المرجحات الخاصة لا خصوصية لها و انها من باب المثال، و ان المدار على كل مزية مرجحة و ان لم تكن منصوصة، بعد ان اشار المصنف في صدر عبارته الى ان الترجيح بهذا الظن انما هو بقيام الدليل على الترجيح بقوله: «و اما الترجيح بالظن فهو فرع دليل على الترجيح

ص: 275

بالحكم أو بالحجة، لا الترجيح به ما لم توجب الظن بأحدهما (1)، و مقدماته في خصوص الترجيح لو جرت إنما توجب حجيّة الظن في تعيين

______________________________

به» ثم اشار الى القاعدة الاولية في المقام بناء على الطريقيّة بقوله: «بعد سقوط الامارتين بالتعارض ... الى آخر الجملة».

(1) هذا هو الوجه الثاني الذي اشار اليه للترجيح بهذا الظن، و حاصله: انه لو كانت الامارتان المتعارضتان في فرض الانسداد في كلي الاحكام، فان هذا الظن يكون مرجحا لما وافقه من الامارتين، لان نتيجة الانسداد هي حجية الظن فيما قام عليه، و قد قام هذا الظن على الترجيح لاحدى الامارتين فيكون الترجيح به مما قام الدليل عليه.

و فيه أولا: ان الكلام في الترجيح بهذا الظن سواء على الانفتاح أو الانسداد، فالترجيح به في خصوص الانسداد اخص من المدعى.

و ثانيا: ان المتحصّل من دليل الانسداد هو حجية الظن القائم على الحكم او على الطريق، دون الظن القائم على الترجيح لاحدى الامارتين المتعارضتين.

نعم، لو اوجب هذا الظن الظن الشخصي بالحكم المطابق لاحدى الامارتين او الظن الشخصي بحجية احدى الامارتين كان موجبا للترجيح، و الى هذا اشار بقوله:

«و مقدمات الانسداد في الاحكام انما توجب» خصوص «حجية الظن بالحكم او بالحجة لا» حجية الظن في مقام «الترجيح به ما لم توجب الظن» الشخصي «باحدهما» و لازم هذا كون الكلام في الترجيح بالظن الاعم من النوعي و الشخصي، لان المزية التي هي المدار في الترجيح كما تحصل بالظن الشخصي تحصل بالظن النوعي ايضا، و لما كانت نتيجة الانسداد هي حجية خصوص الظن الشخصي لذا كان الظن النوعي تارة يوجب الظن الشخصي، و اخرى لا يوجبه، ففيما كان الظن النوعي الموافق لاحدى الامارتين قد يوجب الظن الشخصي و قد لا يوجبه لذا كان هذا الظن ان استلزم الظن الشخصي كان مرجّحا و الّا فلا.

ص: 276

المرجح، لا أنه مرجح إلا إذا ظن أنه- أيضا- مرجّح، فتأمل جيدا، هذا فيما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل (1).

______________________________

(1) هذا هو الوجه الثالث للترجيح بهذا الظن، و حاصله: جريان انسداد في خصوص الترجيح بهذا الظن، و بيانه هو العلم الاجمالي بوجود مرجحات من قبل الشارع، و باب العلم و العلمي منسدّ اليها، و الاهمال رأسا غير جائز للعلم بعدم رضاء الشارع به، و الاحتياط غير ممكن لان الاخذ بكل ما احتمل كونه مرجحا يؤدّي غالبا الى احتمال المرجّح لكلا المتعارضين فيعود المحذور من التعارض ايضا، و الرجوع الى الاصل الذي هو الاستصحاب لا يجوز لانه في المقام هو استصحاب عدم المرجح، و بعد العلم الاجمالي بوجود المرجّح لا يجوز العمل بهذا الاستصحاب كما تقدم بيانه مرارا، فيدور الامر بين الاخذ بالظن بالترجيح و الاخذ بالترجيح الموهوم أو المشكوك، و ترجيح المرجوح الذي هو الوهم و الشك على الظن الذي هو الراجح قبيح، فتكون نتيجة هذا الانسداد حجية الظن القائم على الترجيح.

و فيه اولا: انه لا علم بوجود المرجح اجمالا من الشارع عدا المرجحات المنصوصة فيما ورد عنه.

و ثانيا: انه بعد تسليم هذا الانسداد فنتيجته هو حجية الظن الشخصي في تعيين المرجّح لا كون نفس الظن مرجحا، الّا اذا استلزم الظن الشخصي بالمرجح كون الظن بنفسه مرجحا من المرجحات.

و بعبارة اخرى: ان لازم هذه المقدمات هو حجية الظن القائم على كون ضبط الراوي أو ورعه أو امثال ذلك من المرجحات لا كون الظن بنفسه من المرجحات فيما اذا وافق احد المتعارضين. نعم لو حصل الظن بكون الظن بنفسه من المرجحات لصح الترجيح به، و اليه اشار بقوله: «و مقدماته» أي و مقدمات الانسداد «في خصوص الترجيح لو جرت» و اغمضنا عن عدم العلم الاجمالي الذي هو اول المقدمات المذكورة، أو ناقشنا بامكان الاحتياط و لم نسلّم عدم امكانه، فالنتيجة

ص: 277

الجبر و الوهن و الترجيح بمثل القياس

و أما ما قام الدليل على المنع عنه كذلك كالقياس، فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح، فيما لا يكون لغيره أيضا، و كذا فيما يكون به أحدهما، لوضوح أن الظن القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه لكان حجة- بعد المنع عنه- لا يوجب خروجه عن تحت دليل الحجية، و إذا كان على وفق ما لولاه لما كان حجة لا يوجب دخوله تحت دليل الحجية، و هكذا لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين، و ذلك لدلالة دليل المنع على إلغائه الشارع رأسا، و عدم جواز استعماله في الشرعيات قطعا، و دخله في واحد منها نحو استعمال له فيها، كما لا يخفى، فتأمل جيدا (1).

______________________________

الحاصلة منها «انما توجب» حجية الظن في تعيين المرجح كما لو ظنّنا بان الاضبطيّة و الأورعيّة مرجح «لا انه» أي لا ان الظن بنفسه «مرجح الّا اذا ظن انه ايضا» هو «المرجح» أي الّا اذا حصل لنا ظن ايضا بان الظن بنفسه مرجح من المرجحات.

(1) لما فرغ من الكلام في الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل، و قد عرفت انه خصوص الظن غير المعتبر الذي لم يرد نهي عنه، و انما كان عدم اعتباره لعدم الدليل على اعتباره ... شرع في الكلام على الظن الذي قام الدليل على النهي عنه و عدم جواز العمل به، كالظن الحاصل من القياس، فهل يكون جابرا أو موهنا أو مرجحا، ام لا يكون جابرا و لا موهنا و لا مرجحا؟

و حاصله: ان الظن الحاصل من القياس، تارة يكون في مقام لا يكون فيه الظن غير المنهي عنه جابرا و لا مرجحا و لا موهنا، و في مثله لا يكون للظن المنهي عنه احد هذه الامور الثلاثة بطريق اولى، لان لازم كون الظن غير المنهي عنه لا اثر له هو سقوط الظن غير المعتبر شرعا من رأس، و مع سقوطه مع كونه غير منهي عنه فسقوط المنهي عنه اولى، لكونه غير معتبر و منهيا عنه ايضا، و الى هذا اشار بقوله:

«فلا يكاد يكون به» أي فلا يكاد يكون بالظن المنهي عنه جبر أو وهن او ترجيح فيما لا يكون» الجبر و الوهن و الترجيح «لغيره» و هو الظن غير المنهي عنه.

ص: 278

.....

______________________________

و اخرى يكون الظن المنهي عنه في مقام يكون الظن غير المنهي عنه جابرا أو موهنا أو مرجحا، و في هذا المقام ايضا لا يكون الظن المنهي عنه جابرا و لا موهنا و لا مرجحا، لان معنى النهي عنه هو كونه في نظر الشارع بحكم العدم، و ما كان عند الشارع بحكم العدم لا يعقل ان يكون له اثر عند الشارع.

هذا مضافا الى ان الجبر و الوهن و الترجيح به هو اعمال له و اتباع له فيما قام عليه، و هو مناف لما دلّ على النهي عنه و حرمة اتباعه و اعماله.

فتحصل مما ذكرنا: ان الظن القياسي الموافق للخبر الضعيف غير الحجة سندا لا يدخله في موضوع ما هو الحجة من الخبر و هو الموثوق بصدوره او بصحة مضمونه، لان الوثوق المعتبر حجيته هو الحاصل من غير القياس، لان الوثوق الحاصل منه بحكم العدم عند الشارع و منهي عنه ايضا، و مثله فيما لو قام الظن القياسي على خلاف ما كان من الخبر حجة، فان قيامه على خلافه لا يخرجه عمّا هو موضوع الحجيّة، لان كون الظن موهنا انما هو فيما اذا كان الموضوع في حجية الخبر هو الخبر الذي لم يقم الظن على خلافه، فحيث يكون الموضوع مقيدا بعدم قيام الظن على الخلاف يكون الظن القائم على خلاف الخبر موجبا لخروجه عن موضوع الحجية في الخبر، و لكن شرطية عدم قيام الظن على خلاف الخبر شرعا بضم النهي عن الظن القياسي، يكون المتحصّل هو ان الظن المشروط عدم قيامه على الخلاف هو غير الظن المنهي عنه، لانه بحكم العدم شرعا و محرم اعماله ايضا، فلا يكون الظن القياسي موهنا لحجيّة ما هو الحجة.

و مما ذكرنا ظهر حال الترجيح به لاحد المتعارضين، فانه بعد ان كان بحكم العدم و محرما اعماله و اتباعه لا يصح الترجيح به شرعا، و قد اشار الى عدم حصول الجبر و الوهن به بقوله: «و كذا فيما يكون به» أي في مقام يكون للظن غير المنهي عنه «احدهما» من الجبر أو الوهن لا يكون للظن المنهي عنه ذلك، فلا يكون جابرا و لا موهنا، و قد علّله بقوله: «لوضوح ان الظن القياسي اذا كان على خلاف ما

ص: 279

.....

______________________________

لولاه لكان حجة» أي اذا قام هذا الظن القياسي على خلاف الخبر الذي هو حجة، و هو المراد من قوله ما لولاه لكان حجة: أي الخبر الذي لو لا هذا الظن لكان تام الحجيّة، فقيامه على خلافه لا يضر بحجيّته «بعد المنع عنه» شرعا الموجب لكونه بحكم العدم شرعا و حرمة اتباعه و اعماله عنده، و لذلك «لا يوجب» هذا الظن «خروجه» أي خروج الخبر «عن تحت دليل الحجية و اذا كان» الظن القياسي على وفق الخبر الضعيف، و هو مراده من قوله: «ما لولاه لما كان حجة لا يوجب» موافقة هذا الظن له «دخوله تحت دليل الحجيّة» بعد ان كان الخبر ليس بحجة، فموافقة هذا الظن له لا يصيره حجة بعد ان كان هذا الظن بحكم العدم شرعا و محرما اعماله و اتباعه، و اشار الى عدم الترجيح به بقوله: «و هكذا لا يوجب» موافقة هذا الظن «ترجيح احد المتعارضين» و هو الذي وافقه الظن القياسي على معارضه.

ثم اشار الى التعليل الشامل للامور الثلاثة الجبر و الوهن و الترجيح به، و انه لا يحصل به جبر و لا وهن و لا ترجيح بقوله: «و ذلك لدلالة دليل المنع» عنه «على الغائه» عند «الشارع رأسا» و ما كان ملغى و بحكم العدم شرعا لا يعقل ان يكون له اثر عند الشارع «و» ايضا النهي عنه يدل على «عدم جواز استعماله في الشرعيات» و حرمة اتباعه فيها «قطعا و» من الواضح ان «دخله في واحد منها» أي و دخله في الجبر و الوهن و الترجيح به هو «نحو استعمال له فيها كما لا يخفى»

ص: 280

المقصد السابع في الاصول العملية

اشارة

ص: 281

.....

______________________________

ص: 282

المقصد السابع

في الاصول العملية

و هي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص و اليأس عن الظفر بدليل، مما دل عليه حكم العقل أو عموم النقل (1)، و المهم منها

______________________________

(1) لا يخفى انه قد تقدم في أوّل الجزء الاول: ان علم الاصول هو عبارة عن القواعد التي تقع في طريق الاستنباط، و القواعد التي ينتهي اليها المجتهد بعد الفحص و اليأس عن الدليل الدال على ان مؤدّاه هو الحكم الواقعي، و بعد الكلام فيما سبق عمّا يقع في طريق الاستنباط ... شرع في الكلام عن القواعد التي ينتهي اليها في مقام العمل، و هي التي اطلق عليها اسم الاصول العمليّة.

و الكلام فيها من جهات: الاولى: في تسميتها بالاصول العمليّة او بالدليل الفقاهتي كما في رسائل الشيخ الاعظم (قدس سره).

و توضيح ذلك: ان الدليل المعتبر شرعا، تارة يكون اعتباره بلسان انه دليل على الحكم الواقعي، و يطلق عليه مرة الدليل مجردا، و ثانية: انه الدليل الاجتهادي، و ثالثة الامارة، و ان كان يظهر من الشيخ في الرسائل بان ما كان منه دليلا في الاحكام يسمى بالدليل الاجتهادي، و ما كان في الموضوعات يسمى بالامارة.

و اخرى يكون اعتباره لا لانه دليل على الحكم الواقعي، بل لانه هو المرجع في حال الشك سواء كان له بذاته حكاية عن الواقع ناقصة كالاستصحاب بناء على انه مما يفيد الظن، أو لا كالبراءة مثلا، و هذا هو المسمى بالاصول العمليّة المبحوث عنه في هذا المقصد السابع، و انما سمّى بالاصول لان الاصل لغة ما يبتنى عليه الشي ء، و هذا مما يبتنى عليه في حال الشك، و بالعمليّة لانها هي التي يكون العمل على طبقها في حال الشك.

لا يقال: ان هذا موجود في الأمارة ايضا، فانها مما يبتنى عليها في حال الشك و العمل على طبقها ايضا في حاله.

ص: 283

.....

______________________________

و الجواب عنه أولا: ان هذا و ان كان موجودا في الامارة الّا انه لما كان المهمّ هو معرفة الحكم الواقعي و كانت الامارة لسان اعتبارها انها الموصلة اليه، كان تسميتها بالدليل و بالامارة على الحكم الواقعي اولى من تسميتها لكونها يبنى عليها في مقام الشك، او لان العمل يكون على طبقها في حال الشك، و بقى هذا السبب للاصول لانها لم يكن اعتبارها لجهة ايصالها اليه، و لا يلزم في المناسبات الاسمية اختصاص السبب بالمسمى بحيث لا يمكن تحققه في غيره.

و ثانيا: ان تسمية الشي ء انما هي بعد تمييز ماهيته عن بقية الماهيات، و بعد امتياز هذه عمّا يقع في طريق الاستنباط، و انها هي التي ينتهي اليها في مقام العمل بعد الفحص و اليأس سميت بالاصول العملية، فالمسمى بالاصل العملي هو المرجع بعد الفحص و اليأس، و من الواضح ان الذي يبنى عليه بعد الفحص و اليأس مما لا يعم الامارة، و كذلك كونه مرجعا للعمل بعد الفحص و اليأس فانه ايضا مما يختص بها و لا يعم الامارات.

و اما السبب في تسميتها بالدليل الفقاهتي و الامارة بالاجتهادي، فلما اشار اليه الشيخ في الرسائل انه مأخوذ من تعريف الاجتهاد، فانهم بعد ان عرفوا الاجتهاد و بانه استفراغ الوسع لتحصيل الفقيه الظن بالحكم، و كانت الامارة مما تفيد الظن بالحكم للفقيه اختصت باسم الامارة عليه، و الدليل الاجتهادي للفقيه على ذلك، و الاصل لما لم يكن مما يفيد الظن بالحكم الواقعي، و كان مرجعا للفقيه بالخصوص لانه في مقام الشبهة الحكمية المختصة به ناسب ان يسمى بالدليل الفقاهتي.

الجهة الثانية ان توصيف هذه القواعد المسماة بالاصول العمليّة بانها هي التي ينتهي اليها المجتهد بعد الفحص و اليأس انما هو لإدراجها في المسائل الاصولية، و اخراج القواعد الفقهية عنها.

اما وجه ادراجها بهذا العنوان في مسائل الاصول، فلانها لما كانت من القواعد المختصة بالمجتهد لان موردها الشبهة الحكمية، فان المجتهد هو الذي يشك في اصل

ص: 284

أربعة (1)، فإن مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية، و إن كان مما ينتهي إليه فيما لا حجة على طهارته و لا على نجاسته، إلا أن البحث عنها ليس بمهم، حيث إنها ثابتة بلا كلام، من دون حاجة إلى نقض و إبرام، بخلاف الاربعة، و هي: البراءة و الاحتياط، و التخيير و الاستصحاب: فإنها محل الخلاف بين الاصحاب، و يحتاج تنقيح مجاريها و توضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم

______________________________

الحكم بعد الفحص عن الدليل، و هو الذي يشك في المكلّف به، و هو الذي يكون عنده الدوران بين المحذورين، و هو الذي يعتبر يقينه السابق و شكه اللاحق في الحكم الكلي، و لما كانت عامة لجميع ابواب الفقه كانت مما ينبغي ان يبحث عنها في الامور العامة التي يبنى عليها العمل في جميع الفقه، فلذلك كانت من مسائل الاصول دون الفقه.

و اما اخراج القواعد الفقهية عنها كقاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده، و قاعدة الزموهم بما الزموا به انفسهم، فلأنها ليست مرجعا بعد الفحص و اليأس، بل هي قواعد مجعولة ابتدائية في مواردها، مضافا الى ما سيذكره في الجواب عن قاعدة الطهارة في كونها ليست عامة، و انما هي قواعد مختصة بأبواب خاصة، لو تمّ هذا الجواب عنده.

(1) هذه الجهة الثالثة، و لا يخفى ان حصر الاصول في هذه الاربعة استقرائي، لإمكان ان يكون في مقام الشك في اصل التكليف لا يرجع الى البراءة، بل يكون المرجع الاحتياط أو التخيير، و كذلك في مقام اليقين السابق و الشك اللاحق المرجع البراءة لا الاستصحاب.

و اما طريق الحصر في هذه الاربعة فعقلي كما تقدم بيانه في أوّل هذا الكتاب، و على كل فالاصول الاربعة هي: البراءة و الاحتياط و التخيير و الاستصحاب.

ص: 285

النقل فيها إلى مزيد بحث و بيان و مئونة حجة و برهان هذا مع جريانها في كل الابواب، و اختصاص تلك القاعدة ببعضها (1)،

______________________________

(1) هذه الجهة الرابعة، و حاصلها: ان التعريف المذكور للاصول العملية بانها التي ينتهي اليها المجتهد بعد الفحص و اليأس مما ينطبق على قاعدة الطهارة الجارية في الشبهة الحكمية، كما لو شككنا في طهارة حيوان متولد من نجس العين و طاهر العين، فان المرجع في الحكم بطهارته قاعدة الطهارة و هي مما تختص بالمجتهد لانها من الشبهة الحكمية، و الرجوع اليها لا يكون إلّا بعد الفحص و اليأس، فانه لو وجد نص دال على طهارته او نجاسته كان هو المرجع دون قاعدة الطهارة، فما الوجه في اخراجها من الاصول العملية و ادراجها في القواعد الفقهية؟ و الى هذا الاشكال اشار بقوله:

«فان مثل قاعدة الطهارة ... الى آخر الجملة» و قد أجاب عنها بجوابين:

الاول: ان البحث انما يكون في الامور غير المسلمة عند الكل، لوضوح انه لا وجه للبحث عما هو مسلم عند الكل، و لما كانت هذه الاصول الاربعة غير مسلمة عند الكل اختصت بالإفراد لأجل البحث، بخلاف قاعدة الطهارة فانها من الامور المسلمة عند الكل، و لذا لم تدرج في هذه الاصول المبحوث عنها، و مرجع هذا الجواب الى تسليم كونها من الاصول العملية و ليست من مسائل الفقه، و انما لم تدرج لانه لا مجال للبحث عنها لتسليمها، و اليه اشار بقوله: «إلّا ان البحث عنها ليس بمهم حيث انها ثابتة بلا كلام ... بخلاف الاربعة ... الى آخر الجملة».

الثاني: ان السبب في كونها ليست من الاصول العملية هو عدم عمومها لجميع ابواب الفقه لاختصاصها بباب الطهارة، بخلاف هذه الاربعة فانها عامة لجميع ابواب الفقه، و اليه اشار بقوله: «هذا مع جريانها» أي جريان الاصول الاربعة المذكورة «في كل الابواب» الفقهية «و اختصاص تلك القاعدة» أي قاعدة الطهارة «ببعضها» أي ببعض ابواب الفقه.

ص: 286

فافهم (1).

اصالة البراءة

اشارة

فصل لو شك في وجوب شي ء أو حرمته، و لم تنهض عليه حجة جاز شرعا و عقلا ترك الاول و فعل الثاني، و كان مأمونا من عقوبة مخالفته، كان عدم نهوض الحجة لاجل فقدان النصّ أو إجماله، و احتماله الكراهة أو الاستحباب، أو تعارضه فيما لم يثبت بينهما ترجيح، بناء على التوقّف في مسألة تعارض النصين فيما لم يكن ترجيح في البين.

و أما بناء على التخيير- كما هو المشهور- فلا مجال لاصالة البراءة و غيرها، لمكان وجود الحجة المعتبرة، و هو أحد النصين فيها (2) كما لا يخفى.

______________________________

(1) الظاهر انه يشير الى ما يرد على الوجه الثاني، من ان كون المسألة عامة لجميع الابواب ليس هو الملاك في كونها اصوليّة، بل الملاك في كونها اصولية هو كونها مما تختص بالمجتهد و انه هو الذي ينتهي اليها، و ان الانتهاء اليها يكون بعد الفحص و اليأس، و هذا الملاك موجود في قاعدة الطهارة.

و لعله يشير الى المناقشة في الجواب الاول ايضا، و هو ان الملاك في البحث عن هذه الاصول معرفتها لا كونها مسلّمة او غير مسلّمة، فكونها مسلّمة عند الكل لا يقتضي خروجها، مضافا الى ما يقال من انها غير مسلمة الجريان عند الكل.

(2) لا يخفى ان الشيخ (قدس سره) قسّم الشك في المقام الى اقسام:

أولا: الى الشك في التكليف، تارة مع العلم بنوع التكليف و الشك في المكلف به، و اخرى مع عدم العلم به و الشك في اصل التكليف.

و ثانيا: باعتبار كون المشكوك، تارة هو الوجوب، و اخرى التحريم.

و ثالثا: باعتبار كون الشبهة تكليفية تارة، و اخرى موضوعيّة.

و رابعا: باعتبار كون الشبهة الحكمية ناشئة من جهة فقد النص مرة، و اخرى من جهة اجمال النص، و ثالثة من جهة تعارض النصين.

ص: 287

.....

______________________________

و المختار للمصنف هو صحة التقسيم من الناحية الاولى فقط، و اليه اشار بقوله:

«لو شك في وجوب شي ء او حرمته و لم تنهض عليه حجة»، و بقوله: «و لم تنهض عليه حجة» اشار الى التقسيم من ناحية العلم بالنوع و الشك في المكلف به، فان العلم الاجمالي حجة، فالشك في الوجوب و الحرمة تارة فيما لم تنهض حجة و هو مورد الكلام فعلا، و اخرى فيما نهضت حجة على نوع التكليف و هو العلم الاجمالي به و شك في المكلف به، و سيأتي الكلام فيه ان شاء اللّه تعالى.

و اما التقسيم من ناحية كون المشكوك وجوبا او حرمة فلا فرق فيه من ناحية صحة جريان البراءة و عدمها الذي هو المهمّ في البحث فعلا على ما هو الصحيح، و ان خالف بعض الاخباريين في خصوص ما شك في حرمته.

و مثله التقسيم من جهة كون الشبهة تكليفية او موضوعية، لأن الشبهة الموضوعية داخلة في الفقه و خارجة عما يبحث عنه في الاصول.

و كذلك التقسيم من ناحية منشأ الشبهة، لان المدار على عدم قيام الحجة الفعلية سواء كان ذلك للفقد او للاجمال او للتعارض.

ثم اشار الى ما هو الصحيح المختار له و لعامة الاصوليين بقوله: «جاز شرعا» لاجل البراءة الشرعية كقوله: رفع ما لا يعلمون «و عقلا» لقاعدة قبح العقاب بلا بيان و هي البراءة العقلية «ترك الاول» و هو عدم الاتيان بما شك في وجوبه «و فعل الثاني» و هو الاتيان بما شك في حرمته «و كان» المكلف «مأمونا» من جهة «عقوبة مخالفته» للتكليف المشكوك فلا عقاب عليه في مخالفته للوجوب المشكوك بترك اتيانه، و لا في مخالفته للتحريم المشكوك باتيانه.

ثم اشار الى انه لا وجه لعقد البحث في فصول متعددة لاجل فقدان النصّ، و لاجل اجماله تارة من ناحية الوجوب و الاباحة أو الحرمة و الاباحة، و اخرى مع احتمال الكراهة و الاستحباب، و ثالثة لاجل تعارض النصين كما فعله الشيخ الاعظم في الرسائل بقوله: «كان عدم نهوض الحجة لاجل فقدان النص او» لاجل

ص: 288

.....

______________________________

«اجماله» و بقوله: «و احتماله» أي احتمال المجتهد الباحث «للكراهة او الاستحباب» اشار الى ما ذكرنا من ان الطرف المشكوك الوجوب و الحرمة تارة هو الاباحة فقط، و اخرى بضمّ الكراهة في مورد كون المشكوك هو الحرمة، و بضمّ الاستحباب في مورد كون المشكوك هو الوجوب «او» كان عدم نهوض الحجة لاجل «تعارضه» أي تعارض النص.

ثم اشار الى ان الجواز المذكور تركا و فعلا في مقام تعارض النصين مشروط بشيئين:

الاول: ان لا يكون احد النصين ارجح من الآخر، فان الحجة القائمة الفعلية تكون هي النص الراجح.

و الثاني: كونه مبنيا على التوقف في النصين المتعارضين، اما بناء على التخيير في المتعارضين فلا وجه للجواز المذكور لقيام الحجة الفعلية و هو وجوب العمل باحدهما بقوله: «فيما لم يثبت بينهما ترجيح» و به اشار الى الشرط الاول، و الى الثاني اشار بقوله: «بناء على التوقف في مسألة تعارض النصين فيما لم يكن ترجيح في البين».

ثم اشار الى الوجه في عدم الرجوع الى البراءة بناء على التخيير بقوله: «و اما بناء على التخيير كما هو المشهور» في النصين المتعارضين «فلا مجال لاصالة البراءة» التي هي الجواز المذكور «و» لا مجال ل «غيرها» ايضا كالاحتياط كما هو رأي بعض الاخباريين، ثم اشار الى السبب في عدم صحة الرجوع الى البراءة و لا الى غيرها بقوله: «لمكان وجود الحجة المعتبرة و هو احد النصين فيها» أي في مسألة تعارض النصين، و مع وجود النصّ الشرعي على الحكم الشرعي لا وجه للرجوع الى الاصول، لما عرفت من انها مشروطة بعدم الدليل.

ص: 289

الاستدلال بالكتاب على البراءة

و قد استدل على ذلك بالادلة الاربعة: اما الكتاب فبآيات اظهرها قوله تعالى: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (1) و فيه: إن نفي

______________________________

(1) اما كونها اظهر فلأن هذه الآية المباركة بعد تمامية مقدماتها يكون لها ظهور واضح على البراءة في مقام الشك في اصل التكليف.

و اما المقدمات التي يبتني عليها الاستدلال بها للبراءة فثلاث:

الاولى: كون المراد من العذاب المنفي فيما هو ما يعمّ العذاب الاخروي، لانه لو كان المراد منه هو العذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة تكون اجنبية عما نحن فيه، لانه كان ذلك لعدم تصديق الامم المبعوث لها الانبياء و تكذيبهم لهم و جرأتهم على ايذائهم أو قتلهم، لا لمخالفتهم للتكاليف الفرعية مع وصول بيانها لهم.

الثانية: ان المراد من الرسول هو الاعم من الرسول الظاهري و هم الانبياء و الرسول الباطني و هو البيان، فانه لو كان المراد بها خصوص الرسول الظاهري ايضا تكون اجنبية عن المقام، لان مدلولها يكون هو ان نفي العذاب و ان كان اخرويا منوط بالرسول الظاهري، و هذا المعنى اجنبي عما هو المطلوب اثباته بها في البراءة، من كون نفي العذاب منوطا بعدم وصول البيان، فالاستدلال بها للبراءة يتوقف على كون المراد من الرسول البيان، و انما كني به عن البيان لملازمة البيان للرسول غالبا، لان البيان من اللّه لأحكامه انما يكون على لسان رسله و من طريقهم.

الثالثة: ان يكون المراد من نفي العذاب هو نفي استحقاق العذاب لا نفي فعلية العذاب، لان المبحوث عنه في البراءة هو نفي استحقاق العقاب عند عدم البيان، و لا ملازمة بين الاستحقاق و الفعلية، لوضوح ان اللّه تعالى فضله ربما لا يعاقب من استحق العقاب، فاذا كانت الآية المباركة في مقام رفع استحقاق العقاب عند عدم البيان- المكنى عنه بالرسول- كانت مربوطة بمحل الكلام و دالة على البراءة الشرعيّة عند عدم البيان الواصل، و اذا كان المنفي فيها فعلية العقاب لا تنفع دليلا في ما نحن فيه، لاحتمال كون من لم يصله البيان مستحقا للعقاب بمجرد احتماله لذلك و قد

ص: 290

التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله كان منة منه تعالى على عباده، مع استحقاقهم لذلك (1)، و لو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين

______________________________

رفع اللّه عنه بفضله و منّته فعلية العقاب، فلا تصلح دليلا لمن كانت دعواه عدم استحقاق العقاب عند عدم البيان.

فاتضح: ان الاستدلال بها يتوقف على هذه المقدمات الثلاث، و بعد تماميتها تدل على البراءة الشرعية فيما لو شك في وجوب شي ء او حرمته بعد الفحص و اليأس من البيان.

(1) لم يشر المصنف الى المناقشة في المقدمة الاولى بكون السياق ظاهرا في نفي العذاب الدنيوي الذي حدث في الأمم السابقة، و منه يظهر المناقشة في المقدمة الثانية بان ظاهرها كون المراد من الرسول هو الرسول الظاهري و هم الانبياء لتكون اجنبية باحد هذين الظهورين عن المقام، بل يمكن دعوى ان احتمال كون المراد من الرسول هو خصوص الرسول الظاهري كاف في عدم صحة الاستدلال بها لإجمالها.

و على كل، فقد اشار الى المناقشة في المقدمة الثالثة فقط، و هو كون الآية المباركة اما ظاهرة في نفي فعلية العذاب، أو لا أقل من اجمالها من ناحية كون المنفي فيها هو الاستحقاق او الفعليّة، و الاستدلال انما يتم فيها على البراءة حيث يكون لها ظهور في نفي الاستحقاق فيكفي الاجمال من هذه الناحية في عدم تمامية الاستدلال بها، و في مثل هذا يقال اذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، لان معنى الاحتمال في المقام هو الاجمال، و قد عرفت ان الاستدلال بها يتوقف على ظهورها في نفي الاستحقاق.

و يظهر من المصنف دعوى اجمال الآية من ناحية المرفوع و المنفي فيها، و انها لا ظهور لها في نفي الاستحقاق لاحتمال كون المرفوع فيها هو الفعليّة، و مع هذا الاحتمال لا ظهور لها في نفي الاستحقاق حتى يصح الاستدلال، لانه قال (قدس سره): «و فيه» أي و في الاستدلال بهذه الآية المتوقف على ظهورها في رفع الاستحقاق «ان نفي التعذيب» أي نفي فعلية التعذيب «قبل اتمام الحجة» المكنى

ص: 291

الاستحقاق و الفعلية (1)، لما صح الاستدلال بها إلا جدلا، مع وضوح منعه، ضرورة أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم مما علم

______________________________

عنه «ببعث الرسل لعله كان منّة منه تعالى» و في تعبيره بلفظ لعل دلالة على احتمال كون المنفي هي الفعليّة، و على كل فيحتمل كون المنفي هي فعلية التعذيب قبل البيان منة منه تعالى «على عباده مع استحقاقهم لذلك» أي العقاب، و على هذا فلا دلالة لها على ما هو المدعى في المقام من عدم الاستحقاق عند عدم البيان.

و يحتمل ان يشير المصنف بقوله: «لعله كان منّة منه تعالى» الى ان احتمال ورودها مورد المنة هو الموجب لاحتمال كونها في مقام رفع الفعليّة، لان رفع العقاب حيث لا استحقاق فيه لا يكون فيه منّة، و انما تكون المنّة في رفع الفعلية مع الاستحقاق، و حيث يحتمل كون ورودها مورد المنّة لذا كان المحتمل ايضا ان تكون في مقام رفع الفعليّة دون الاستحقاق.

لا يقال: لا يحتمل ورودها مورد المنّة حتى يكون رفع الفعلية محتملا لتصريحها برفع العقاب قبل اتمام الحجة ببعث الرسل، و حيث لا تتم الحجة لا بد و ان يكون المرفوع هو الاستحقاق لعدم احتمال كون احتمال البيان منجزا.

فانه يقال: ليست المنّة المحتملة لدعوى كون الاحتمال بنفسه منجزا، بل المنّة انما هي في مورد الاحتمال حيث يمكنه تعالى ان يجعل الاحتياط في هذا المقام، فتكون المنّة في رفع الاحتياط في مورد امكان جعله، فيكون المراد من الآية بناء على ارادة نفي الفعلية فيها انا رفعنا فعلية العقاب عنهم في مورد عدم البيان، لانه يمكننا جعل الاحتياط في هذا المقام فلم نجعله منّة منّا على عبادنا، فما لم يصل البيان منّا اليهم ففعلية العذاب عنهم مرفوعة منّة منّا عليهم، لامكان ان نجعل الاحتياط في هذا المقام فلم نجعله لاجل المنّة، و كانت فعلية عذابنا لهم منوطة بوصول البيان.

(1) توضيحه: ان الشيخ (قدس سره) في رسائله قال في كلامه على دلالة هذه الآية المباركة: انها و ان كانت غير ظاهرة في نفي الاستحقاق حتى تكون دليلا لنا على

ص: 292

.....

______________________________

البراءة، إلّا انه مع ذلك يصح الاستدلال بها في قبال الاخباريين المدعين الاحتياط في مقام الشك في اصل التكليف، لانهم معترفون بالملازمة بين نفي الفعلية في المقام و بين نفي الاستحقاق، فالآية لو كانت ظاهرة في نفي الفعلية لدلت بالملازمة على نفي الاستحقاق، و حينئذ تكون دليلا على البراءة.

و قبل الشروع في الجوابين اللذين اشار اليهما المصنف عن صحة الاستدلال بها في قبال الاخباريين- نقول: ان توهم الملازمة بين الفعلية و بين الاستحقاق في المقام منشؤه اما ما يظهر من ادلة الاخباريين على الاستحقاق بما دلّ على الفعليّة ظاهرا مثل روايات التثليث الدالة على ان اقتحام الشبهة موجب للوقوع في الهلكة، بدعوى ان المراد من الهلكة هي العقاب، فمدلول الروايات على هذا ان اقتحام الشبهة يترتب عليه الهلكة الفعليّة، فلو لم يكن تلازم عندهم بين الفعلية و الاستحقاق لما صح الاستدلال بما يدل على الفعلية على الاستحقاق.

و فيه اولا: ان استدلال الاخباريين على الاستحقاق بفعلية العقاب في مورد الشبهة لا يدل على الملازمة مطلقا بينهما، لوضوح ان فعلية العقاب لا بد و ان تكون مسبوقة باستحقاقه، بخلاف نفي الفعلية فانه لا يقتضي نفي الاستحقاق، لان وجود الاخص و لو موردا يستلزم وجود الاعم، بخلاف نفي الاخص فانه لا يستلزم نفي الاعم، و فعلية العقاب اخص من الاستحقاق اذ قد يكون استحقاق و لا فعلية، و لكنه لا يعقل ان تكون فعلية للعقاب من دون استحقاق، فاستدلالهم بها من جهة الاحتياط لا يستلزم قولهم بالملازمة حتى في مورد نفي الفعلية.

و ثانيا: ما سيأتي من ان لازم الملازمة عدم الاثر للتوبة و للشفاعة، و اما ان يكون منشأ الملازمة الذي اعترف بها الاخباريون هي دعوى الاجماع في خصوص المقام، على ان نفي الفعلية فيه يستلزم نفي الاستحقاق: أي قيام الاجماع في مورد عدم البيان الواصل على ان نفي الفعلية فيه تلازم نفي الاستحقاق. و لا وجه لدعوى الاجماع في المقام، فان العقاب الفعلي امر تكويني و استحقاقه امر عقلي، و لا وجه

ص: 293

بحكمه، و ليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلا كالوعيد به فيه (1)،

______________________________

للاجماع على الملازمة شرعا بين امرين احدهما تكويني و الآخر عقلي، لان الاجماع انما يصح قيامه على مجعول تشريعي و لا مجعول تشريعي في المقام، فلا ينبغي ان يقول الاخباريون بهذا الاجماع ليكون كاشفا عن اعترافهم بهذه الملازمة، و على كل فلم يظهر الوجه واضحا في دعوى اعترافهم بهذه الملازمة.

(1) حاصل الجواب الاول عن صحة الاستدلال بها في قبال الاخباريين مع انه لا ملازمة واقعا بين نفي الفعلية و نفي الاستحقاق ان الاستدلال بها لا يصح الّا على نحو الجدل، و المراد بالاستدلال الجدلي هو الاستدلال بما هو غير صحيح عند المستدل، و لكنه حيث انه يعترف به خصمه فيستدل به كإلزام به، و المهمّ لنا في المقام ليس هو مجرد إلزام الاخباريين، بل ما يكون لنا دليل و حجة واقعا في مقام عملنا على البراءة في مقام الشك في اصل التكليف فلا تكون الآية حجة لنا واقعا على البراءة، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «لما صح الاستدلال بها» أي بهذه الآية «الّا جدلا» لا واقعا.

الجواب الثاني: انا نمنع اصل صحة نسبة الملازمة عند الاخباريين، فانه لا يعقل ان يقول الاخباريون بالملازمة بين استحقاق العقاب و فعليته، اذ لا يعقل ان يكون الاقتحام في مورد الشك اعظم من الاقتحام مع القطع بالحكم، فان من ترك الواجب المقطوع بوجوبه او فعل الحرام المقطوع بحرمته لا ملازمة فيه بين استحقاق المقتحم و فعلية العقاب، و الّا للزم ارتفاع أثر التوبة و لزم الالتزام بانه لا تنفع في رفع السيّئة فعل أي حسنة، مع ان الاخبار متواترة بان التوبة و فعل بعض الحسنات كزيارة سيد الشهداء مثلا يرفعان أثر الذنوب مهما كانت، هذا مضافا الى ان لازم دعوى الملازمة المذكورة انكار الشفاعة من اهلها، و انكار الرحمة التي وسعت كل شي ء، فلا يعقل ان يقول الاخباريون و منهم اعظم علمائنا الاعلام بالملازمة بين الاستحقاق و الفعلية ليكون نفي الفعلية مستلزما لنفي الاستحقاق، و اليه اشار بقوله: «مع وضوح

ص: 294

فافهم (1).

الاستدلال بالسنة على البراءة:

اشارة

و أما السنة: فبروايات

حديث الرفع
اشارة

منها: حديث الرفع (2)، حيث عد (ما لا يعلمون) من التسعة المرفوعة فيه، فالالزام المجهول مما لا يعلمون، فهو مرفوع فعلا و إن كان ثابتا واقعا، فلا مؤاخذة عليه قطعا.

______________________________

منعه» أي مع وضوح منع اصل دعوى اعتراف الخصم بالملازمة من جهة «ان ما شك في وجوبه او حرمته ليس عنده» أي ليس عند من نسب اليه الاعتراف «باعظم مما علم بحكمه» و قطع به و عصى المكلف و اقتحم متعمدا عاصيا، فانه لا ينبغي لاحد ان يلتزم بالملازمة فيه بين الاستحقاق و الفعلية، فكيف يمكن ان يلتزم احد بالملازمة بينهما في مقام الاقتحام فيما شك في اصل التكليف فيه، و على كل فلو ثبت وعيد للمقتحم في الشبهة فلا يكون الّا كالوعيد على من اقتحم مع القطع بالحكم، و سيأتي في مقامه انه لم يثبت وعيد للمقتحم في الشبهة، و الى هذا اشار بقوله: «و ليس حال الوعيد بالعذاب فيه» أي في ما شك في وجوبه او حرمته «الّا كالوعيد به» أي بالعذاب «فيه» أي فيما علم بحكمه.

(1) لعله اشارة الى ان جوابه الثاني غاية ما يدل عليه انه لا ينبغي ان يقال بالملازمة، لا ان من نسب اليه القول بها لم يقل بها، و الصحيح في مقام ردّ دعوى النسبة هو نقل كلام من نسب اليه الملازمة بالتصريح بعدم الملازمة.

(2) المراد منه الحديث عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم و هو قوله صلى اللّه عليه و آله و سلم: (رفع عن امتي تسعة اشياء الخطا و النسيان و ما استكرهوا عليه و ما لا يعلمون و ما لا يطيقون و ما اضطروا اليه و الطيرة و الحسد و التفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الانسان بشفته)(1).

و محل الاستدلال منه هي فقرة ما لا يعلمون، و بيان الاستدلال بها هو ان الاحتمالات في المراد من كلمة الموصول و هي (ما) كثيرة، اهمها ثلاثة:

ص: 295


1- 27. ( 1) التوحيد: ص 353 بتفاوت يسير.

.....

______________________________

الاول: ان يكون المراد منه هو الحكم المطلق الشامل للحكم الكلي ككلي الوجوب او التحريم المشكوكين، و الحكم الجزئي كحكم المائع المشكوك خمرا أو خلا.

فالمتحصل من قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: (رفع ما لا يعلمون) هو رفع الحكم غير المعلوم، و باطلاقه يشمل الحكم الكلي و الجزئي، و في كون الحكم المرفوع جزئيا في المائع المشكوك كونه خمرا أو خلا اشكال، لوضوح كونه كليا لشموله لكل حكم شك فيه من جهة اشتباه عنوانه الذاتي ككونه خمرا أو خلا، فلا بد و ان يكون المراد من الحكم الكلي هو الحكم المشكوك فيه من ناحية الشبهة الحكميّة، كالحكم في التتن المشكوك حرمته، فان عنوانه الذاتي معلوم و هو كونه تتنا، و المجهول فيه حكمه الواقعي من ناحية حرمته و اباحته، فالشك فيه من ناحية حكمه لعدم بيان و اصل فيه يدل على حرمته او على حليته.

و المراد من الحكم الجزئي هو الشك في حكم الشي ء لاجل اشتباه عنوانه الموضوع للحكم المعلوم، فان الخمر معلوم حكمه و الخلّ معلوم حكمه، فاذا شك في مائع كونه خمرا أو خلا فالشك فيه من ناحية حكمه نشأ من جهة عدم معلومية ما هو موضوع الحكم، و هي المسماة بالشبهة الموضوعية.

الثاني: ان يكون المراد من الموصول هو الفعل الذي لا يعلم حكمه، سواء كان عدم معلوميّة حكمه لاجل الشك في اباحته و حرمته، أو لاجل الشك في عنوانه من حيث كونه خمرا أو خلا، و على هذا فيشمل الحديث الشبهة الحكمية و الموضوعية ايضا، فانه كما يصدق على المشكوك عنوان انه مجهول لعدم العلم بكونه خمرا أو خلا، كذلك يصدق على المعلوم العنوان كالتتن انه مجهول من جهة كونه مباحا أو حراما، غايته ان السبب في الجهل في الاول هو عدم العلم بعنوانه الاولي الذاتي السابق على الحكم و هو الخمرية و الخلية، و السبب في الجهل في الثاني هو عدم العلم بالعنوان الثانوي غير الذاتي المتأخر عن الحكم و هو كونه مباحا أو حراما، و لا مانع

ص: 296

الاستشكال بدلالة الحديث بوجوه

لا يقال: ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية، كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهرا، فلا دلالة له على ارتفاعها (1).

______________________________

من ناحية هذا الفرق بعد ان كان عنوان ما لا يعلمون شاملا لكل شك في الحكم المتعلق بالفعل.

الثالث: ان يراد من الموصول هو خصوص الفعل المشكوك من ناحية عنوانه الاولي، و حينئذ لا يشمل الحديث الشبهة الحكمية و يختص بالشبهة الموضوعية.

و المختار للمصنف هو الاحتمال الاول من الاحتمالات الثلاثة، و اليه اشار بقوله: «فالالزام المجهول مما لا يعلمون» سواء كان الزاميا وجوبيا أو تحريميا «فهو مرفوع فعلا و ان كان ثابتا واقعا»، و في تعبيره بالالزام دلالة واضحة على ان المرفوع عنده هو الحكم، و في قوله فعلا دلالة ايضا على ان المرفوع هي رتبة الحكم الفعلية على ما اختاره في مراتب الحكم: من الاقتضائية و الإنشائية و الفعلية و التنجز، و لا يخفى ان لازم رفع الحكم بمرتبته الفعلية هو عدم المؤاخذة عليه لو كان حراما واقعا ففعله المكلف أو كان واجبا واقعا فتركه، و لذا فرع عليه بقوله: «فلا مؤاخذة عليه قطعا».

(1) قد استشكل في دلالة الحديث على كون المرفوع فيه هو الحكم بوجوه:

منها: ان الرفع يناسب كون المرفوع ثقيلا و لا ثقل في نفس الحكم، و انما الحكم سبب للثقل في نفس الفعل، و من الواضح ان السبب لا يوصف بمسببه، فلا يوصف سبب البياض بانه ابيض، و انما الموصوف بالابيض هو البياض نفسه او الجسم الابيض دون سبب البياض، فلا بد و ان يكون المرفوع هو الفعل لانه هو الموصوف بالثقل المناسب للرفع دون الحكم لانه سبب لما فيه الثقل، و اذا كان المراد منه الفعل فيضم اليه ما سيأتي من دعوى كون الظاهر من عدم العلم بالشي ء هو عدم العلم بنفسه و بعنوانه الاولي فيختص بالشبهة الموضوعية.

ص: 297

.....

______________________________

و الجواب عنه أولا: انه فرق بين مسبب السبب و بين آثار المسبب، فان السبب و ان كان لا يوصف و لا يحمل عليه مسببه و لكنه يوصف و يحمل عليه آثار السبب، فان من أوجد الماء فروى به العطاشى لا يوصف بانه ماء، و لكنه يوصف بانه روى العطاش، و كذلك من اوجد البياض لا يوصف بانه ابيض و لا يحمل عليه الابيض، و لكنه يحمل عليه آثار البياض، فيقال لمن أوجد البياض انه فرق البصر.

و ثانيا بان الحكم نفسه قد ورد وصفه بالثقل كما في قوله تعالى: سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا(1) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً(2) الخ. و من الواضح ان المراد من القول الثقيل هو الحكم بناشئة الليل.

و ثالثا: ان الحكم و الفعل من قبيل المتعلق و المتعلق به، و يوصف المتعلق بوصف متعلقه، فيقال الحكم سهل و الحكم صعب اذا كان متعلقه سهلا أو صعبا.

و منها: ان وحدة السياق في بعض فقرات الحديث تقضي بان المراد من الموصول هو الفعل دون الحكم، لان المراد من ما استكرهوا عليه و ما اضطروا اليه و ما لا يطيقون هو الفعل الذي اكرهوا عليه و الفعل الذي اضطروا الى ارتكابه و الفعل الذي لا يطيقون الاتيان به، و كذلك المراد من الخطأ فانه هو الفعل الذي كان خطأ، و كذلك النسيان فان المراد منه هو الفعل الذي وقع من الشخص نسيانا، و الظاهر من عدم العلم به هو عدم العلم بنفسه و بذاته، فينحصر في الشبهة التي كان الجهل فيها مستندا الى الجهل بعنوانها الذاتي الاولي، و هي مثل المائع غير المعلوم كونه خمرا أو خلا، و هذه الشبهة هي الشبهة الموضوعية دون الحكمية، فالمستفاد- على هذا- منه رفع الذي لا يعلم من حيث عنوان ذاته مثل المثال المذكور و هو خصوص الشبهة الموضوعية.

ص: 298


1- 28. ( 1) المزمل: الآية: 5.
2- 29. ( 2) المزمل: الآية 6.

.....

______________________________

و الجواب عنه أولا: ان العنوان المنظور اليه في هذه الفقرات هو مفهوم ما استكرهوا عليه و مفهوم ما اضطروا اليه و هكذا، و انما يكون المراد منه الفعل باعتبار ان منطبق هذا العنوان في ما اضطروا و ما استكرهوا و امثالها منحصر في الفعل، لا أن المنظور اليه بدوا هو نفس الفعل، و كون منطبق هذه المفاهيم هو الفعل لا يكون من السياق الذي هو قرينة عرفية على ارادة مثله من مفهوم ما لا يعلمون بعد ان كان من الممكن انطباقه على الحكم العام لتكون المنة فيه اعم و اشمل.

و ثانيا: ان كون المراد من الموصول هو الفعل لا يجعله منحصر الدلالة في الشبهة الموضوعية، بعد ما عرفت من صدق ما لا يعلمون على الفعل المجهول من حيث عنوانه الاولي كما في الشبهة الموضوعية، و على الفعل المجهول من حيث عنوانه الثانوي و هو كونه مباحا أو حراما.

و دعوى ان الظاهر منه هو خصوص الفعل المجهول بعنوانه الاولي ممنوعة، بل الظاهر منه هو الفعل المجهول حكمه سواء كان السبب في الجهل بالحكم عدم العلم به من حيث معلومية كونه خمرا أو خلا، او عدم العلم به للجهل بنفس حكمه كالتتن.

و منها: ما اشار اليه بقوله: «لا يقال ليست المؤاخذة ... الى آخره» و توضيحه:

انه قد تقدم منه ان المهم في المقام هو رفع الاستحقاق في مخالفة التكليف المجهول، فالمصنف لما ذكر ان حديث الرفع دال على رفع فعلية التكليف فرع عليه برفع المؤاخذة بقوله: «فلا مؤاخذة عليه قطعا» و هذا الاشكال مربوط بهذه الجهة لا كما مر من الاشكالين، فانه منوط بمتعلق الرفع.

و على كل، فحاصل هذا الاشكال يمكن ان يكون بنحوين:

الاول: ما اشار اليه في المتن من ان الرفع انما يتعلق بالمجعول الشرعي و بالآثار الشرعية لانها مجعولة و لو بالواسطة، و المؤاخذة ليست من الآثار الشرعية للتكاليف الشرعية، لان المراد من المؤاخذة هو حق المؤاخذة، و حق المؤاخذة هي الطرف الثاني لاستحقاق العقاب، و الحاكم به العقل في مخالفة التكاليف، فهي من الآثار

ص: 299

فإنه يقال: إنها و إن لم تكن بنفسها أثرا شرعيا، إلا أنها مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره و باقتضائه، من إيجاب الاحتياط شرعا، فالدليل على رفعه دليل على عدم إيجابه المستتبع لعدم استحقاقه العقوبة على مخالفته (1).

______________________________

العقلية، و ليست من المجعولات الشرعية حتى يكون امر رفعها و وضعها بيد الشارع، بل العقل في مخالفة التكليف يحكم باستحقاق العقاب على العبد و بحق المؤاخذة عليه للمولى، فلا تكون المؤاخذة من المرفوع برفع التكليف لانها ليست من الآثار الشرعية المجعولة للتكليف حتى يكون رفع التكليف رفعا لها، و الى هذا اشار بقوله: «لا يقال ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية» و لو بالواسطة «كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهرا» و اذا لم تكن من الآثار الشرعية له فلا تكون مما يرفع برفعه.

و من الواضح ان رفع الشارع و وضعه بما هو شارع مما يختص بمجعولاته الشرعية، و قد عرفت ان المؤاخذة و عدمها من الآثار العقلية و ليست من الآثار الشرعية، فلا وجه لدعوى رفعها.

(1) توضيح هذا الجواب: ان رفع الشي ء تارة يكون برفعه بنفسه و هذا مما يختص بالمجعولات الشرعية، و اخرى يكون رفع الأثر برفع موضوع الاثر و هذا لا يختص بالآثار الشرعية بل يعم الآثار العقلية ايضا، و من الواضح ان المؤاخذة موضوعها التكليف المجعول شرعا في مرتبته الفعلية، فاذا رفع الشارع الحكم في مرتبته الفعلية فترتفع المؤاخذة لرفع موضوعها، لا لان الرفع قد تعلق بها، ففي الحقيقة انه بالنسبة الى المؤاخذة ارتفاع، فالشارع و ان لم يكن له رفع المؤاخذة بنفسها لانها اثر عقلي، إلّا انه لما كان ما هو الموضوع لها رفعه و وضعه بيده فيكون رفع المؤاخذة بواسطة رفع الشارع لما هو الموضوع له مما هو بيد الشارع، فالرفع يكون رفعا حقيقة لموضوعها و ارتفاعا بالنسبة اليها.

ص: 300

.....

______________________________

و الحاصل: ان مصلحة التكليف الواقعية لما اقتضت جعله و اقتضت ايضا فعليته و ايصاله و لو بجعل الاحتياط في مقام الشك فيه، و المؤاخذة من آثار التكليف العامة للتكليف الفعلي واقعيا كان او ظاهريا أو ثابتا بجعل الاحتياط في مورده، فيكون رفع المؤاخذة برفع موضوعها في عدم جعل الاحتياط في مورد الشك مما بيد الشارع، لامكان رفعها برفع موضوعها لا برفعها بنفسها، و ليس هذا من قبيل وساطة الامر الشرعي لترتب الاثر العقلي حتى يقال: ان الامر الشرعي ان كان من قبيل الامارة يصح كونه واسطة لترتيب الاثر العقلي، و ان كان من قبيل الاصل فلا يترتب عليه الاثر العقلي، لما سيأتي في عدم حجية الاصل في ترتيب الآثار العقلية، و لما كانت البراءة و رفع الحكم في المقام من الاصول فلا يترتب عليه رفع الآثار العقلية.

فانه يقال: ان ارتفاع الأثر في المقام ليس من باب كون الاصل واسطة لترتبه حتى يأتي التوهم المذكور، فان الأثر العقلي تارة يكون من الآثار المختصة بالتكليف الواقعي كانتزاع الشرطية مما هو شرط واقعا، أو من الآثار الخارجية المترتبة على وجود الشي ء واقعا ككون زيد البالغ سن العشرين مما تنبت له لحية خارجا، و في مثل هذين الأثرين يأتي الفرق فيها بين الاصل و الامارة على ما سيأتي تفصيله في باب الاستصحاب.

و اخرى يكون الأثر من آثار التكليف الاعم من التكليف الواقعي و الظاهري بمرتبته الفعلية، كمثل المؤاخذة فانها من آثار التكليف سواء كان واقعيا او ظاهريا، و مثل هذا الاثر العقلي لا يكون ثبوت موضوعه الذي هو التكليف بالاصل من اثبات الاصل للأثر العقلي، و لا ارتفاعه برفع التكليف بالاصل من ترتيب عدم الأثر العقلي بالاصل، و لا يفرق في مثل هذا بين الامارة و الاصل، فان ثبوت التكليف سواء كان بالامارة أو بالاصل مما يصح المؤاخذة على تركه و ثبوت عدمه سواء كان بالامارة او بالاصل مما يترتب عليه عدم صحة المؤاخذة.

ص: 301

.....

______________________________

و الحاصل: ان الأثر الاعم للتكليف واقعيا كان او ظاهريا يثبت بثبوت موضوعه و يرتفع بارتفاع موضوعه، و ليس هو من ترتيب الأثر العقلي و عدمه بالاصل حتى يفرق فيه بين الامارة و الاصل، و الى ما ذكرنا أشار بقوله: «فانه يقال انها» أي المؤاخذة «و ان لم تكن بنفسها أثرا شرعيا إلّا انها» لما كانت «مما يترتب عليه» أي على التكليف «بتوسيط ما هو أثره و باقتضائه من ايجاب الاحتياط شرعا» لما عرفت من ان ايجاب الاحتياط من آثار مصلحة التكليف المقتضية لجعله و لإيصاله و لو بجعل الاحتياط في مورده، فايجاب الاحتياط من آثار التكليف بما له من المصلحة المقتضية لإيصاله، و حينئذ «فالدليل» الدال على ايجاب الاحتياط مثبتا لموضوع المؤاخذة، و الدليل الدال «على رفعه» أي على رفع التكليف ظاهرا في مورد الشك «دليل» واضح «على عدم ايجابه» أي على عدم ايجاب الاحتياط في مورد الشك «المستتبع ل» ارتفاع حق المؤاخذة و «عدم استحقاق العقوبة على مخالفته» أي على مخالفة التكليف المشكوك، فهي من باب رفع الشي ء برفع موضوعه لا لرفعه بنفسه، فالمؤاخذة لما كانت من الآثار العامة و كان موضوعها بيد الشارع رفعها برفع موضوعها و اثباتها باثبات موضوعها، و ليس هو من باب اثبات الاصل للأثر العقلي كما عرفت.

فتحصل مما ذكرنا: ان الأثر العقلي العام مما بيد الشارع رفعه و وضعه برفع موضوعه و وضع موضوعه، لا لتعلق الرفع و الوضع بنفس الأثر العقلي.

و لا يخفى انه قد اتضح مما ذكرنا: ان الرفع في المقام من قبيل الدفع، فالمراد من الرفع ظاهرا بحسب لسان الحديث هو الدفع لبا، لان الرفع لغة هو ازالة الموجود و محو أثر المقتضي الموجود، و الدفع منع المقتضي عن تأثيره، و لما كانت البراءة في المقام مانعة عن تأثير المصلحة لايجاب الاحتياط في مورد الشك فالبراءة مانعة عن التأثير لا رافعة لأثر المقتضي الموجود، فان المصلحة الواقعية لم تؤثر أثرا فعليا قد ارتفع بالبراءة، بل البراءة منعت عن تأثيرها لايجاب الاحتياط في مورد الشك، فهي

ص: 302

.....

______________________________

مانعة عن تأثير المقتضي أثره لا رافعة لأثره الموجود، و لذا كان المراد من الرفع في الحديث هو الدفع لبا.

و ما يقال: من ان الرفع لأثر المقتضي بعد تاثيره هو دفع لتأثيره ايضا فالرفع دفع و رفع، فلذا صح اطلاق الرفع في مقام الدفع على الدفع و كان اطلاقا صحيحا من غير حاجة الى عناية.

ففيه أولا: ان اشتمال الرفع على الدفع انما هو بحسب الخارج لا بحسب المفهوم، فان لازم رفع اثر المقتضي المؤثر هو ايجاد المانع عن استمرار تاثيره.

و ثانيا: انه لو كان كذلك بحسب المفهوم فانه ايضا لا يصحح الاطلاق من دون عناية، لان الرفع موضوع لمعنى لازمه الدفع لا يوجب كون الموضوع له فيه امرا عاما يكون الدفع احد مصاديقه حتى يصح استعماله فيه من دون عناية.

و ثالثا: ان استعمال اللفظ الموضوع لمعنى عام في احد مصاديقه انما يكون من غير عناية فيما اذا استعمل في المعنى الجامع، و كان اطلاقه على المحمول عليه باعتبار فرديته لذلك، و اما استعمال المعنى العام في خصوص الخاص بخصوصه فهو ايضا مما يحتاج الى عناية ايضا.

هذا كله في الاشكال في المؤاخذة من ناحية كونها أثرا عقليا.

و اما الاشكال بالنحو الثاني من جهة ان المؤاخذة ليست من آثار التكليف الواقعي او الظاهري و ان لم يصل، بل هي من آثار التكليف الواصل، و المفروض في البراءة عدم وصول البيان، فما لم يصل البيان لا مؤاخذة، فلا حاجة لرفعها حتى تكون مرفوعة برفع عدم ايجاب الاحتياط.

و الجواب عنه يظهر ايضا مما ذكره المصنف في الجواب عن الاشكال بالنحو الاول، و هو ان المؤاخذة و ان كانت من آثار التكليف الواصل، و لم ترفع المؤاخذة في المقام برفع التكليف المجهول واقعا حتى يقال انها ليست من آثار التكليف الواقعي و ان كان مجهولا حتى نحتاج الى رفع برفع موضوعها، بل المؤاخذة لما كانت من آثار التكليف

ص: 303

لا يقال: لا يكاد يكون إيجابه مستتبعا لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول، بل على مخالفته نفسه، كما هو قضية إيجاب غيره (1).

______________________________

العامة للواقعي الظاهري و من الآثار الثابتة لايجاب الاحتياط ايضا و كانت مصلحة التكليف الداعية لجعله المقتضية لثبوته واقعا و لإيصاله و لو بالاحتياط، كان للتكليف اقتضاء الثبوت و التاثير لايجاب الاحتياط بداعي ايصال التكليف الواقعي، و قد عرفت ايضا ان الرفع في المقام رفع بلسان الدليل و دفع لبا كان رفع الاحتياط في مقام وجود المقتضي له الموجب لثبوت المؤاخذة لو جعل الاحتياط في مقام الشك رفعا للمؤاخذة برفع موضوعها، و هو ايجاب الاحتياط بجعل المانع عن تأثير المقتضي لايجاب الاحتياط، فالرفع في المقام رفع لأثر التكليف الواقعي الذي ترتفع برفعه المؤاخذة.

و بعبارة اخرى: انه لو لا البراءة لأثر المقتضي لايجاب الاحتياط فجعل الشارع للمانع عن هذا التأثير رفع للأثر، و لما كان بهذا الرفع- الذي هو دفع لبا- ترتفع المؤاخذة كان رفعا للمؤاخذة بهذا الاعتبار.

و الحاصل: ان الامر في مقام الشك في الحكم الواقعي دائر بين جعل الاحتياط الموضوع للمؤاخذة لثبوت المقتضي له، و بين جعل عدم الاحتياط لمصلحة مانعة عن تأثير المقتضي المستلزم لرفع المؤاخذة، و لما جعل الشارع عدم الاحتياط كان قد جعل ما به يرتفع موضوع المؤاخذة و صح نسبة رفع المؤاخذة الى الشارع بهذا الاعتبار، و ان كانت المؤاخذة عقلا من آثار التكليف المنجز بوصوله، لان الشارع لو لم يجعل عدم الاحتياط في المقام لجعل الاحتياط، فصح ان يقال ان الشارع رفع المؤاخذة في المقام بايجاده المانع عما يقتضي ثبوت ما هو موضوع المؤاخذة.

(1) توضيحه: ان رفع المؤاخذة على التكليف الواقعي على ما مر منه انما كان تبعا لرفع ايجاب الاحتياط، لأن ايجاب الاحتياط من آثار التكليف الواقعي بداعي ايصاله

ص: 304

.....

______________________________

و المحافظة عليه، و هذا انما يتم حيث لا يكون ايجاب الاحتياط ايجابا نفسيا، بل يكون اما مقدميا أو إرشاديا.

و اما اذا كان نفسيا فان العقاب انما يكون على تركه لا على ترك التكليف المحتمل، مضافا الى انه اذا كان نفسيا لا يكون منجزا للواقع، فان منجز الواقع ما كان بداعي الواقع لا بداعي نفسه.

و اما ان ايجاب الاحتياط لو كان موجودا لكان نفسيا لا مقدميا و لا إرشاديا ...

اما انه ليس بوجوب مقدمي فلان وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها و مترشح منه، فلا يعقل ان يكون وجوب المقدمة منجزا و وجوب ذي المقدمة غير منجز و يكون المنجز له هو ايجاب مقدمته.

و اما عدم كونه ارشاديا فلوضوح ان الارشاد الى العقاب على التكليف الواقعي لا يمكن، لعدم العقاب على التكليف غير المنجز، و الارشاد الى غيره لا يكون لازمه وضع المؤاخذة حتى تكون مرفوعة برفع الايجاب الاحتياطي.

فايجاب الاحتياط لا يعقل ان يكون وجوبه وجوبا مقدميا، لعدم امكان كونه منجزا مع كون ذي المقدمة وجوبا غير منجز، لان تنجزه يكون معلولا بلا علة، و لا وجوبا ارشاديا لعدم صحة إرشاده الى العقاب الذي هو المهم في وضع المؤاخذة على التكليف لترتفع برفعه، فيتعين ان يكون وجوبه وجوبا نفسيا لو كان، و حينئذ يكون رفعه مستلزما لرفع المؤاخذة عليه لا على التكليف الواقعي الذي هو المهم في المقام اثباته بدليل رفع المؤاخذة.

فتحصل مما ذكرنا: ان الوجوب اما نفسي أو مقدمي أو إرشادي، و حيث ينتفي الاثنان يتعين الثالث و هو الوجوب النفسي، و الى هذا اشار بقوله: «لا يقال لا يكاد يكون ايجابه» أي ايجاب الاحتياط «مستتبعا لاستحقاقها» أي لاستحقاق المؤاخذة «على مخالفة التكليف المجهول» لانه انما يكون حيث يكون وجوب الاحتياط مقدميا أو ارشاديا، و قد عرفت عدم امكان ذلك فيتعين ان يكون وجوبا نفسيا، و هو

ص: 305

فإنه يقال: هذا إذا لم يكن إيجابه طريقيا، و إلا فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول، كما هو الحال في غيره من الايجاب و التحريم الطريقيين، ضرورة أنه كما يصح أن يحتج بهما صح أن يحتج به، و يقال: لم أقدمت مع إيجابه؟ و يخرج به عن العقاب بلا بيان و المؤاخذة بلا برهان، كما يخرج بهما (1).

______________________________

مستتبع لاستحقاق العقاب على نفسه لا على التكليف الواقعي، و لذا قال (قدس سره):

«بل على مخالفة نفسه كما هو قضية ايجاب غيره» من الواجبات النفسية، و يكون حينئذ اجنبيا عما هو المهم اثباته.

(1) حاصله: ان وجوب الاحتياط في المقام الذي هو بداعي تنجز الواقع و ايصاله وجوب رابع، غير الوجوب النفسي و المقدمي و الارشادي، و هو المسمى بالوجوب الطريقي، لان المصلحة اذا اقتضت التكليف الواقعي كانت مقتضية لايصاله اما بنفسه او بايجاب الاحتياط، فايجاب الاحتياط من آثار التكليف الواقعي، لانه بداعي ايصاله، و ليس وجوبه مقدميا و لا إرشاديا و لا وجوبا نفسيا منبعثا عن مصلحة في ذات وجوب الاحتياط. نعم يصح ان يكون وجوبا نفسيا لمصلحة في غيره، و قد مر في باب الواجب النفسي ان النفسية لا تلازم كون المصلحة الداعية اليه في ذات الواجب.

و على كل، فهذا وجوب اما في قبال النفسي، او فرد من افراده، و لكنه بداعي المصلحة في غيره، و لذا لا يترتب على مخالفته شي ء غير مخالفة الواقع، و لا يكون العقاب عليه الا عقابا على الواقع، و يصح ان يحتج به المولى على عبده في مخالفته له اذا كان مخالفة للواقع.

و بالجملة: ان ايجاب الاحتياط الطريقي حاله حال التكليف الواقعي، لانه به يصل الواقع لو كان كما يصل بوصوله بنفسه، و به يصح الاحتجاج و هو موجب لاستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول، كما يصح العقاب على مخالفة

ص: 306

و قد انقدح بذلك، أن رفع التكليف المجهول كان منة على الامة، حيث كان له تعالى وضعه بما هو قضيته من إيجاب الاحتياط، فرفعه (1)،

______________________________

التكليف لو كان و اصلا بنفسه، و هذا الامر جار في كل ايجاب و تحريم طريقي، فثبت ان المؤاخذة عليه هي المؤاخذة على التكليف الواقعي، و حينئذ يكون رفعها برفع ايجاب الاحتياط، و الى هذا اشار بقوله: «ضرورة انه كما يصح ان يحتج بهما» أي بالايجاب و التحريم لو كانا و اصلين كذلك «صح ان يحتج به» أي صح ان يحتج بايجاب الاحتياط «و يقال لم اقدمت» على مخالفة التكليف «مع ايجابه» أي مع ايجاب الاحتياط، و يكون ايجاب الاحتياط بيانا «و» لذلك به «يخرج عن العقاب بلا بيان و المؤاخذة بلا برهان كما يخرج بهما» أي كما يخرج بوصول التكليف الايجابي و التحريمي عن العقاب بلا بيان و المؤاخذة بلا برهان.

(1) لا يخفى ان من جملة الاشكالات على هذا الحديث فيما كان المرفوع هي المؤاخذة على التكليف المجهول هو ان الحديث وارد مورد المنة على أمته صلى اللّه عليه و آله و سلّم دون غيرها من الامم، و لا منة في رفع المؤاخذة على التكليف المجهول، لوضوح ان المفروض فيه عدم وصوله و عدم قيام البيان عليه، و العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان، و مع حكم العقل بذلك لا منة في رفع العقوبة على التكليف المجهول.

و الجواب عنه قد ظهر مما مر من انه بعد ان كانت المصلحة مقتضية لإيصاله بايجاب الاحتياط، فالأمر فيه دائر بين جعل الاحتياط إيصالا للتكليف الواقعي، و بين رفع الاحتياط لمصلحة المنة، و به ترتفع المؤاخذة لرفع موضوعها، فلا يكون الرفع في المقام من غير منة بعد ان كانت المصلحة التكليفية تدعو الى ايجاب الاحتياط، و من هذا ظهر وجه الانقداح ايضا، و لذا قال (قدس سره): «و قد انقدح بذلك» أي بما مر من الكلام «ان رفع التكليف المجهول» برفع ايجاب الاحتياط بعد ان كانت مصلحة التكليف تدعو الى ايجابه «كان منة على الامة حيث كان له تعالى وضعه» أي وضع التكليف المجهول و ايصاله و تنجيزه «بما هو قضيته من ايجاب الاحتياط»

ص: 307

فافهم (1).

ثم لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة و لا غيرها من الآثار الشرعية في (ما لا يعلمون) (2)، فإن ما لا يعلم من التكليف مطلقا كان في

______________________________

فان ايجاب الاحتياط وضعا للتكليف الواقعي و إيصالا له و تنجيزا له بنحو من أنحاء الوضع و الايصال و التنجيز، و لما كان له تعالى ذلك بايجاب الاحتياط «فرفعه» كان منه منة على عبادة و انه بينه.

(1) لعله اشارة الى انه رفع بلسان الدليل و هو دفع واقعا كما مر بيانه، او انه رفع للتكليف واقعا باعتبار ثبوته في غير أمة محمد صلى اللّه عليه و آله و سلّم فرفعه عنهم حقيقة، فيكون رفعا في لسان الدليل و رفعا واقعا ايضا.

(2) توضيحه: ان الرفع في غير فقرة (ما لا يعلمون) قد كان في ظاهر الحديث واقعا على نفس الفعل، فان ما اضطر الى ارتكابه و ما اكره عليه و ما لا يطيقه المكلف هو نفس الفعل لا حكم الفعل، و مثلها سائر الفقرات، فان الذي وقع الخطأ و النسيان فيه هو نفس الفعل ايضا، و كذلك الطيرة و الحسد فان الطيرة هي الخوف من نفس الشي ء الذي يتطير منه كنعيب الغراب و امثاله، و الحسد انما هو حب زوال نفس نعمة الغير، و كذلك الوسوسة فانها نفس التفكير فيما يؤثر الوسوسة، فالرفع فيها ايضا قد وقع على نفس الشي ء لا على حكمه، لوضوح انه لا وجه معقول للاضطرار الى نفس الحكم، و لا وجه للإكراه على نفس الحكم، فان معنى الاضطرار الى الشي ء هو الاضطرار الى ايجاد ما لم يوجد، و الحكم في هذه الاشياء قد وجد مضافا الى انه ليس مما يوجده المكلف او لا يوجده بل الموجد له الشارع، فلا وجه لان يكون المكلف ممن اضطر الى ايجاده.

فاتضح مما ذكرنا: ان المراد بالموصول في فقرات الحديث المبارك هو الفعل، و حيث ان الفعل لم يتسلط عليه رفع لوقوعه في الخارج، فلا بد و ان يكون اضافة الرفع اليه باعتبار كون المرفوع غيره، اما خصوص المؤاخذة او جميع الآثار أو الاثر

ص: 308

الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه قابل للرفع و الوضع شرعا، و إن كان في غيره لا بد من تقدير الآثار أو المجاز في إسناد الرفع إليه، فإنه ليس ما اضطروا أو ما استكرهوا ... إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة (1).

______________________________

الظاهر في كل واحدة منها فيختلف حاله بنسبة الفقرات المذكورة، فالمرفوع في ما اضطر اليه بحسب المناسبة هو حرمة شربه أو اكله، و المرفوع في المكره عليه ان كان من المحرمات هي حرمته ايضا، و ان كان من المعاملات هو صحته او لزومه على المكلف، كما لو اكره على البيع او على الطلاق و هكذا في بقية الفقرات، و على كل فإسناد الرفع الى الفعل لا بد و ان يكون اما بنحو المجاز في الاسناد، او بنحو التقدير و تسليط الرفع اما على المؤاخذة أو على جميع الآثار او على الاثر الظاهر لكل واحدة منها.

اما في فقرة (ما لا يعلمون) فان كان المراد بالموصول فيها هو الفعل فحاله حال الفقرات الأخر، من توقف صحة الرفع فيها اما على المجاز في الاسناد او على التقدير، و اما اذا كان المراد منها هو الحكم فلا حاجة الى مجاز و لا الى تقدير لصحة اسناد الرفع اليه حقيقة فانه بنفسه مما يرفع و يوضع، و لذا قال (قدس سره): «ثم لا يخفى عدم الحاجة الى تقدير المؤاخذة» بناء على تصحيح تسلط الرفع بنحو التقدير لا بنحو المجاز في الاسناد بلحاظها، فان المصحح فيها كان هو المجاز في الاسناد لا بد و ان يكون لحاظ المؤاخذة او جميع الآثار أو الاثر الظاهر.

و على كل، فبناء على التقدير لا وجه الى تقدير المؤاخذة «و لا غيرها من الآثار الشرعية» جميعها او الظاهرة منها «في» خصوص «فقرة ما لا يعلمون».

(1) لا يخفى ان لكون (ما لا يعلمون) شاملا للشبهة الحكمية و الشبهة الموضوعية مسالك:

الاول: ان المراد من الموصول في (ما لا يعلمون) هو الفعل لوحدة السياق، لكنه بما هو حرام او واجب لا بعنوانه الاولي بل بما هو واجب أو حرام، فانه لو كان

ص: 309

.....

______________________________

المراد منه هو الفعل بعنوانه الاولي لاختص بالشبهة الموضوعية، لان عدم العلم اللاحق للفعل بعنوانه الاولي هو الجهل به من حيث كونه خمرا أو خلا، فان العنوان الاولي للفعل هو عنوان ذاته و هو الخمرية و الخلية، فاذا كان عدم العلم من ناحية عدم معرفة كونه خلا أو خمرا كان فقرة (ما لا يعلمون) مختصا بالشبهة الموضوعية، لكون السبب في الشك فيها هو عدم العلم بانطباق ما هو الحرام و الحلال عليه، لا كون السبب فيه هو الشك في اصل الحكم بعد معرفة الفعل بعنوانه الذي هو له كما في الشبهة الحكمية، فان التتن بعنوان كونه تتنا معلوم، و لكن الشك فيه من جهة انه هل هو بما هو تتن حرام واقعا او حلال واقعا؟، و لكنه لما كان الحديث واردا مورد المنة، و كما ان المنة في رفع المؤاخذة أو الآثار الآخر في الشك من ناحية الشبهة الموضوعية، كذلك المنة متحققة في رفعها من جهة الشك من حيث الشبهة الحكمية ايضا، و لذلك لا بد لاجل التعميم ان يكون المراد الفعل بما هو حرام أو حلال، و هو عنوان ثانوي للفعل، فان عنوان كونه حلالا او حراما يلحق الفعل بعد عنوانه الاولى، و لما كان الشك في الفعل من جهة كونه حراما او حلالا له سببان:

السبب فيه من جهة عنوانه الاولي و حيثية انطباق ما هو الحرام او الحلال عليه، كالمشكوك فيه من جهة كونه خمرا أو خلا و هي الشبهة الموضوعية، فانه يصدق عليه انه مشكوك فيه من جهة كونه حراما او حلالا، و السبب الثاني للشك فيه من ناحية كونه حراما او حلالا هو الشك فيه من ناحية حكمه الواقعي و انه هل هو حرام واقعا او حلال واقعا؟ كالتتن- مثلا- فانه يصدق عليه ايضا انه مشكوك فيه من ناحية كونه حراما او حلالا، و لذلك اذا اريد من الموصول الفعل لكنه بما هو واجب او حرام كان عاما لكلا الشبهتين.

الثاني: ان يكون المراد من الموصول في فقرة (ما لا يعلمون) هو الفعل ايضا و لكن التعميم من جهة عدم العلم، و ان عدم العلم و الجهل من ناحية الحرمة و الحلية

ص: 310

.....

______________________________

مطلقا، سواء كانتا من ناحية الجهل بالعنوان الاولي، أو من ناحية الجهل بأصل التكليف فيه.

و الفرق بينه و بين الاول ان التعميم و الاطلاق في الاول للشبهتين من ناحية الموصوف و هو الفعل بما هو حرام او حلال، فيكون عدم العلم و صفا للفعل المطلق من ناحية كونه حلالا او حراما، بخلاف الثاني فان الاطلاق و التعميم فيه من ناحية الوصف، و هو عدم العلم المطلق من حيث الحرمة و الحلية الذي يكون السبب فيهما تارة الجهل بالعنوان الاولي، و اخرى الشك في اصل التكليف.

و يرد عليهما: ان كونه واردا مورد المنة لا يقتضي مخالفة الظهور، و المدعي لاختصاص الفقرة بالشبهة الموضوعية يدعي ان الظاهر من (ما لا يعلمون) بعد ان يكون المراد منه الفعل هو الفعل الذي لا يعلم حرمته و حليته من حيث كونه فعلا لا عدم العلم به من ناحية عدم العلم بحكمه، فان الظاهر من (ما لا يعلمون) هو الفعل الذي لا يعلمونه لا الفعل الذي لا يعلمون حكمه.

و بعبارة اخرى: ان الظاهر منه عدم العلم به من ناحية ذاته و كونه فعلا من الافعال المباحة و المحرمة، لا عدم العلم به من ناحية وصفه و هو الشك فيه من ناحية اصل التكليف العارض له، و لذلك كان (ما لا يعلمون) مختصا عنده بالشبهة الموضوعية، و في هذا الرفع بهذا المقدار ايضا منة، غايته انها اخص من المنة العامة للشبهتين.

الثالث: ان يكون المراد من الموصول في الفقرات جميعا ليس هو الفعل و لا الحكم، بل المراد منه هو الشي ء، و الموضوع المتلبس بهذه العناوين الموجودة في الفقرات جميعها، فان المراد من الموصول في ما اضطروا اليه و ما اكرهوا عليه و ما لا يطيقون هو الشي ء الذي صار مضطرا اليه و مكرها عليه و كان مما لا يطاق، و لا وجه لان يراد به خصوص عنوان الفعل، فانه تخصيص لا وجه له بعد ان كان (ما) من المبهمات التي ينبغي ان يشار بها الى اعم المفاهيم و هو الشي ء مثلا، و لا يختص

ص: 311

.....

______________________________

بعنوان من العناوين الخاصة الا لدلالة بالخصوص تدل عليه و المفروض عدمها، و كون منطبق عنوان ما اضطروا اليه و ما اكرهوا عليه و ما لا يطيقون هو الفعل لا يوجب ان يكون المراد به خصوص عنوان الفعل، و حينئذ اذا كان المراد من (ما لا يعلمون) هو الشي ء الذي لا يعلم به كان عاما للشبهتين، فان الشي ء الذي لا يعلم به، تارة يكون هو الفعل بعنوانه الاولي، و اخرى يكون هو الحكم.

و لا يرد عليه ما اورد على الاولين، فانه انما يرد حيث يكون المراد منه هو الفعل فيختص بالشبهة الموضوعية، لان الظاهر من عدم العلم هو عدم العلم بالفعل كما مر بيانه، اما اذا كان المراد به الشي ء- مثلا- فان ظاهر عدم العلم بالشي ء محفوظ سواء كان منطبقه الفعل او الحكم.

الرابع: ما اختاره المصنف من ان المراد بالموصول في الفقرة هو الحكم، و يكون شموله لكلتا الشبهتين واضحا، فان الحكم في الشبهة الموضوعية غير معلوم و في الشبهة الحكمية غير معلوم، لان الاطلاق في الموصول المراد به الحكم يعم باطلاقه التكليف المشكوك فيه من ناحية عنوان الفعل، و التكليف المشكوك فيه من ناحية الشك فيه من أصله، و لذا قال (قدس سره): «فان ما لا يعلم من التكليف مطلقا» سواء «كان» التكليف غير المعلوم «في الشبهة الحكمية او» كان التكليف غير المعلوم في الشبهة «الموضوعية».

و قد ظهر مما مر: انه لا حاجة الى التقدير فيه لانه «بنفسه قابل للرفع و الوضع شرعا و ان كان في غيره لا بد من تقدير الآثار او المجاز في اسناد الرفع اليه» أي و ان كان في غير (ما لا يعلمون) من الفقرات الباقية لا بد اما من المجاز او التقدير بلحاظ خصوص المؤاخذة او جميع الآثار أو الاثر الظاهر.

ثم اشار الى السبب في لزوم احد الامرين من التقدير او المجاز حيث لم يكن المرفوع فيها هو الحكم بقوله: «فانه ليس ما اضطروا أو ما استكرهوا الى آخر التسعة بمرفوع حقيقة» لان المراد من الموصول فيها هو ما لا يصح تسلط الرفع عليه حقيقة،

ص: 312

نعم لو كان المراد من الموصول في (ما لا يعلمون) ما اشتبه حاله و لم يعلم عنوانه، لكان أحد الامرين مما لا بد منه أيضا (1).

ثم لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر في غير واحد غيرها، فلا محيص عن أن يكون المقدر هو الاثر الظاهر في كل منها، أو تمام آثارها التي تقتضي المنة رفعها، كما أن ما يكون بلحاظه الاسناد إليها مجازا، هو هذا، كما لا يخفى.

فالخبر الدال على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي كان في رفعه منة على الامة، كما استشهد الامام عليه السّلام بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق و الصدقة و العتاق (2)، ثم لا يذهب عليك أن المرفوع فيما

______________________________

لوضوح كون الفعل و هو اكل الميتة في المخمصة اضطرارا و في غير المخمصة اكراها لم يرفع، بل هو قد وقع من المضطر اليه و المكره عليه، فلا بد و ان يكون اسناد الرفع اليه في قوله رفع ما اضطروا اليه و ما استكرهوا عليه إما باعتبار المجاز في الاسناد، و ان رفع الحكم في ذلك هو رفع له ادعاء او يكون الرفع مسندا الى المحذوف المقدر، و هو احد الاحتمالات الثلاثة من المؤاخذة، أو جميع الآثار، أو الاثر الظاهر.

(1) حاصله: انه لو قلنا بوحدة السياق و ان المرفوع في (ما لا يعلمون) لا بد ان يكون على نحو المرفوع في الفقرات الأخر، فيكون المرفوع في (ما لا يعلمون) هو الفعل الذي «اشتبه حاله و لم يعلم عنوانه» من ناحية كونه حراما او حلالا «لكان احد الامرين» من المجاز في الاسناد و التقدير «مما لا بد منه» فيما لا يعلمون «ايضا» لان الفعل فيما لا يعلمون مثل فيما اضطروا اليه ليس بمرفوع حقيقة ... و كيف يكون مرفوعا و الحال ان عدم العلم بالفعل من جهة كونه حراما او حلالا متحقق خارجا؟

(2) أي بعد البناء على وحدة السياق و ان الحال في فقرة (ما لا يعلمون) على نحوه في غيرها من الفقرات، و ان يكون المراد به الفعل- مثلا- و لا بد فيه اما من التقدير أو المجاز في الاسناد بلحاظ المقدر، و لكنه لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة في خصوص

ص: 313

.....

______________________________

فقرة (ما لا يعلمون) مع وضوح ان المقدر في غيرها من الفقرات او الذي كان المجاز في الاسناد بلحاظه هو غير المؤاخذة.

و توضيح ذلك: انه بناء على التقدير أو المجاز بلحاظ المقدر، اما ان يكون المقدر خصوص المؤاخذة، أو الاثر الظاهر لكل واحد مما يناسبه، او ان المقدر جميع الآثار، و المختار للمصنف هو الاخير لوجهين اشار اليهما في المتن:

الاول: انه لا وجه لتقدير المؤاخذة في فقرة (ما لا يعلمون) مع ان المقدر في بقية الفقرات غير المؤاخذة، لاقتضاء ورود الحديث: أي حديث الرفع في مورد المنة رفع جميع الآثار، أو لا اقل من رفع الاثر الظاهر لكل بما يناسبه، و لا وجه لان يختص بخصوص رفع المؤاخذة، فان المنة كما تقتضي رفعها تقتضي رفع غيرها مما يكون في رفعه منة من اللّه على الامة.

الثاني: استشهاد الامام على رفع غير المؤاخذة في رفع الآثار المترتبة على الاكراه و عدم الطاقة و ما أخطئوا فيه يدل عليه الخبر المروي في المحاسن بسند صحيح عن ابي الحسن عليه السّلام: (في الرجل يستحلف على اليمين فحلف بالطلاق و العتاق و صدقه ما يملك، أ يلزمه ذلك؟ فقال عليه السّلام: لا، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: وضع عن امتي ما اكرهوا عليه و ما لا يطيقون و ما أخطئوا الخبر)(1).

و توضيح دلالة الخبر ان الامام يسأل عن الحلف بالطلاق و العتاق و صدقه ما يملك حيث يحلف المستحلف فيحلف كاذبا، فهل يلزمه ما حلف عليه فيتحقق طلاق زوجته و عتق عبده و صدقه ما يملكه؟ و لما كان مورد ورود الخبر هو الحلف مكرها لان حلفه لتحليف العشارين له، فهو مكره على الحلف لان يتخلص منهم فيحلف لهم الرجل كاذبا، فيجيب الامام بانه لا يلزم الرجل الحالف كاذبا هذه الامور التي حلف بها، و من الواضح ان لزومها من آثار الحلف الكاذب، و يستشهد الامام

ص: 314


1- 30. ( 1) المحاسن، ص 339( ط. طهران- 1371).
المرفوع في غير ما لا يعلمون

اضطر إليه و غيره، مما أخذ بعنوانه الثانوي، إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الاولي، ضرورة أن الظاهر أن هذه العناوين صارت موجبة للرفع، و الموضوع للاثر مستدع لوضعه، فكيف يكون موجبا لرفعه (1)؟

______________________________

عليه السّلام على عدم لزومها له بالحديث في رفع الاكراه لها، و من الواضح انها من الآثار الوضعية التي المهم فيها لزومها و عدم لزومها، و ليست من التكاليف التي المهم فيها هو رفع المؤاخذة عليها، و من الواضح ايضا انه لا يتوهم احد رفع خصوص هذه الثلاثة: أي الطلاق و العتاق و صدقه ما يملك في مورد الاكراه و عدم الطاقة و الخطأ، فيتعين ان يكون المرفوع جميع الآثار و ان تنزلنا عن جميع الآثار، فلا بد و ان يكون المرفوع هو الاثر الظاهر لكل بما يناسبه لا خصوص المؤاخذة.

و قد اشار الى الوجه الاول بقوله: «التي يقتضي المنة رفعها»، و الى الوجه الثاني اشار بقوله: «فالخبر دل على رفع كل اثر تكليفي» كان المهم فيه هو رفع المؤاخذة «او وضعي» كان المهم فيه رفع غير المؤاخذة و قد «كان في رفعه منة على الامة»، نعم لو اكره او اضطر الى فعل و لم يكن في رفعه منة لم يكن مرفوعا بهذا الحديث، لانه وارد مورد المنة، كما لو اكره على الصلاة مثلا في ما لا يوكل لحمه، فحيث لا بد من اعادة الصلاة لا يكون الحديث شاملا لانه خلاف المنة، و لذا قيده بقوله: و قد «كان في رفعه منة».

(1) توضيحه: ان الشي ء تارة تكون له آثار بعنوانه الاولي كالحرمة المترتبة على شرب الخمر، و الخمر هو العنوان الاولي الذاتي للمائع الخاص المسكر، و اخرى تكون له آثار بواسطة عنوانه الثانوي العارض الطارئ عليه كاعادة الصلاة في الثوب النجس في حال نسيانه، و ثالثة يكون الاثر مترتبا على الشي ء بأي عنوان كان أوليا أو ثانويا كالضمان المترتب على الاتلاف لمال الغير سواء كان في مورد العلم أو الخطأ أو النسيان.

ص: 315

.....

______________________________

و لا يخفى ايضا ان عنوان (ما لا يعلمون) و عنوان (ما اضطروا) و ساير عناوين الفقرات المذكورة هي من العناوين الثانوية الطارئة على الشي ء، لوضوح كون الخمر- مثلا- هي العنوان الاولي المترتب عليه بهذا العنوان حرمة الشرب، و على الخمر بما لها من هذا العنوان يعرض الاضطرار و الاكراه و عدم العلم، فاتضح انها عناوين ثانوية تعرض على الشي ء بما له من العنوان الاولي.

اذا عرفت هذا، تعرف ان هذه العناوين الثانوية التي بواسطة عروضها على الشي ء بعنوانه الاولي هي التي أوجبت رفع الاثر، فلا بد و ان يكون المرفوع بها غير الآثار التي كانت العناوين الثانوية موضوعا لها، بل المرفوع بها الآثار التي كان الموضوع لها هو العنوان الاولي، فان الخمرية- مثلا- المترتبة على الخمر هي المرفوعة بالاضطرار او بالاكراه و بعدم العلم، دون الأثر المترتب على هذه الاشياء بعناوينها الثانوية، فمن نذر إن نسى أو أخطأ فشرب الخمر تصدق بشي ء لا يكون حديث الرفع مقتضيا لرفعه، فان الظاهر منها ان المنظور فيها آثار عنوان ذلك العنوان غير عنوان نفسها، فعنوان (ما اضطروا اليه) لا ينظر الى رفع الاثر المترتب على نفس الاضطرار، و ليس غير العنوان الثانوي العنوان الاولي، فلذلك تكون رافعة لآثار الشي ء الثابتة له بعنوانه الاولي، فلو قلنا بان حديث رفع النسيان دال على رفع أثر الجزء أو الشرط المنسي لا يكون دالا على رفع الاثر المترتب على نفس النسيان، فلا يكون رافعا لإعادة الصلاة الثابتة لمن صلى في النجس نسيانا.

و الحاصل: ان الآثار المترتبة على الشي ء بعنوانه الثانوي معناه كون العنوان الثانوي موجبا لوضع ذلك الاثر، و ان ما كان نفس العنوان الثانوي موجبا لوضعه لا يكون هو ايضا موجبا لرفعه، لاستحالة ان يكون الشي ء الواحد بما هو واحد موجبا لأثرين متناقضين، و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «ثم لا يذهب عليك ان المرفوع فيما اضطر اليه و غيره» كعنوان ما استكرهوا عليه و ما لا يعلمون «مما اخذ بعنوانه الثانوي» كما عرفت من ان هذه العناوين عناوين ثانوية، و على كل،

ص: 316

لا يقال كيف؟ و إيجاب الاحتياط فيما لا يعلم و إيجاب التحفظ في الخطأ و النسيان، يكون أثرا لهذه العناوين بعينها و باقتضاء نفسها (1).

______________________________

ف «انما» المرفوع بها «هو الآثار المترتبة عليه» أي على الشي ء «بعنوانه الاولي»، و اشار الى الوجه في ذلك و هو الذي ذكرناه أخيرا بقوله: «ضرورة ان الظاهر ان هذه العناوين» الثانوية هي التي «صارت موجبة للرفع و» الآثار المترتبة على نفس هذه العناوين الثانوية تكون هذه العناوين الثانوية هي «الموضوع» لثبوت «الاثر» المترتب عليها، و ما هو الموضوع للاثر هو «مستدع لوضعه» أي لوضع الاثر «فكيف يكون» هو «موجبا لرفعه» فانه من تأثير الشي ء الواحد اثرين متناقضين.

(1) توضيحه: ان ما ذكر هو ان المرفوع في هذا الحديث هي آثار العناوين الاولية لا آثار هذه العناوين الثانوية بنفسها، فالمرفوع بما اضطروا اليه اثر الخمر و هو الحرمة لا اثر الاضطرار، و لكن هذا مناف لما بنى عليه الاستدلال في إفادة هذا الحديث للبراءة، و انه يدل على رفع استحقاق العقاب في مخالفة التكليف المجهول، لان صحة الرفع شرعا كان برفع ايجاب الاحتياط في ما لا يعلمون، و برفع ايجاب التحفظ في ما أخطئوا فيه، و برفعه ايضا في مورد النسيان، و الموضوع لايجاب الاحتياط هو عدم العلم، و الموضوع لايجاب التحفظ هو الخطأ و النسيان، فالمرفوع بالحديث هو اثر عدم العلم و اثر الخطأ و النسيان، و هذا مناف لما مر من ان حديث الرفع لا يرفع آثار هذه التسعة و انما يرفع آثار العناوين الاولية، و انه منة منه على هذه الامة المرحومة رفع ايجاب الاحتياط فيما لا يعلم و ايجاب التحفظ في مورد الخطأ و النسيان، و من الواضح ان السبب في الاحتياط في مورد عدم العلم هو نفس عنوان عدم العلم، و السبب في ايجاب التحفظ هو نفس عنوان الخطأ أو النسيان، اذ لا معنى لجعل الاحتياط في مورد العلم، و لا معنى لجعل ايجاب التحفظ في غير الخطا و النسيان، فايجاب الاحتياط و ايجاب التحفظ آثار لنفس هذه العناوين الثانوية و هي المرفوعة بهذا الحديث، و على هذا فتكون دعوى كون المرفوع فيه هي خصوص آثار العناوين

ص: 317

فإنه يقال: بل إنما تكون باقتضاء الواقع في موردها، ضرورة أن الاهتمام به يوجب إيجابهما، لئلا يفوت على المكلف، كما لا يخفى (1).

______________________________

الاولية منافية لنفس مورد الرفع في هذا الحديث، فان المرفوع فيه هي آثار العناوين الثانوية، و إلّا لما تم الاستدلال على البراءة في المقام بهذا الحديث، و الى هذا اشار بقوله: «لا يقال كيف» يكون المرفوع بهذا الحديث هي خصوص الآثار للعناوين الاولية «و» الحال ان «ايجاب الاحتياط فيما لا يعلم و ايجاب التحفظ في» مورد «الخطأ و النسيان يكون اثرا لهذه العناوين» الثانوية «بعينها» لوضوح عدم معنى جعل الاحتياط في مورد العلم، و جعل التحفظ في غير مورد الخطأ و النسيان، و ان من الواضح ان ايجاب الاحتياط و ايجاب التحفظ لو كانا لكانا «باقتضاء نفسها» أي باقتضاء نفس هذه العناوين، و كل ما كان له اقتضاء لشي ء كان ذلك الشي ء من آثاره، لوضوح كون المقتضى من آثار مقتضيه.

(1) حاصل الجواب عنه ما عرفت من ان ايجاب الاحتياط و ايجاب التحفظ من آثار التكليف الواقعي باعتبار مصلحته، فان المصلحة كما تدعو الى التكليف به تدعوا ايضا الى ايصاله و الى التحفظ عليه، لئلا تفوت في مقام عدم العلم بالتكليف و بعروض الخطأ و النسيان الحاصلين غالبا من التساهل. نعم مورد جعل الاحتياط و ايجاب التحفظ هو حال عدم العلم و الخطأ و النسيان، و لكنه ليس من آثارها، و الى هذا اشار بقوله: «فانه يقال» انهما ليسا من آثار هذه العناوين الثانوية «بل انما يكون» ايجاب الاحتياط و ايجاب التحفظ «باقتضاء» من «الواقع» الذي هو التكليف باعتبار مصلحته، و لكن الجعل للاحتياط و للتحفظ يكون «في موردها» أي في مورد عدم العلم و مورد يمكن وقوع الخطا و النسيان فيه.

ثم اشار الى الدليل على انهما من مقتضيات الواقع دون هذه العناوين الثانوية بقوله: «ضرورة ان الاهتمام به» أي بالتكلف لما فيه من المصلحة الملزمة هو الذي

ص: 318

حديث الحجب

و منها: حديث الحجب، و قد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في حديث الرفع (1)، إلا أنه ربما يشكل بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه، لعدم أمر رسله بتبليغه، حيث إنه بدونه لما صح إسناد الحجب إليه تعالى (2).

______________________________

يوجب «ايجابهما» أي ايجاب الاحتياط و ايجاب التحفظ «لئلا يفوت على المكلف».

(1) و هو قوله عليه السّلام: (ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم)(1).

و تقريب الاستدلال بها على نحو ما مرّ في حديث الرفع، و الكلام فيه يمكن ان يأتي من ساير الجهات التي مرّت في حديث الرفع ايضا، عدا وحدة السياق فانه لا سياق في هذا الحديث يقتضي كون الموضوع عن العباد و المرفوع عنهم هو الفعل دون الحكم.

و على كلّ، فالحكم الذي لم يعلم به اما للجهل به من أصله كالتتن المجهول حكمه واقعا كما في الشبهة الحكمية، او للجهل بانطباقه بالفعل على المائع المجهول كونه خمرا أو خلا كما في الشبهة الموضوعية- يصدق عليه انه مما حجب اللّه العلم به عن العباد فهو موضوع عنهم، فالمراد من الموصول و هو ما في قوله عليه السّلام: (ما حجب اللّه علمه) اما الحكم المطلق الشامل للشبهتين، او الفعل المجهول حكمه تارة للجهل به نفسه، و اخرى للجهل بانطباقه و هو شامل ايضا للشبهتين.

و الحاصل: ان كيفية الاستدلال به على نحو ما مرّ في حديث الرفع، و لذا قال:

«و قد انقدح ... الى آخر الجملة».

(2) حاصله: ان الاشكال المختص بهذا الحديث في دلالته على البراءة هو ظهور الحجب المسند اليه تعالى في ان المحجوب هو التكليف الذي منع اللّه الاطلاع عليه،

ص: 319


1- 31. ( 1) التوحيد: ص 413.

.....

______________________________

اما بعدم تبليغه له لانبيائه و اوصيائه وسائط التبليغ، أو انه اطلعهم عليه و منعهم من اظهاره، و من الواضح ان مورد الشك الذي هو المهم من محل الكلام في المقام هو الشك في التكليف المبلغ الذي اريد اظهاره و اطلاع العباد عليه، و لكنه اختفى لإخفاء المخفين له دون التكليف الذي اراد اللّه اخفاءه و حجبه، فيكون لسان هذا الحديث لسان الحديث الوارد عن امير المؤمنين عليه السّلام: (ان اللّه حدّد حدودا فلا تعتدوها و فرض فرائض فلا تعصوها و سكت عن اشياء لم يسكت عنها نسيانا لها فلا تتكلفوها رحمة من اللّه لكم)(1) فان التكاليف التي سكت اللّه عنها ليست هي مورد الكلام في المقام، و مثلها التكاليف التي حجب اللّه العلم عنها فانها ايضا ليست مورد الكلام، بل مورد الكلام التكاليف التي ما سكت عنها و اظهرها و لكنها اختفت باخفاء الظالمين و كتمانهم لها، و الى هذا اشار بقوله: «إلّا انه ربما يشكل» في دلالة هذا الحديث على البراءة فيما هو محل الكلام في المقام «بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف» الذي لم يحجب اللّه العلم عنه و اظهره على لسان مصادر التبليغ و لكنه اختفى لإخفاء الظالمين «بدعوى ظهوره» أي بدعوى ظهور الحديث المزبور «في خصوص» التكليف الذي لم يرد اظهاره و هو «ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه» لمصلحة في اخفائه عنهم، و قد اقتضت تلك المصلحة «لعدم امر رسله بتبليغه».

ثم اشار الى وجه هذا الظهور بقوله: «حيث انه بدونه لما صحّ اسناد الحجب اليه تعالى» أي لما كان الظاهر من هذا الحديث كون الحاجب عن العلم به هو اللّه، فلذلك كان مختصّا بالتكليف الذي لم يرد اظهاره و منع من اطلاع العباد عليه.

و من الواضح: ان التكليف الذي اختفى لإخفاء المخفين له لم يكن السبب في حجب العلم به هو اللّه، بل كان السبب في حجبه هو إخفاء الظالمين، فنسبة الحجب

ص: 320


1- 32. ( 1) نهج البلاغة، الحكم 102.

.....

______________________________

اليه تعالى توجب ظهور الحديث في التكليف الذي لم يرد اظهاره، و ليس مثل هذا التكليف محل الكلام في المقام، بل محل الكلام هو التكليف الذي لم يستند الحجب فيه الى اللّه و كان مستندا الى اخفاء الظالمين، فالحديث بظاهره اجنبي عمّا هو محل البحث.

ثم لا يخفى ان قوله (قدس سره): «ربما» يمكن ان يكون اشارة الى منع هذه الدعوى، و ان اسناد الحجب اليه لا ظهور فيه بلزوم اختصاص الحديث بما هو خارج عن محل الكلام، لانه تعالى هو الذي اليه تنتهي سلسلة العلل و المعلولات، فالتكاليف التي خفيت باخفاء الظالمين لها بسوء باختيارهم و ارادتهم لإخفائها يصح نسبة حجبها اليه تعالى ايضا، لان المفيض للصور بعد تمامية عللها من جانب الممكنات هو اللّه تعالى، فانه هو الذي يتوفى الانفس عند موتها و ان كانت بالقتل ظلما بعد حصول تمام ما هو العلة للموت من القاتل، و مثله الحجب الذي تمت علته من جانب الظالمين يصح نسبته اليه تعالى ايضا.

هذا مضافا الى ان الظاهر من الموصول هو التكليف الذي له حظّه من الوجود اللائق لماهية التكليف، فالمحجوب تكليف موجود اما إنشاء في طريقه الى الفعلية او فعليا ايضا، لان من الواضح ان انشاء التكليف الذي لم يرد اللّه اظهاره اصلا لغو لا يصدر منه، فالتكليف المنشأ هو التكليف الذي يمكن ان يقع في شأن الفعليّة التامة بوصوله تماما، و على هذا فلا يكون المحجوب هو التكليف في مرحلة الاقتضاء و المصلحة، فان وجوده في تلك المرحلة من باب وجود المقتضى بوجود مقتضيه، لا بوجود يخصّه في نظام الوجود، و الظاهر من الحديث ان المحجوب ما له وجود يخصّه بحيث لو لم يحجب لتعلق العلم به بوجوده لا بمصلحته، لان تعلق العلم به في دور مصلحته لا يصحح اطلاق التكليف عليه الّا بنحو من العناية.

إلّا انه مع ذلك كله فان المنصرف من الحديث هو غير التكليف الذي خفي باخفاء الظالمين، فان التكليف الذي خفي باخفاء الظالمين يصدق عليه مما لم يحجب اللّه

ص: 321

حديث الحل

و منها: قوله عليه السّلام: كل شي ء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه .. الحديث، حيث دلّ على حليّة ما لم يعلم حرمته مطلقا و لو كان من جهة عدم الدليل على حرمته (1) و بعدم الفصل

______________________________

علمه عن العباد. و اما انتهاء سلسلة الممكنات اليه لا يمنع من الانصراف الى خصوص ما كان الحجب مستندا اليه تبارك و تعالى، و اما كون انشاء التكليف الذي لا يبلغ الفعلية لغوا فهو غير صحيح، لانه لا يلزم ان يبلغ الى الفعلية في زمان مخصوص، و يكفي ان يبلغ الى الفعلية في عصر الحجة عليه السّلام فيكون من التكاليف المخزونة.

و يحتمل ان يكون قوله «ربما» اشارة الى انه ليس المهم في المقام الكلام في خصوص الشك في الحكم لإخفاء الظالمين، بل مورد البراءة: تارة يكون فقد النص لإخفاء الظالمين، و اخرى يكون اجمال النص، و ثالثة تعارض النصين، و رابعة يكون لعدم وجوده في عصر الحجج (ص) حتى يقع موردا للسؤال و الجواب كالتتن و امثاله. و نسبة الحجب اليه تعالى في الاحتمالات الثلاثة ما عدا الاول ظاهرة.

(1) توضيح دلالة هذه الرواية على البراءة في الشبهة الحكمية: ان الغاية و هي قوله:

(حتى تعرف انه حرام بعينه) هي غاية للمحمول، و هو حلال في قوله: (كل شي ء لك حلال)، فيكون معناها ان كل شي ء بما له من العنوان سواء كان غير حرام واقعا او حراما واقعا هو فعلا حلال حتى تعرف انه حرام، فالمستفاد منها جعل حلية ظاهرية الى زمان العلم بالواقع بما هو عليه من عدم الحرمة او الحرمة الواقعية.

و يحتمل ان تكون الغاية غاية للموضوع و هو الشي ء، فيكون تقدير الرواية: كل شي ء حتى تعرف انه حرام بعينه لك حلال.

و قد يقال: لا ينبغي ان تكون الغاية غاية للموضوع و هو الشي ء، لان كون الغاية قيدا يدل على انتهاء أمد المقيّد بها، و اذا كان الموضوع الذي هو الشي ء هو المقيّد بها فمعناه انتهاء امده الى زمان معرفة انه حرام، و انتهاء أمد المقيّد اما بانتهاء امد ذاته أو بانتهاء امد وصفه، و لا معنى لانتهاء امد ذاته أو بما له من عنوانه الذاتي له، لان

ص: 322

.....

______________________________

انتهاء امد ذاته إما بانتهاء وجوده او بانتهاء عنوانه الذاتي له، و من الواضح ان المائع المشكوك و التتن المشكوك حكمه لا ينتهي امد وجوده و لا امد خمريته او تتنيّته بمعرفة انه حرام، فلا بد و ان يكون الانتهاء فيه بانتهاء امده بوصفه، و اذا كان المراد انتهاءه بوصفه فهو يرجع الى كونه قيدا للمحمول لا للموضوع، و على كل فالغاية قيد و غاية للمحمول في الرواية و هي الحليّة، و لكن الكلام في المستفاد منها.

و يظهر من المصنف هنا استفادة دلالتها على البراءة في الشبهة الحكمية و الموضوعيّة، و سيأتي منه في الاستصحاب استفادة الاستصحاب منها، و يأتي بيان ذلك في مقامه ان شاء اللّه تعالى، و اما استفادة دلالتها على الشبهة الحكمية الذي هو المهم المبحوث عنه في المقام هو ان المراد من الشي ء الذي قد جعلت الحلية في ظرف عدم حصول الغاية هو الشي ء الذي لم يعلم حرمته بدلالة الغاية على ذلك، و هي قوله: (حتى تعرف انه حرام بعينه)، فان قوله: (حتى تعرف انه حرام) يدل على ان الشي ء الذي هو حلال هو الذي لم يعرف انه حرام، و تستمر حليّته الى ان يعرف انه حرام، و بضميمة ان لهذا اطلاقا يشمل عدم العلم بالحرمة فيما كان عدم العلم بها لاشتباه ما هو حرام بما هو حلال، بان يكون هناك حرام و حلال و لم يعلم حال هذا المشكوك المشتبه انه من الحرام او الحلال و هو الشبهة المصداقية، و ما كان عدم العلم بالحرمة لعدم الاحاطة بواقعية الشي ء و انه هل هو حرام واقعا او حلال واقعا و هي الشبهة الحكمية، فاطلاق عدم العلم من كلتا هاتين الجهتين يوجب شمول الرواية للشبهتين الموضوعيّة و الحكميّة، و الى هذا اشار بقوله: «حيث دلّ» قوله عليه السّلام:

كل شي ء حلال «على حليّة ما لم يعلم حرمته مطلقا و لو كان» عدم العلم «من جهة عدم الدليل على حرمته» الذي هو منشأ الشك في الشبهة الحكمية، كما ان منشأ الشك في الشبهة المصداقية هو اشتباه ما هو حرام بما هو حلال كما مرّ بيانه.

ص: 323

قطعا بين إباحته و عدم وجوب الاحتياط فيه و بين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية، يتم المطلوب مع إمكان أن يقال:

ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته، فهو حلال (1)،

______________________________

(1) هذا جواب سؤال في المقام، و هو انه لو سلّمنا دلالة الرواية على الشبهة الحكمية، و لكنها انما تدل على الشبهة الحكمية التحريمية: أي التي كان الشك فيها من جهة كون الشي ء حلالا أو حراما، و لا دلالة للرواية على الشبهة الحكمية الوجوبية التي كان الشك فيها من جهة كون الشي ء حلالا أو واجبا، فتكون الرواية دالة على بعض ما هو المهمّ في المقام ... فاشار الى الجواب عنه، و قد اجاب بجوابين:

الاول: عدم الفصل بين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية، و بين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبيّة، فاذا وجد الدليل على عدم الاحتياط في الشبهة التحريمية كان دليلا ايضا على عدم الاحتياط في الشبهة الوجوبية، لما عرفت من عدم الفصل بينهما، و بقوله: «قطعا» يشير الى انه قول بعدم الفصل، لا انه من عدم القول بالفصل، و قد اشار الى هذا الجواب بقوله: «و بعدم الفصل قطعا بين اباحته» أي اباحة مشكوك الحرمة «و عدم وجوب الاحتياط فيه» أي في مشكوك الحرمة و الحليّة «و بين عدم الاحتياط في الشبهة الوجوبية» المشكوك فيها وجوب الشي ء و اباحته أي عدم وجوبه «يتم المطلوب» أي بعدم الفصل بين الشبهتين التحريمية و الوجوبية يتم المطلوب.

الجواب الثاني: ما أشار اليه بقوله: «مع امكان ... الى آخره» و حاصله: ان نفس هذه الرواية الدالة على الحلية في الشبهة التحريمية تدل ايضا على الحليّة في الشبهة الوجوبية، لان ما احتمل وجوبه فلا بد و ان يكون تركه محتمل الحرمة ايضا، لوضوح كون ترك الواجب حراما، فكل شي ء قد احتمل وجوب فعله فقد احتمل ايضا حرمة تركه، فالرواية الدالة على الترخيص في محتمل الحرمة تشمل ترك الواجب لانه محتمل الحرمة، و لازم جعل الترخيص لتركه جعل الترخيص لفعله

ص: 324

تأمل (1).

______________________________

ايضا، لان معنى جعل الترخيص هو ارخاء العنان فعلا و تركا، فجعل الترخيص في ترك الواجب لازمه عدم لزوم فعله.

فالحاصل: ان شمول الرواية لترك الواجب الذي هو محتمل الحرمة لازمه عدم لزوم فعل ما احتمل وجوبه، و كونه مباحا من ناحية لزوم الفعل المحتمل لزومه و وجوبه، و ذلك فما دلّ على الحليّة في الحرام المشكوك يدل على الحليّة ايضا في الوجوب المشكوك، و هذا هو مراده من قوله: «مع امكان ان يقال» ان ما دل على الحلية في الفعل المشكوك و حرمته يدل على الحلية في المشكوك وجوبه، لان «ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته فهو حلال».

(1) يمكن ان يكون أمره بالتأمل اشارة الى الخدشة في جوابه الثاني، من دلالة الاباحة في مشكوك الحرمة على الاباحة في مشكوك الوجوب، لان ترك الواجب حرام لما مرّ غير مرة من عدم انحلال التكليف الى تكليفين، فان الحرمة التي هي في قبال الوجوب هي ما كانت عن المفسدة الملزمة، لا ما كانت عن ترك المصلحة الملزمة، فترك الواجب حرام لانه ترك المصلحة الملزمة لا لمفسدة في نفس ترك الفعل، و مثله ترك الحرام فانه واجب لانه ترك المفسدة الملزمة لا لان في الترك مصلحة ملزمة وراء مفسدة الفعل، فلا يكون ما دلّ على الحلّ في الشبهة التحريمية شاملا لترك الواجب، لعدم الشك من ناحية المفسدة الملزمة فيه، بل من ناحية ترك المصلحة الملزمة.

و يمكن ان يكون اشارة الى ما ذكره من القول بعدم الفصل، فان القول بعدم الفصل الذي اشار اليه هو عدم الفصل بين القول بالبراءة في الشبهة التحريمية و الشبهة الوجوبية: أي ان كل من قال بالبراءة في مشكوك الحرمة يقول بها في مشكوك الوجوب، و مرجع هذا الى دعوى قيام الاجماع على التلازم بين القول بالاباحة في الشبهة التحريمية و الاباحة في الشبهة الوجوبية، فيكون الدليل الدال على الحليّة في

ص: 325

.....

______________________________

الشبهة التحريمية دليلا عليها في الشبهة الوجوبيّة، لان الدليل على الملزوم دليل على اللازم.

و لكنه لا يخفى ان الاجماع المدعى ان قام على ملازمة واقعية بين القول بالحليّة في الشبهة التحريمية و القول بها في الشبهة الوجوبية كان موجبا لان يكون الدليل على حليّة الشبهة التحريمية دليلا على الشبهة الوجوبية، و اما اذا كان الاجماع المدعى و القول بعدم الفصل انما هو لقيام الدليل الخاص او العام على حليّة الشبهتين عند من يقول بالحلية في الشبهة التحريمية، فلا يكون الدليل في الشبهة التحريمية دليلا في الشبهة الوجوبية، لانه ليس هناك تلازم بين الشبهتين ليكون الدليل على الملزوم دليلا على اللازم.

و يمكن ان يكون اشارة الى اصل دعوى دلالة الرواية على الشبهة الحكميّة حتى التحريمية فضلا عن الوجوبية، لانه قد ورد بلسان هذه الرواية روايات اخرى صريحة في الشبهة الموضوعيّة صدرا و ذيلا و موردا، كمثل ما رواه في الكافي عن عبد اللّه بن سليمان عن ابي جعفر عليه السّلام بعد السؤال منه عن الجبن، (فقال عليه السّلام ساخبرك عن الجبن و غيره، كل ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه)(1) فان صدر هذه الرواية مما يدل على الاختصاص بالشبهة الموضوعية، لان قوله: (فيه حلال و حرام) يدل على ان الشي ء فيه حرام و حلال، فالمشكوك منقسم الى الحرام و الحلال بالفعل، و انقسامه بالفعل الى الحرام و الحلال لازمه كون الشك فيه ناشئا من عدم العلم بانطباق ما هو حرام أو ما هو حلال على المشكوك، فهو صريح في الشك في الانطباق، و من الواضح ان ما كان الشك فيه من جهة الانطباق هو الشبهة الموضوعية دون الشبهة الحكمية، لان الشبهة الحكمية هي التي كان الشك فيها في اصل الحكم واقعا و انه الحلّ او الحرمة. و اما ذيلها فلقوله: (بعينه) و سيأتي بيانه.

ص: 326


1- 33. ( 1) الكافي ج 6: ص 339.

.....

______________________________

و اما موردا فلان موردها الجبن المشكوك كونه من الميتة او من غيرها، و هو ظاهر في كون الشك فيه من الشك في الشبهة الموضوعيّة، و مثل هذه الرواية روايات اخرى صريحة ايضا في الاختصاص بالشبهة الموضوعيّة.

و اما الرواية التي ذكرها المصنف و هي الرواية الوحيدة التي ليس في صدرها تقسيم الى الحلال و الحرام فهي ما رواه في الكافي بسنده عن مسعدة بن صدقة عن ابي عبد اللّه عليه السّلام: (قال سمعته عليه السّلام يقول: كل شي ء هو لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون قد اشتريته و هو سرقة، أو المملوك عندك و لعله حر قد باع نفسه او خدع فبيع أو قهر او امرأة تحتك و هي اختك او رضيعتك، و الاشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك او تقوم به البينة) و هذه الرواية و ان لم يكن في صدرها تقسيم الى الحرام و الحلال، لكن قوله (بعينه) فيه ظهور في ان الشك قد نشأ من ناحية كون المشكوك هل هو عين الحرام او عين الحلال؟ أي ان سبب الشك هو عدم العلم بكونه عينا و مصداقا للحرام و الحلال، لا من ناحية الشك في اصل الحرمة او الحلية واقعا، لانه لو كان الشك من هذه الجهة لما كان لقوله: (بعينه) خصوصية، و لكان امد الحليّة ينتهي بمحض معرفة انه حلال او حرام واقعا، و لا مزية و لا خصوصية للفظة (بعينه)، بل تكون فضلة في الكلام، و مهما امكن ان يكون اللفظ قد ذكر لخصوصية فيه اولى من ان يكون قد ذكر لا للخصوصية، و كون لفظة (بعينه) لها خصوصية في الذكر يقتضي ان يكون الشك ناشئا من حيث العينية لما هو الحرام و الحلال المعلومين، و لازم ذلك ظهور الرواية في الشبهة الموضوعية دون الحكمية.

مضافا الى قوله: (مثل الثوب ...) الى آخر الامثلة التي كلها من مورد الشبهة الموضوعيّة، مضافا الى ذيلها و هو قوله عليه السّلام: (و الاشياء كلها على هذا حتى تستبين او تقوم به البينة) فان مورد قيام البينة هي الشبهة الموضوعية دون الحكمية، لانها مما

ص: 327

حديث السعة

و منها: قوله عليه السّلام الناس في سعة ما لا يعلمون فهم في سعة ما لم يعلم، أو ما دام لم يعلم وجوبه أو حرمته (1)، و من الواضح أنه لو كان

______________________________

يقوم لها بيان الشارع دون البيّنة، و على كل فلم يوجد في روايات قاعدة الحلّ رواية مطلقة مجردة عن قرينة تقتضي اختصاصها بالشبهة الموضوعيّة، و اللّه العالم.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 6 ؛ ص328

1) لا بد من بيان معنى هذه الرواية بحسب ما تقتضيه القواعد العربية قبل الكلام من ناحية دلالتها على البراءة، و حاصل معناها ان الناس داخلون في سعة ما لا يعلمونه، بان تكون لفظه (سعة) مضافة الى لفظة (ما) التي هي اما موصولة او موصوفة، و على الاول فالمعنى الناس في سعة الذي لا يعلمونه، و على الثاني فالمعنى الناس في سعة الشي ء غير المعلوم، و لا بد من هذه الاضافة لان عدم اضافة لفظ السعة يوجب كون جملة ما لا يعلمون اجنبية، و تكون جملة ابتدائية من غير خبر حيث تكون لفظة (ما) اما موصولة او موصوفة.

نعم، لو كانت لفظة (ما) مصدرية لامكن عدم اضافة لفظة السعة، الّا ان كونها مصدرية غير صحيح، لان (ما) المصدرية الداخلة على الفعل المضارع لا بد و ان يكون مساوقا للفعل الماضي، و ذلك حيث تدخل عليه (لم) دون (لا) و المفروض كون لفظ الرواية ما لا يعلمون لا ما لم يعلموا، فالظاهر هو اضافة لفظ السعة الى (ما) التي هي اما موصولة او موصوفة.

فالمتحصّل من الرواية هو كون الناس مشمولين لسعة ما لا يعلمون، و لا شبهة في شمولها للشبهة الحكميّة، لاطلاق ما لا يعلمون الشامل لعدم العلم لعدم البيان، كما انه شامل لعدم العلم من جهة عدم العلم بالانطباق، و لا اشكال في شمولها للشبهة التحريمية و الوجوبية، لوضوح اطلاق عدم العلم من حيث الجهتين ايضا.

و حاصلها بما لها من الاطلاق: هو ان الناس لا ضيق عليهم من جهة عدم العلم سواء كان الذي لا يعلمونه الحكم الكلي المشكوك ثبوته واقعا، أو كان الذي

ص: 328


1- 34. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة أصلا، فيعارض به ما دل على وجوبه، كما لا يخفى (1).

______________________________

لا يعلمون هو عدم العلم بانطباقه، و سواء كان الحكم الذي لا يعلمونه حكما تحريميا او وجوبيا، و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «فهم في سعة ما لم يعلم».

و لا يخفى ان المصنف في عبارته جعل بدل لفظة (لا) لفظة (لم) فصح ان تكون (ما) مصدرية ايضا، و لذا فمراده من قوله فهم في سعة ما لم يعلم هو كون (ما) اما موصولة أو موصوفة لإشارته الى كونها مصدرية بقوله: «او ما دام لم يعلم»، و اشار الى الاطلاق فيها الشامل للشبهة الحكمية الوجوبية و التحريمية بقوله: «وجوبه او حرمته».

(1) لما كان لسان هذه الرواية لسان السعة من جهة التكليف غير المعلوم، و أدلة الاحتياط الآتية- بناء على دلالتها على وجوب الاحتياط- لسانها لسان الضيق من جهة التكليف المجهول كان المهمّ في هذه الرواية هو الكلام من ناحية معارضتها لأدلة الاحتياط.

و توضيحه: انه اذا كان المراد من مما لم يعلم هو التكليف المجهول و كان لسان ادلة الاحتياط اثبات الوجوب الطريقي لاجل المحافظة على الواقع كان بين الدليلين تعارض، لان لسان دليل السعة هو كون الواقع ليس فيه ضيق حال عدم العلم به، فلا ضيق على الناس من جهته و انه ما لم يعلم الناس به هم في سعة من جانب فعله و تركه، فاحتماله لا يوجب ضيقا و ان كان احتمال تكليف لزومي، و لسان ادلة الاحتياط هو كون احتمال التكليف اللزومي في حال عدم العلم به موجبا للاحتياط و الضيق من جهته، فالناس ليسوا في سعة من جانب فعله و تركه.

و تعارض هذين الدليلين حيث يكون لسانهما ذلك واضحا، فان الاول مفاده كون الناس في سعة من ناحية التكليف المحتمل، و مفاد الثاني كون الناس في ضيق من ناحية التكليف المحتمل، و هما متعارضان لا ورود لأحدهما على الآخر، لان

ص: 329

لا يقال: قد علم به وجوب الاحتياط (1).

______________________________

الموضوع في كل منهما هو احتمال التكليف حال الجهل به، لكن احدهما يدل على السعة من جانبه و الآخر يدل على الضيق من جانبه، هذا اذا كان الموضوع في دليل البراءة هو التكليف المحتمل، و اما اذا كان الموضوع فيها هو التكليف الذي لم تقم حجة على تنجيزه، فدليل الاحتياط و ان كان طريقيا يكون واردا عليه، لان الموضوع في البراءة اذا كان هو التكليف غير المنجّز يكون دليل الاحتياط رافعا لموضوعه، لانه منجّز للواقع و حجة عليه فيرتفع به الموضوع في البراءة حقيقة، لان موضوعه التكليف غير المنجّز و الذي لم تقم حجة عليه منجّزة له، و من الواضح ان ادلة الاحتياط منجّزة للواقع و حجة عليه.

و لكن المصنف لما كان يرى ان الموضوع فيهما هو التكليف المجهول المحتمل على السواء فيهما، و ليس الموضوع في البراءة هو التكليف غير المنجّز بعدم قيام حجة عليه اصلا، لذا اشار الى كونهما متعارضين و لا تكون ادلة الاحتياط واردة على دليل السعة، و لذلك اشار الى تعارضهما بقوله: «و من الواضح انه لو كان الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة اصلا» حيث يكون الموضوع في البراءة ما أشار اليه في عبارته السابقة و هو ما لم يعلم وجوبه او حرمته، و ليس الموضوع فيها التكليف غير المنجّز، و على هذا «فيعارض به» أي فيعارض بما دلّ على السعة و عدم الضيق «ما دل على وجوبه» أي وجوب الاحتياط، لانها تدل على ان الناس ليسوا في سعة من ناحية التكليف المجهول.

(1) حاصله: ان دليل السعة محصله ان الناس في سعة حيث لم يعلموا، اما اذا علموا فليسوا في سعة، و ادلة الاحتياط توجب العلم بوجوب الاحتياط، فتكون واردة على دليل السعة و لا معارضة بينهما، لان دليل السعة موضوعه عدم العلم و ادلة الاحتياط توجب العلم، فيرتفع به موضوع دليل السعة حقيقة، و كل دليل رفع موضوع الآخر حقيقة يكون واردا عليه لا معارضا له، و الى هذا اشار بقوله: «لا

ص: 330

فإنه يقال: لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد (1)، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله (2)؟ نعم لو كان الاحتياط واجبا نفسيا كان وقوعهم

______________________________

يقال قد علم به» أي قد علم بدليل الاحتياط «وجوب الاحتياط» فيكون واردا على دليل السعة لتقيّد موضوعه بعدم العلم.

(1) بيانه ما عرفت من ان موضوع دليل السعة هو عدم العلم بالتكليف لا عدم العلم بالمنجّز له، و دليل الاحتياط- بناء على الطريقية- منجّز للتكليف الواقعي لا انه موجب للعلم به، فان الواقع بعد على جهالته و انما كان دليل الاحتياط منجّزا له، فدليل السعة و دليل الاحتياط متعارضان، لان المستفاد من دليل السعة عدم تنجز الحكم الواقعي في حال الجهل به، و المستفاد من دليل الاحتياط تنجز الواقع به، و الواقع بعد باق على جهالته و لم يعلم به حتى يرتفع موضوع دليل السعة به، و لذا قال (قدس سره): «لم يعلم الوجوب و الحرمة بعد» أي عند قيام دليل الاحتياط لم يعلم الوجوب و الحرمة الواقعيين به، و هما باقيان بعد على الجهالة فلا يرتفع بدليل الاحتياط موضوع دليل السعة ليكون واردا عليه.

(2) توضيحه: ان دليل السعة بعد ان كان موضوعه هو التكليف المجهول و عدم العلم بالواقع، فهو يدل على انه ما لم يعلم التكليف فالناس في سعة من جانبه، و انما يكونون في ضيق من جهته فيما اذا علم به، و قد عرفت ان دليل الاحتياط لا يوجب العلم بالواقع و انما ينجّزه و الواقع بعد على الجهالة و ان قام دليل الاحتياط على تنجزه، ففي حال قيام دليل الاحتياط موضوع دليل السعة موجود و هو عدم العلم بالواقع، و مع قيام موضوعه فمحصله نفي الضيق من جانب الواقع، فلا ينبغي ان يقع الناس في ضيق الاحتياط من اجل التكليف الواقعي المجهول مع قيام الاحتياط الطريقي عليه، لان دليل السعة قد نفى الضيق من جانبه حيث يكون مجهولا و يكون المتحصّل من الدليلين هو تعارضهما، لان دليل السعة ينفي الضيق من جانب الواقع و دليل الاحتياط يقتضي الضيق بالوقوع في كلفة امتثال الواقع.

ص: 331

في ضيقه بعد العلم بوجوبه (1)، لكنه عرفت أن وجوبه كان طريقيا، لاجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا (2)،

______________________________

و بعبارة اخرى: ان الناس لا يقعون في ضيق الواقع بحيث يرتفع موضوع دليل السعة إلّا اذا علم به، اما مع عدم العلم به فلا يقع الناس في ضيق الواقع و ان قام دليل الاحتياط الطريقي على تنجزه، فان غاية ما يقتضيه هو الضيق من جانب الواقع لا العلم به حتى يرتفع به موضوع دليل السعة، و لذا قال (قدس سره): «فكيف يقع في ضيق الاحتياط من اجله» أي من اجل الوجوب او الحرمة مع عدم العلم بالوجوب او الحرمة، و دليل السعة ينفي الضيق ما دام لم يعلم بالوجوب او الحرمة، و غاية ذلك هو وقوع المعارضة بينهما كما عرفت.

(1) حاصله: ان ما مر من وقوع المعارضة بين دليل السعة و دليل الاحتياط مبني على ان لسان دليل الاحتياط هو الوجوب الطريقي لداعي تنجيز الواقع، و اما لو كان المستفاد من دليل الاحتياط هو الوجوب النفسي لمصلحة فيه نفسه لا لداعي مصلحة الواقع و تنجيزه بالاحتياط، فان دليل الاحتياط يكون واردا على دليل السعة، لان الاحتياط يكون تكليفا واقعيا معلوما فهو كسائر التكاليف المعلومة، و مع العلم به يرتفع موضوع السعة لما مر من ان موضوعه عدم العلم، فلا بد من وقوع الناس في ضيق دليل الاحتياط لحصول العلم بالتكليف به، لفرض كون المستفاد من دليل الاحتياط هو الوجوب النفسي، و الى هذا اشار بقوله: «نعم لو كان الاحتياط واجبا نفسيا كان» واردا على دليل السعة لا معارضا، لوضوح «وقوعهم في ضيقه» أي في ضيق الاحتياط «بعد» قيام الدليل عليه الذي حصل منه «العلم بوجوبه» أي بوجوب الاحتياط.

(2) حاصله: ان الظاهر من لسان دليل الاحتياط هو الوجوب الطريقي و انه بداعي تنجز الواقع لا ان وجوبه نفسي، كما هو الظاهر جليا من ادلة الاحتياط الآتية المعللة لوجوب الاحتياط بأنه مما يأمن به المكلف من الوقوع في هلكة مخالفة الواقع، و لو كان

ص: 332

فافهم (1).

مرسلة الصدوق

و منها: قوله عليه السّلام: (كل شي ء مطلق حتى يرد فيه نهي) و دلالته يتوقف على عدم صدق الورود إلا بعد العلم أو ما بحكمه، بالنهي عنه و إن صدر عن الشارع و وصل غير واحد (2)، مع أنه ممنوع لوضوح صدقه

______________________________

وجوبه نفسيا لما كان لهذا التعليل موقع، لان الاحتياط انما وجب لمصلحة في نفسه لا لان يأمن به من الوقوع في هلكة مخالفة الواقع، و لذا قال (قدس سره): «لكنه قد عرفت ان وجوبه» أي وجوب الاحتياط «كان طريقيا لاجل ان لا يقعوا في مخالفة الواجب و الحرام احيانا» و ذلك فيما اذا كان الحكم واقعا هو الوجوب او الحرمة.

(1) لعله اشارة الى انه بناء على استفادة الوجوب النفسي من ادلة الاحتياط يكون واردا على دليل السعة، لكنه من ناحية العلم بنفس وجوب الاحتياط النفسي، و محل الكلام هو وروده على دليل السعة من ناحية التكليف الواقعي، و وروده على دليل السعة من ناحية وجوبه النفسي لا ربط له بما هو المدعى من وروده على دليل السعة من ناحية التكليف الواقعي المجهول، فالناس انما وقعوا في ضيق وجوب الاحتياط النفسي و لم يقعوا في ضيق التكليف المجهول، و لا يعقل ان يكون وجوب الاحتياط النفسي منجزا للواقع لو كان للزوم اجتماع منجزين على منجز واحد الراجع الى اجتماع تكليفين فعليين منجزين على شي ء واحد، لان الواقع يكون منجزا بالوجوب الاحتياطي النفسي، و يكون منجزا بوجوبه الواقعي الذي فرض كون الاحتياط منجزا له، فمع كون الاحتياط واجبا نفسيا لا بد من بقاء الواقع على حاله، و ان كان لا فائدة في شمول دليل السعة له لفرض وقوع الناس في ضيق امتثاله من ناحية وجوب الاحتياط النفسي.

(2) توضيح الكلام في هذه الرواية الواردة عن الصادق عليه السّلام و هي قوله: (كل شي ء مطلق حتى يرد فيه نهي)(1) بحيث تكون دليلا على البراءة تتوقف على كون

ص: 333


1- 35. ( 1) الفقيه، ج 1، ص 317.

.....

______________________________

المراد من الورود فيها هو الوصول، و ان يكون الظاهر من قوله: (مطلق) هو الاباحة الشرعيّة، فيكون المتحصّل منها بعد تمامية هذين الامرين: ان كل شي ء هو مباح بالاباحة الشرعية الى ان يصل فيه النهي، و من الواضح دلالتها حينئذ على البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية.

اما اذا كان المراد من الورود هو صدور النهي من الشارع فلا تكون الرواية دليلا على الاباحة الشرعية في الشبهة الحكمية التحريمية، بل يكون المراد منها هو الاباحة بمعنى اللاحرج المقابلة للحظر، فيكون المتحصّل منها هو كون الاشياء باقية على اللاحرجية و عدم الحظر الى ان يصدر من الشارع فيها نهي، و لا تكون نافعة في المقام، لان المفروض فيه هو كون الشك في التحريم الصادر من الشارع لو كان، و انما اختفى لإخفاء الظالمين، فلا يكون ما دلّ على اللاحرجية من حيث الشك في أصل الصدور دليلا على الاباحة الشرعية المجعولة في مقام الشك في الصادر غير الواصل لإخفاء الظالمين.

و توضيح ما ذكرنا يتوقف على بيان امرين: الاول: ان الاباحة لها معنيان:

الاول: الاباحة قبل صدور التكاليف المقابلة لاصالة الحظر و هي التي بمعنى اللاحرجية، و هي بهذا المعنى ليست مجعولا شرعيا، لان المفروض فيها كونها قبل صدور التكاليف، و المجعول الشرعي من التكاليف الشرعية.

المعنى الثاني: هي الاباحة الشرعيّة، و هي الاباحة المجعولة من قبل الشارع في مقام الشك، و هي تارة تكون لا اقتضائية و هي إباحة واقعية ناشئة من عدم وجود ما يقتضي طلب الفعل، و عدم ما يقتضي طلب الترك، و هي حكم واقعي لا ظاهري.

و اخرى اباحة ظاهريّة ناشئة من الاقتضاء لمصلحة اقتضتها، كالمنّة على الأمّة دعت الشارع لجعلها في مقام الشك، و هي حكم ظاهري.

و من الواضح ان الورود اذا كان بمعنى الصدور لا يعقل ان يكون غاية للاباحة الشرعية الواقعيّة لفرض كونها ناشئة عن عدم الاقتضاء للنهي، فجعل ورود النهي

ص: 334

.....

______________________________

غاية لها خلف، لان النهي لا يكون إلّا لما فيه اقتضاء النهي، و لا غاية للاباحة الظاهرية لان الاباحة الظاهرية لا بد و ان يكون غايتها هو العلم بالحكم لا صدور الحكم واقعا، فتعيّن ان يكون المراد من الاطلاق هو الاباحة اللاحرجية المقابلة للحظر، لا الاباحة الشرعية الواقعية و لا الاباحة الشرعية الظاهرية.

الثاني: ان الورود يستعمل تارة بمعنى الصدور و هو ورود الشي ء في نفسه، و يصح قطعا ان يقال للحكم الصادر من الشارع انه حكم ورد من الشارع، و برهانه انه يصح أن يقال ان الحكم ورد من الشارع و اختفى.

و اخرى يستعمل بمعنى الوصول و هو ورود الشي ء على الشي ء، كقوله تعالى وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ 36] و بهذا المعنى يقال ورد الحكم على المكلّف: أي وصل اليه، و هذا ما ذكروه في معنى الورود.

و الذي اظنه ان الورود ليس بمشترك لفظي في هذين المعنيين، بل هو موضوع للبلوغ و الوصول، و لكن يراد تارة من وصول الحكم بلوغه الى تحققه و خروجه من العدم الى الوجود، و لما كان الحكم مما لا بد له من المتعلق فيكون وصوله الى متعلقه مما به يتم وجوده و تحققه، و بهذا المعنى يكون الوصول مساوقا للصدور حيث كان المتعلق بالنسبة الى الحكم كالمحل بالنسبة الى الحال صار الورود يتعدى اليه بفي، فيقال ورد في هذا الشي ء حكم من نهي أو امر، و على كل فالمراد بالورود حينئذ وصول الحكم الى متعلقه، و لذلك كان الوصول بهذا المعنى مساوقا للصدور.

و اخرى يكون المراد من الورود وصول الشي ء الى الشي ء، و بهذا المعنى يقال ورد الحكم على المكلّفين، و كأنّه اخذ ايضا في معنى الورود الذي يراد منه وصول الشي ء الى الشي ء ما يساوق الاستعلاء، و لذلك كان يتعدى بعلى، فيقال ورد الحكم على المكلف، و يقال ورد علينا ضيوف، و يقال وردنا على البلد الفلاني، و ربما

ص: 335

.....

______________________________

لا يلاحظ فيه هذا المعنى، و يراد منه محض وصول الشي ء للشي ء، فيقال وردنا البلد الفلاني، و بهذا اللحاظ جاء قوله تعالى: وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ و لعله لما كان موسى عليه السّلام في ذلك الوقت لم يكن نبيا قد كلمه اللّه و كان شعيب هو النبي الحال في مدين ناسب ان لا يكون لورود موسى استعلاء على المحل الذي فيه نبي مرسل، مع ان موسى في ذلك الحين لم يكن بمرسل و لم يكلمه اللّه بعد برسالته، فلذلك لم يلحظ ما في الورود من الاستعلاء، و ان يكون الغرض منه محض وصوله الى مدين.

و على كل، فقد اتضح من جميع ما ذكرنا انه اذا اريد من الورود في هذه الرواية ما يساوق الصدور فلا يكون غاية الا للاطلاق الذي هو بمعنى الاباحة اللاحرجيّة المقابلة لاصالة الحظر، و على هذا فتكون الرواية اذا اريد منها ذلك غير مرتبطة بما هو المهم المبحوث منه في المقام و هو جعل الاباحة الشرعية للشي ء المشكوك حكمه لإخفاء المخفين، و اذا اريد من الورود الوصول الى المكلفين صحّ ان يكون غاية للاطلاق الذي هو بمعنى الاباحة الشرعية، و لا يخفى انه يتعيّن ايضا ان تكون الاباحة هي الاباحة الظاهرية لانها هي التي ينتهي امد جعلها بالعلم بالنهي و وصوله دون الاباحة الواقعيّة كما مرّ بيانه، و على هذا المعنى الاخير تكون مربوطة بالمقام و دليلا على جعل الاباحة الظاهرية لمشكوك الحرمة.

ثم لا يخفى ان كونها دليلا في المقام لا يكفي فيه إمكان كون المراد من الورود هو وصول الشي ء الى الشي ء، بل لا بد له من ظهور في هذا المعنى، و اذا لم يكن له ظهور فيه كانت الرواية المشتملة على لفظ الورود- غير الظاهر في المعنى النافع في ما هو المهم- من المجملات.

و بعبارة اخرى: انه يكفي النافي لدلالتها في المقام عدم ظهورها في المعنى الثاني، و لا يحتاج الى كونها ظاهرة في المعنى الاول، لكفاية الاجمال فيها و ترددها بين المعنيين لئلا تكون حجة في الاباحة الشرعية لمشكوك الحرمة، و لذا قال (قدس سره):

«و دلالته تتوقف» أي دلالة قوله عليه السّلام: (كل شي ء مطلق حتى يرد فيه نهي) على

ص: 336

على صدوره عنه (1) سيما بعد بلوغه إلى غير واحد، و قد خفي على من لم يعلم بصدوره (2).

______________________________

الاباحة الشرعية لمشكوك الحرمة تتوقف «على» ظهوره في المعنى الثاني، و لا يكون ذلك الا في «عدم صدق الورود» بحسب ظهوره على ما يساوق الصدور، و لا يكون له ظهور «الا» في وصول الشي ء الى الشي ء، و حيث كان الورود مسندا الى النهي فلا يكون للنهي وصول الا «بعد العلم» به «أو ما بحكمه» من وصوله بالعلمي بان يصل العلمي «بالنهي عنه»، و اذا كان للورود في الرواية ظهور فعلي في هذا المعنى فلا يكون الورود فيها صادقا على الورود المساوق للصدور، فالحكم «و ان صدر من الشارع و وصل» الى «غير واحد» إلّا انه لا يصدق عليه لفظ الورود في الرواية لظهور الورود فيها في معنى وصول الشي ء للشي ء فلا يصدق على الورود المساوق للصدور.

(1) أي دعوى ظهور الورود في الرواية في المعنى الثاني، و انه لا ظهور له فيما يساوق الصدور ممنوعة.

ثم اشار الى وجه المنع و هو امكان ان يكون المراد من الورود فيها ما يساوق الصدور بقوله: «لوضوح» قابلية «صدقه» أي صدق الورود فيها «على صدوره» أي على صدور النهي «عنه» أي عن الشارع، و مع امكان صدقه على ما يساوق الصدور لا يكون له ظهور فيما هو المهم من جعل الاباحة الشرعية لمشكوك الحرمة.

(2) توضيحه: انه يمكن ان يقال: ان مشكوك الحرمة في المقام مما يحتمل صدور الحرمة فيه اصلا، فتكون الرواية و ان اريد من الورود فيها ما يساوق الصدور تكون نافعة لدلالتها على انها من المباحات و ان كانت اباحتها لا حرجية، فاشار الى الجواب بقوله: «سيما ... الى آخره» حاصله: انه يكون التمسك لذلك بالرواية من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لاحتمال ان يكون هذا المشكوك قد ورد فيه نهي

ص: 337

لا يقال: نعم، و لكن بضميمة أصالة العدم صحّ الاستدلال به و تم (1).

______________________________

و وصل الى غير واحد، و اختفى على من لا علم له بصدوره، لانه اذا كان قد صدر فلا يكون الشي ء مما لم يرد فيه، و مع احتمال انه قد صدر و اختفى فالتمسك بعدم الورود المساوق لعدم الصدور من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، و لذا قال (قدس سره): «سيما» أي و بالاخصّ لا يمكن التمسك بهذه الرواية فيما اذا كان الورود فيها بما يساوق الصدور في مشكوك الحرمة الذي كان مورد الشك فيه الاختفاء بعد الصدور، لاحتمال ان يكون الحكم المشكوك فيها قد صدر و «بعد بلوغه الى غير واحد» اخفاه المخفون «و» اذا كان «قد خفى على» خصوص «من لم يعلم بصدوره» كان التمسك بالرواية لاثبات اباحته مع انه يحتمل صدوره و اختفاؤه علينا بالخصوص من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لان مضمون الرواية هو دلالتها على اطلاق الشي ء الذي لم يصدر فيه نهي، فلا بد من احراز انه لم يصدر فيه، و مع احتمال انه قد صدر فيه نهي و اختفى فلا يجوز التمسك بها لاحتمال كونه من مصاديق ما ورد فيه النهي، و يكون حال التمسك بها حال التمسك باكرم العادل في اثبات الاكرام لمن شك في عدالته.

(1) حاصله: انه اذا كان الورود هو ما يساوق الصدور انما لا يجوز التمسك بهذه الرواية لاثبات الاباحة في المشكوك، لان المشكوك مما يحتمل صدور النهي فيه و موضوع الاباحة فيها هو الذي لم يصدر نهي عنه، فلا بد من احراز ان هذا المشكوك مما لم يصدر نهي فيه، و مع عدم احراز الموضوع لا يجوز التمسك بالحكم، لوضوح ان التمسك بالحكم انما يكون بعد احراز موضوعه، الّا ان هذا فيما لو اردنا التمسك بالرواية من دون ضم ضميمة اليها يحرز بها ما هو الموضوع في هذه الرواية.

و بعبارة اخرى: انه لا اشكال في صحة التمسك بهذه الرواية مع احراز الموضوع فيها، و هو كون المشكوك مما احرز عدم صدور الحكم فيه، و بواسطة الاستصحاب الذي هو من الاصول المحرزة يحرز كون المشكوك مما لم يصدر فيه نهي، لوضوح كون

ص: 338

فإنه يقال: و إن تم الاستدلال به بضميمتها، و يحكم بإباحة مجهول الحرمة و إطلاقه، إلا أنه لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا، بل بعنوان أنه مما لم يرد عنه النهي واقعا (1).

______________________________

كل صدور هو مسبوق بعدم الصدور، فعدم الصدور السابق على زمان صدور الحكم في مقام الشك في الصدور يستصحب هذا العدم، و يحرز به ان المشكوك مما لم يصدر فيه نهي، فبواسطة استصحاب عدم الصدور يتحقق الموضوع في هذه الرواية، و مع تحقق موضوعها يتم الاستدلال بقوله عليه السّلام: (كل شي ء مطلق حتى يرد فيه نهي) لاثبات الاباحة لهذا المشكوك، و الى هذا اشار بقوله: «نعم) أي انه لا يصح الاستدلال ابتداء بقوله عليه السّلام: كل شي ء مطلق حتى يرد فيه نهي «و لكن بضميمة» المحرز للموضوع فيها و هي «اصالة العدم صح الاستدلال به» أي بقوله كل شي ء مطلق حتى يرد فيه نهي «و تمّ» المطلوب من اثبات الاباحة للمشكوك حرمته.

(1) توضيحه: ما عرفت من ان الاطلاق حيث يكون الورود بمعنى ما يساوق الصدور فالمراد منه هو الاباحة اللاحرجية العقلائية، دون الاباحة الشرعيّة الظاهرية المجعولة لمشكوك الحرمة التي كان المهمّ في المقام اثباتها، و من الواضح ان الاباحة اللّاحرجيّة هي اباحة واقعيّة لا ظاهرية، و اصالة العدم و ان كانت محرزة لعدم الورود الذي هو الموضوع للاباحة، الّا ان هذه الاباحة اباحة واقعيّة لا ظاهريّة، و الفرض في المقام اثبات اباحة ظاهرية لمشكوك الحرمة، فما يحرزه الاستصحاب من الموضوع محموله الاباحة الواقعية، و ما نحن بصدد اثباته و البحث عنه هو ما كان المحمول فيه هو الاباحة الظاهرية.

و بعبارة اخرى: ان الفرض اثبات الاباحة شرعا لمجهول الحرمة بما هو مجهول الحرمة، لا اثبات اباحة لعنوان ما لم يصدر فيه نهي، و الفرق بين الاباحتين واضح، فان الاولى ظاهرية و الثانية واقعيّة، فما هو المهمّ في البحث لا يثبت موضوعه باصالة العدم، و ما يثبت موضوعه باصالة العدم ليس هو المبحوث عنه في المقام، فان المهمّ

ص: 339

لا يقال: نعم، و لكنه لا يتفاوت فيما هو المهمّ من الحكم بالاباحة في مجهول الحرمة، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان (1).

______________________________

بالبحث هو الاباحة الظاهرية دون الاباحة الواقعيّة، و الى هذا اشار بقوله: «و ان تم الاستدلال به» أي بقوله كل شي ء مطلق حتى يرد فيه نهي «بضميمتها» أي بضميمة اصالة العدم لإحرازها للموضوع و هو عدم صدور البيان، و بعد احرازها للموضوع فيه يصح التمسك بقوله كل شي ء مطلق «و يحكم باباحة مجهول الحرمة و اطلاقه» هذا عطف تفسير للاباحة، فان المراد من الاطلاق في الرواية هو الاباحة و اذا احرز باصالة العدم موضوع الاطلاق فلا بد من ترتيب الاطلاق عليه الذي هو الاباحة، «إلّا انه لا بعنوان انه مجهول الحرمة شرعا» أي ان هذا الاطلاق و الاباحة التي احرز موضوعها باصالة العدم ليست هي الاباحة الظاهرية الشرعية المجعولة للشي ء بعنوان انه مشكوك الحرمة بما هو مشكوك الحرمة «بل» هي اباحة واقعيّة ثبتت للشي ء «بعنوان انه مما لم يرد عنه النهي واقعا» و ليس محل البحث هو اثبات اباحة واقعية للشي ء، بل محل البحث اثبات اباحة ظاهرية للشي ء بعنوان انه مشكوك الحرمة.

(1) حاصله: ان البحث في المقام و ان كان عن الاباحة الظاهرية للمشكوك، و الثابت بواسطة الاستصحاب هو الاباحة الواقعية دون الظاهرية، الّا ان الغرض من البحث عن اثبات الاباحة الظاهرية هو رفع العقاب، و رفع العقاب يثبت بالاباحة الواقعية ايضا.

و بعبارة اخرى: ان المهمّ الاولي هو اثبات الاباحة لرفع العقاب عن مجهول الحرمة سواء كان ذلك للاباحة الواقعية الثابتة له بعنوان انه لم يصدر فيه نهي، او للاباحة الظاهرية الثابتة له بعنوان انه مشكوك الحرمة، الى هذا اشار بقوله: «نعم» أي انا نسلّم ان الثابت بضميمة اصالة العدم هو الاباحة الواقعية لمجهول الحرمة «و لكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم بالاباحة» لرفع استحقاق العقاب «في

ص: 340

فإنه يقال: حيث أنه بذاك العنوان لاختصّ بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلا، و لا يكاد يعمّ ما إذا ورد النهي عنه في زمان، و إباحة في آخر، و اشتبها من حيث التقدّم و التأخر (1).

______________________________

مجهول الحرمة» سواء «كان» اثبات ذلك له بهذا «العنوان» الذي هو عنوان لم يصدر فيه نهي الذي محموله هو الاباحة الواقعية «او» كان «بذاك العنوان» و هو الاباحة الظاهرية الثابتة له بعنوان انه مشكوك الحرمة.

(1) توضيحه: ان اصالة العدم لا تجري في الحادثين المشكوك تقدم كل واحد منهما على الآخر و تأخره عنه كما سيأتي بيانه مفصلا في باب الاستصحاب ان شاء اللّه تعالى، ففيما اذا ورد نهي عن شي ء و وردت اباحة فيه ايضا و لم يعلم المتقدم منهما و المتأخر، فان كان المتقدم النهي و المتأخر الاباحة كان مباحا بالفعل، و ان كان المتقدم الاباحة و المتأخر النهي كان منهيا عنه بالفعل، فهو في هذا الحال مشكوك الحرمة للشك في تقدم النهي و تأخره، و في مثل هذا لا تجري اصالة العدم، فلا يحرز موضوع الاباحة فيما اذا كان الثابت بالرواية هو الاباحة الواقعية التي موضوعها عدم الصدور للنهي، اما اذا كان الورود بمعنى الوصول الذي هو الموضوع للاباحة الظاهرية الثابتة لمشكوك الحرمة فانه يصح التمسك بها في هذا الفرض الذي كان الشك فيه للتقدم و التأخر.

فالمتحصل من هذا الجواب: هو ان الاباحة الواقعية اخصّ من المدعى، و الى هذا اشار بقوله: «فانه يقال حيث انه بذاك العنوان» و هو عنوان عدم الصدور المستلزم للاباحة الواقعيّة تكون اخصّ من المدعى، فانه لو كان كذلك «لاختص» مورد الرواية «بما لم يعلم ورود النهي عنه اصلا» لجريان اصالة العدم المثبتة لموضوع الاباحة في الرواية «و لا يكاد يعم ما اذا ورد النهي عنه في زمان و» وردت «اباحة» له «في» زمان «آخر و اشتبها من حيث التقدم و التأخر» لما سيأتي من عدم جريان اصالة العدم في مشكوك التقدم و التأخر.

ص: 341

لا يقال: هذا لو لا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته (1).

فإنه يقال: و إن لم يكن بينها الفصل، إلا أنه إنما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالاباحة في بعضها الدليل، لا الاصل (2)، فافهم (3).

______________________________

(1) حاصله: انه ايضا لا يهمّ ذلك ايضا فيما هو المهمّ، فان اصالة العدم و ان كان لا تجري إلّا ان هناك اجماعا على تساوي افراد مجهول الحرمة، سواء ورد فيه نهي و اباحة و شك في المتقدم منهما، او كان اصل ورود الحرمة فيه غير معلوم، و العبارة واضحة.

(2) حاصله: ان اصالة العدم فيما اذا جرت لا داعي لان تكون مثبتة لموضوع كل شي ء مطلق لان يرفع به العقاب، بل هي تكون دالة على انه لا مانع من ارتكاب مجهول الحرمة و لا عقاب عليه، فيكون المثبت لما هو الغرض المهمّ من عدم العقاب هو الاصل دون الدليل الذي هو الرواية المذكورة، و سيأتي في باب الاستصحاب اثبات ان الاستصحاب اذا جرى فلا مجال لغيره من القواعد الأخر كالبراءة و قاعدة الحلّ، و مع كون الدليل في المقام حقيقة هو الاصل أي اصالة العدم لا مجال لدعوى عدم الفصل في افراد المشتبه، لان عدم الفصل فيه انما هو فيما كان الدليل على عدم المانع من ارتكاب المشتبه هو دليل الحلّ و قاعدته دون الاستصحاب، و الى هذا اشار بقوله: «فانه يقال و ان لم يكن بينها الفصل» و ان الاباحة اذا ثبتت لافراد المشتبه تثبت لجميع افراده «إلّا انه انما يجدي» عدم الفصل «فيما كان المثبت للحكم بالاباحة في بعضها» أي في بعض الافراد هو «الدليل» كقوله كل شي ء مطلق «لا الاصل» الذي هو اصالة العدم، لان عدم الفصل انما هو بين افراد المشتبه الذي ثبت اباحته بعنوان كونه مشكوك الحرمة لا بعنوان انه لم يصدر فيه نهي.

(3) يمكن ان يكون اشارة الى ما ذكره سابقا: من ان اصالة العدم تثبت موضوع الاباحة الواقعية، و الحال ان الموضوع للاباحة الواقعية هو الذي لم يصدر فيه نهي واقعا، و اما اثبات عدم صدور النهي بالاستصحاب فلازمه كون الثابت به اباحة

ص: 342

.....

______________________________

ظاهرية ايضا كما سيأتي بيانه في ان الاستصحاب احد موارد الحكم الظاهري، إلّا ان اثبات الموضوع بالاستصحاب لا ينافي كون الحكم واقعيا لا ظاهريا، كما يثبت باستصحاب الخمر ثبوت الخمر فيثبت لها الحكم الواقعي للخمر الواقعية، و المقام من هذا القبيل.

و يمكن ان يكون اشارة الى ان المشكوك تقدمه و تأخره كما لا مجرى للاستصحاب فيه كذلك لا مجرى فيه ايضا لكل شي ء مطلق فيما اذا كان المراد به عدم الصدور، لان المفروض ان حكم الاطلاق فيه لما لم يصدر فيه بيان و لو باصالة العدم لا لما صدر فيه بيان و اباحة و لم يعلم المتقدم من المتأخر.

و يحتمل ان يكون اشارة الى ان اصالة العدم في المقام هي الاستصحاب للعدم الازلي، و جريان الاستصحاب به في العدم الازلي محل كلام.

و يمكن ان يقال ايضا ان هناك ما يدل على ان المراد بالرواية هي البراءة فيما هو المهم في المقام: أي ان المراد من الورود هو الوصول، بان نقول ان المراد بقوله مطلق اذا لم يكن هو الاباحة الظاهرية حيث لا وصول للنهي، فلا بد ان يكون المراد من الاطلاق هو إمّا عدم الحكم و عليه فيكون المتحصّل من الرواية انه لا حكم قبل ورود النهي، و هذا من الامور التي لا مجال للشك فيها، فان كل شي ء قبل ورود الحكم فيه لا حكم له، و اما ان يراد من الاطلاق هو انه لا عقاب قبل ورود النهي و هكذا كالسابق، فان السبب للعقاب هو الورود، و حيث لا ورود للحكم من الشارع لا عقاب عليه عند الشارع، هذا مضافا الى ان الظاهر ان الرواية قد جاءت من الشارع بما هو شارع، و الحكم بالاباحة على الاحتمالين الأولين عقلي لا شرعي، فالظاهر من الرواية هو بيان الاباحة الشرعية التي تكون من الشارع بما هو شارع، و عليه فيتعيّن ان يكون المراد من الورود هو الوصول، و اللّه العالم.

ص: 343

الاستدلال بالاجماع على البراءة

و أما الاجماع فقد نقل على البراءة، إلا أنه موهون، و لو قيل باعتبار الاجماع المنقول في الجملة، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل، و من واضح النقل عليه دليل، بعيد جدا (1).

الاستدلال بالعقل على البراءة

اشارة

و أما العقل: فإنه قد استقل بقبح العقوبة و المؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول، بعد الفحص و اليأس عن الظفر بما كان حجة عليه،

______________________________

(1) حاصله: ان الاجماع المدعى في المقام على البراءة في الشبهة الحكمية هو الاجماع المنقول، و لا يخفى انه لا بد و ان يكون اجماعا بمسلك لا يضره خلاف المخالف، او يكون تحصيله لمن حصّله بنحو التقدير و التعليق، بدعوى ان المخالفين في المقام القائلين بالاحتياط انما قالوا لقيام الدليل عندهم على الاحتياط، و الّا فهم يقولون بالبراءة فيما اذا لم يقم دليل على الاحتياط، فمن لا تكون ادلة الاحتياط ثابتة عنده ينتفع بهذا الاجماع و لو كان من البعض تعليقيّا، و على كل فقد ناقش المصنف فيه من وجهين:

الاول: عدم حجيّة الاجماع المنقول كما تقدم ذكره في فصل الاجماع، و اليه اشار بقوله: «و لو قيل باعتبار الاجماع المنقول ... الى آخر الجملة».

الثاني: ان هذا الاجماع محتمل المدرك لاحتمال كون المدرك للقول بالبراءة هو الادلة الدالة على البراءة من الآيات و الاخبار و العقل دون الاجماع نفسه، و الى هذا اشار بما ذكره تعليلا لقوله: «انه موهون» و هو قوله: «فان تحصيله» أي تحصيل الاجماع بان يكون بما هو اجماع في هذه المسألة مما لا وجه لا دعائه، لانه محتمل المدرك، لان الحكم بالبراءة «في مثل هذه المسألة مما للعقل اليه سبيل» كقاعدة قبح العقاب بلا بيان «و من واضح النقل عليه دليل» كالآيات و الروايات، و مع وفور هذه المدارك فتحصيل الاجماع فيها «بعيد جدا».

ص: 344

فإنهما بدونهما عقاب بلا بيان و مؤاخذة بلا برهان، و هما قبيحان بشهادة الوجدان (1).

و لا يخفى أنه مع استقلاله بذلك، لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته، فلا يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، كي

______________________________

(1) توضيحه: ان العقل يحكم بان العقاب على مخالفة التكليف المجهول مع فرض عدم وصول الحجة عليه عقاب بلا بيان و مؤاخذة بلا برهان، و هما قبيحان: أي ان العقاب بلا بيان و المؤاخذة بلا برهان قبيحان، و مع حكم العقل بقبح المؤاخذة و العقاب على التكليف المجهول مع عدم وصوله أو عدم وصول الحجة عليه يأمن المكلف من العقوبة على مخالفته، لوضوح انه مع حكم العقل بقبح العقاب عليه لا يعقل ان يعاقب المولى عبده على مخالفته، لبداهة محالية ان يرتكب العادل ما هو قبيح ارتكابه، و لعل السبب في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو ان العقلاء قد تطابقت آراؤهم حفظا للنظام و ابقاء للنوع على مدح العدل و قبح الظلم، و انهم كما يحكمون بقبح مخالفة العبد لمولاه في التكليف الواصل الى العبد لانه من ظلم العبد مولاه، لان خروجه عن زي الرقية و رسم العبودية و طغيانه على مولاه ظلم منه لمولاه، فانهم يحكمون ايضا بان مخالفة العبد لتكليف مولاه غير الواصل اليه ليس من ظلم العبد لمولاه، و من الواضح انهم يحكمون ايضا ان العقاب من المولى لعبده حيث لا يكون العبد ظالما له يكون ظلما من المولى لعبده، و من البديهي ايضا قبح الظلم عند العقلاء، فاتضح استقلال العقل بقبح العقوبة و المؤاخذة على التكليف المجهول حيث لم يصل بنفسه و لا بقيام حجة عليه و عبارة المتن واضحة، و لعلّ مراده من شهادة الوجدان على ذلك هو شهادة الوجدان بحكم العقلاء على ان عقاب المولى على التكليف المجهول غير الواصل لا بنفسه و لا بالحجة عليه هو من مصاديق قاعدة القبح العقلي، الذي بنى العقلاء على ذم فاعله كما بنوا على الحسن العقلي و مدح فاعله، و على كل فقاعدة قبح العقاب بلا بيان من المسلمات عند العقلاء.

ص: 345

دعوى صلاحية قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل للبيان و الجواب عنها

يتوهم أنها تكون بيانا (1)، كما أنه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة، بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة و لو قيل بعدم وجوب

______________________________

(1) قد عرفت استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، و لا يرتفع القبح الّا بالبيان الواصل ... و لذلك فقد ادعي ان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل تصلح لان تكون بيانا، و مع صلاحيتها للبيان لا يكون مجال للتمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لارتفاع موضوعها، لان موضوعها هو عدم البيان، و مع فرض كون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بيانا لا يبقى وجه بصحة التمسك بها.

و الحاصل: ان العقلاء كما بنوا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان كذلك قد بنوا على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، فالعقل كما يحكم بقبح العقاب بلا بيان يحكم ايضا بوجوب دفع الضرر المحتمل، و من الواضح ان العبد المحتمل للتكليف الالزامي المجهول يحتمل في ترك الاتيان به للضرر المترتب على تركه، و مع احتماله للضرر في تركه يلزمه العقل بوجوب الاتيان به دفعا للضرر المحتمل، و مع حكم العقل بوجوب اتيان التكليف المجهول المحتمل لا يصح التمسك لرفع استحقاق العقاب بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، لبداهة كون حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل يصح ان يكون بيانا، و مع صحة كونه بيانا يرتفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

و حاصل الجواب عن هذه الدعوى: هو ان الضرر المحتمل اما ان يكون هو الضرر الاخروي و هو العقاب في الآخرة، او يكون هو الضرر الدنيوي و الابتلاء بالمفاسد الدنيوية المترتبة على ترك التكاليف الالزامية، فان كان الاول و هو ان الضرر المحتمل احتمال العقاب في ترك الاتيان بالتكليف الالزامي المجهول.

فالجواب عنه: ان العقاب غير محتمل على التكليف المجهول، فلا مورد لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل حتى تكون بيانا لقاعدة قبح العقاب، لوضوح كون موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل هو احتمال العقاب، و مع استقلال العقل بقبح

ص: 346

.....

______________________________

العقاب بلا بيان لا يكون العقاب محتملا حتى يكون المورد من موارد قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

لا يقال: ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان موضوعها عدم البيان، و العقل انما يحكم بقبح العقاب حيث يتمّ الموضوع و هو عدم البيان، و من الواضح ان البيان الذي عدمه موضوع لقاعدة قبح العقاب هو البيان الاعم من البيان للتكاليف بعناوينها الخاصة كوجوب الصلاة و حرمة الخمر، و من البيان لها و لو بالعناوين العامة و لو مثل قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، لان المراد من البيان هو مطلق الحجة و ما يصح به الاحتجاج من المولى على عبده، و كما يصح الاحتجاج من المولى على عبده ببيان الوجوب و الحرمة له كذلك يصح الاحتجاج منه عليه ايضا في وصول البيان العام للعبد، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان انما يتم موضوعها مع الغض عن قاعدة وجوب دفع الضرر، و اما مع ملاحظة قاعدة وجوب دفع الضرر فلا يبقى موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، لان العقاب محتمل مع الغض عن قاعدة قبح العقاب، و قد عرفت انه مع وصول قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لا يبقى مجال لقاعدة القبح.

فانا نقول: ان هذا توهّم باطل، لانه فيه- مضافا الى لزوم الدور من كون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بيانا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، لان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل موضوعها احتمال الضرر: أي احتمال العقاب، و تحقق هذا الاحتمال يتوقف على عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لانه مع جريانها يقطع بعدم العقاب، فلا يكون احتماله متحققا الذي هو الموضوع لقاعدة وجوب الدفع للضرر، و عدم جريان قاعدة القبح موقوف على جريان قاعدة وجوب الدفع للضرر، فيتوقف جريان قاعدة وجوب الدفع على نفسها، لان جريانها بتحقق موضوعها و هو الاحتمال للعقاب المتوقف على عدم جريان قاعدة القبح، المتوقف عدم جريانها على جريان قاعدة وجوب الدفع، فجريانها متوقف على عدم جريان قاعدة القبح المتوقف على جريانها، فجريانها يتوقف على جريانها و هو الدور- ان

ص: 347

دفع الضرر المحتمل (1).

______________________________

قاعدة وجوب دفع الضرر لا تصلح لان تكون بيانا لقاعدة القبح، لانها إمّا تكون قاعدة نفسية بمعنى ان وجوبها وجوب نفسي، فالعقاب يكون على مخالفتها لا على مخالفة الواقع، و على هذا لا تصلح لان تكون بيانا لقاعدة قبح العقاب الذي كان العقاب فيها عقابا على الواقع، فان ما يكون بيانا لها هو الحجة التي كان العقاب فيها عقابا على الواقع، و ذلك في فرض المصادفة، و ما كان العقاب فيه على كل تقدير لا يصلح بيانا لما كان العقاب فيه على فرض المصادفة.

و اما ان يكون وجوبها ارشاديا، و لازمها حكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول، و قد عرفت ان العقل مستقل بعدم استحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول، فلا ينبغي توهم كون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بيانا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فيما اذا كان المراد من الضرر المحتمل هو احتمال العقاب، و لذا قال (قدس سره): «و لا يخفى انه مع استقلاله» أي مع استقلال العقل «بذلك» أي بقبح العقاب بلا بيان «لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته» أي مخالفة التكليف المجهول، بل عدم العقاب على مخالفته مقطوع به، و اذا كان عدم العقاب مقطوعا به «فلا يكون مجال هاهنا» أي في مورد التكليف المجهول غير الواصل بنفسه و لا بحجة عليه كالخبر أو وجوب الاحتياط «لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل كي يتوهم» انها تكون بيانا لقاعدة القبح المذكورة.

(1) حاصله: ان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل عند من يقول بها قاعدة عقلائية بها يستحق الثواب و العقاب على ترك محتمل الضرر و فعله، و من الواضح ان العقاب على فعل محتمل الضرر انما هو العقاب على مخالفة الواقع، و لو كان السبب في استحقاق العقاب هو قاعدة وجوب دفع الضرر لكان العقاب للقاعدة لا على الواقع، فاذا احتملنا العقاب على مخالفة التكليف المجهول عند المصادفة فلا حاجة لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، اذ لا يترتب على مخالفة الواقع الا العقاب على

ص: 348

و أما ضرر غير العقوبة، فهو و إن كان محتملا، إلا أن المتيقن منه فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعا و لا عقلا، ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلا و جوازه شرعا (1)، مع أن

______________________________

مخالفته، و لا يعقل الالتزام بالعقاب على الواقع و على مخالفة القاعدة، و اذا لم يكن هناك الا العقاب على الواقع فلا داعي للقاعدة، لانه لو لم نقل بها لكان العقاب مترتبا على مخالفة الواقع عند المصادفة، و لذا قال (قدس سره): «لا» يبقى «حاجة الى القاعدة» أي قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل «بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة و لو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل» و هذا دليل كما عرفت على عدم الحاجة اليها.

و يظهر من المصنف استفادته كون الوجوب في القاعدة وجوبا ارشاديا عقليا لا نفسيا، و اما مع كونه نفسيا فلا يكون العقاب فيها مبنيّا على صورة مصادفة المخالفة للواقع، بل العقاب يكون على مخالفتها سواء أ صادفت الواقع ام لا، و يكون هناك امران: استحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول بما هو مجهول يكون العقاب فيه في صورة المصادفة للواقع، و قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل و العقاب فيها على مخالفتها نفسها لا على صورة مصادفة المخالفة للواقع، و لا ربط لاحدى القاعدتين بالاخرى، و مع فرض عدم الربط بينهما لا وجه لاحتمال الحاجة الى قاعدة وجوب الدفع للضرر المحتمل للعقاب على التكليف المجهول بعنوان كونه مجهولا، و لكن لازم كون الوجوب في القاعدة نفسيّا لازمه ان يكون عند المصادفة عقابان، و الالتزام به بعيد جدا.

(1) لا يخفى انه قد ذكرنا في صدر المسألة ان احتمال الضرر اما ان يراد منه احتمال العقاب على مخالفة التكليف المجهول، و ما مرّ من الكلام كله مبني على ذلك و هو فرض كون الضرر المحتمل هو ضرر العقاب.

ص: 349

.....

______________________________

و اما اذا كان المراد منه هو ضرر غير العقوبة كالمفسدة الملزمة و المصلحة الملزمة اللتين هما الملاك للوجوب و الحرمة، ففي مورد احتمال التكليف اللزوميّ لا مناص من احتمال ترك المصلحة الملزمة و احتمال الوقوع في المفسدة، فيما اذا لم يأت المكلف ما احتمل وجوبه أو أتى ما احتمل حرمته، و على هذا فقد ادعي ان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل تكون بيانا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، و الوجه في ذلك هي ان موضوع قاعدة دفع الضرر المحتمل اذا لم يكن الضرر المحتمل هو العقاب، بل كان هو المفسدة او ترك المصلحة المحتمل تحققها في مقام احتمال التكليف المجهول بالضرورة، و من الواضح اذا كان الموضوع فيها ذلك لا يتوهم كون قاعدة قبح العقاب بلا بيان رافعة لموضوعها، لوضوح ان استحقاق العقاب على التكليف المجهول سواء كان قبيحا او حسنا لا يرتفع به احتمال الوقوع في المفسدة، و احتمال الابتلاء بترك المصلحة في ارتكاب ما احتمل حرمته و ترك ما احتمل وجوبه، فموضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل متحقق على كل حال، و مع تحقق موضوع هذا القاعدة يحكم العقل بوجوب الدفع، و مع حكمه بوجوب الدفع تصلح القاعدة لان تكون بيانا لاستحقاق العقاب على التكليف المجهول بعنوان كونه محتمل الضرر، و مع صحة كونها بيانا لاستحقاق العقاب عليه يرتفع بها موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

و الجواب عنه: ان المسلّم هو ان احتمال التكليف يستلزم احتمال الوقوع في المفسدة و احتمال الابتلاء بترك المصلحة، و لكنّا لا نسلّم اولا، ان كل احتمال للضرر يجب دفعه، و لو سلّمنا ذلك فلا نسلّم ثانيا ان احتمال الوقوع في المفسدة و ترك المصلحة مما يستلزم احتمال الضرر.

و على كل، فالقاعدة لا تصلح ان تكون بيانا رافعا لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ص: 350

.....

______________________________

و توضيح ذلك: ان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ليست قاعدة عقلية برأسها عند من يقول بها، بل هي من متفرعات قاعدة التحسين و التقبيح العقليين، بدعوى ان دفع الضرر المحتمل حسن و ارتكاب محتمل الضرر قبيح، و كون مورد احتمال التكليف من مصاديق ما هو القبيح عقلا غير مسلّم، و مع فرض تسليمه فلا نسلّم ان احتمال التكليف مما يستلزم احتمال الضرر، فهذه الدعوى غير مسلّمة كبرى و صغرى.

اما الكبرى و هي دعوى وجوب دفع الضرر المحتمل عند العقلاء، ففيه:

اولا: انه ليس كل ضرر معلوم فضلا عن ان يكون محتملا مما يجب دفعه عند العقلاء، بل الضرر الذي عملهم على دفعه هو الضرر الذي لا يكون هناك داع لارتكابه يكون ذلك الداعي اهم في نظر المرتكب للضرر المعلوم، و يدل على ذلك انا نرى العقلاء بما هم عقلاء يرتكبون المضار المعلومة و يتحملون المشاق لدواع في نظرهم اهم من المضار و من المشاق، فليس كل ضرر قبيحا حتى يكون واجبا دفعه عند العقلاء، و لا عند الشرع ايضا فانا لم نجد الشارع قد نهى عن ارتكاب المضار المحتملة، و لا يتوهّم ان الروايات الناهية عن الاقتحام في المهلكة تدل على ذلك، لوضوح ان المراد من المهلكة فيها هي العقاب الاخروي، مضافا الى انه لو كانت المهلكة مما تشمل الضرر الدنيوي فليس كل ضرر مهلكة دنيويّة، و هو واضح.

و ثانيا: انا لا نسلّم ان دفع الضرر المقطوع به فضلا عن المحتمل من القواعد العقلائية التي للعقلاء حكم فيها بوجوب دفعه، بل هي من الامور الطبيعية، و ان كل ذي شعور يفرّ بطبعه عن اقتحام الضرر، و اذا كان الفرار من الضرر من طبع كل ذي شعور فلا داعي للعقلاء في الحكم بوجوب دفعه، فان الضرر ان لم يترتب عليه داع اهم منه في نظر المقتحم فبالطبع لا يقتحم فيه، و ان ترتب عليه غرض اهم منه فلا مانع من ارتكابه و يكون الضرر مندكا في جانب الغرض المترتب عليه، و قد اشار الى المناقشة الاولى في الكبرى بقوله: «و اما ضرر غير العقوبة فهو و ان كان محتملا»

ص: 351

احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرة، و إن كان ملازما لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة، لوضوح أن المصالح و المفاسد التي تكون مناطات الاحكام، و قد استقل العقل بحسن الافعال التي تكون ذات المصالح و قبح ما كان ذات المفاسد، ليست براجعة إلى المنافع و المضار، و كثيرا ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر، نعم ربما تكون المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا و عقلا (1).

______________________________

فسلّم اولا الصغرى و هو كون احتمال التكليف المجهول المستلزم لاحتمال الوقوع في المفسدة او ترك المصلحة من الضرر المحتمل، الّا انه لم يسلّم وجوب دفع كل ضرر، و لذا قال: «إلّا ان المتيقن منه» و هو الضرر المعلوم «فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعا» لما عرفت من انه لم يرد فيه نهي من الشارع «و لا عقلا ضرورة عدم القبح» عند العقلاء بما هم عقلاء «في تحمل بعض المضار» اذا كان ذلك «ببعض الدواعي» للمرتكب له تكون عنده اهم من تحمل الضرر، و حيث كان عمل العقلاء بما هم عقلاء على ارتكابه فلا بد ان لا يكون ذلك قبيحا «عقلا» و إلّا لما كان عملهم على ارتكابه بما هم عقلاء.

(1) لما اشار الى المناقشة في الكبرى اشار بقوله هذا الى المناقشة في الصغرى، و حاصله: انا لو سلّمنا الكبرى لكنا لا نسلّم الصغرى، و هي ان احتمال الحرمة و الوجوب مما يستلزم احتمال الضرر، و انما المسلّم هو استلزامه لاحتمال الوقوع في المفسدة و ترك المصلحة، و لا يخفى ان الضرر في هذه القاعدة الذي يجب دفعه المراد منه هو الضرر الشخصي دون النوعي، فالضرر النوعي ليس من مصاديق هذه القاعدة، و من الواضح ايضا ان جلّ التكاليف مصالحها و مفاسدها نوعية كالزكاة و الخمس و حرمة الربا، و ان كان بعض التكاليف مصالحها و مفاسدها شخصية كالصلاة و كحرمة أكل الميتة، لان معراجيّة المؤمن بها من المصالح الشخصيّة، و الظاهر ان مفسدة اكل الميتة من المفاسد الشخصية ايضا، لكن جلّ التكاليف

ص: 352

.....

______________________________

مناطاتها المصالح و المفاسد النوعية، و المصالح و المفاسد النوعية ليست من المضار و المنافع المشمولة لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، لما عرفت من ان المراد بها المنافع و المضار الشخصية.

و الحاصل: ان الاحكام و ان قلنا انها تابعة للمصالح و المفاسد في متعلقاتها، و العقل بحكم بحسن الافعال ذات المصالح و قبح الافعال ذات المفاسد، لبداهة ان الشارع لا يكلف إلّا بايجاد الحسن و ترك القبيح فتكاليفه تابعة لحسن الفعل و قبحه، الّا ان المصالح النوعية الحسنة و المفاسد النوعية القبيحة ليست مما تشملها قاعدة وجوب دفع الضرر، لان المراد بها المنافع و المضار الشخصية دون النوعية. نعم ربما يوجد بعض التكاليف مناطاتها المصالح و المفاسد الشخصية، لان المنافع و المضار فيها شخصية كما مرّ مثاله و لكنها قليلة، و هي التي يكون احتمال التكليف فيها مستلزما لاحتمال النفع و احتمال الضرر دون جلّ التكاليف.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «مع ان احتمال الحرمة او الوجوب لا يلازم احتمال المضرة»، فالصغرى غير مسلمة ايضا «و ان كان» احتمالها «ملازما لاحتمال المفسدة او ترك المصلحة لوضوح ان المصالح و المفاسد التي تكون» هي «مناطات الاحكام» الشرعية «و» هي المناطات ايضا لحكم العقل بالحسن و القبح فيها لانه «قد استقل العقل بحسن الافعال التي تكون ذات المصالح و قبح ما كان» منها «ذات المفاسد» إلّا ان هذه المصالح و المفاسد «ليست براجعة الى المنافع و المضار» الشخصية التي هي المناط في وجوب دفع الضرر المحتمل «و» لذلك «كثيرا ما يكون محتمل التكليف مامون الضرر» الشخصي، كما اذا علم بان مصلحته و مفسدته نوعية لا شخصية «نعم ربما» يكون المفسدة و المصلحة في التكليف شخصية و حينئذ «يكون المنفعة او المضرة مناطا للحكم شرعا و» حيث كان مما لا بد و ان يكون التكليف حسنا عقلا فالمنفعة و المضرة تكون مناطا للحكم «عقلا» ايضا.

ص: 353

إن قلت: نعم، و لكن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما لا تؤمن مفسدته، و أنه كالاقدام على ما علم مفسدته، كما استدل به شيخ الطائفة (قدس سره)، على أن الاشياء على الحظر أو الوقف (1).

______________________________

(1) توضيحه انه قد تقدم الاستدلال بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، و لكن الظاهر من شيخ الطائفة دعوى استقلال العقل بقبح الاقدام على محتمل المفسدة، فيكون- على هذا- احتمال المفسدة موضوعا لحكم العقل بالقبح.

و الحاصل: ان ما تقدم كان مبنيا على ان محتمل الحرمة و الوجوب محتمل الضرر، و قد عرفت الايراد عليه سواء كان المراد من الضرر هو العقوبة الاخروية او الدنيوية، و مبنى الاستدلال في ان قلت هو كون حكم العقل بقبح الاقدام على محتمل المفسدة، لا من ناحية احتمال الضرر، بل هو بنفسه مما يحكم العقل بقبح الاقدام عليه، و على هذا المبنى قال الشيخ (قدس سره) بان الاشياء على الحظر أي حكمها المنع او الوقف حتى يتبيّن أمرها.

و الحاصل: ان الظاهر من كلامه (قدس سره) ان هناك حكمين للعقل مستقلين:

حكم بالقبح على نفس الاقدام في محتمل المفسدة بعنوان كونه محتمل المفسدة، و حكم بالقبح على الاقدام على معلوم المفسدة، و ان الظاهر منه ايضا دعوى استقلال العقل بقبح الاقدام على ما لا يؤمن مفسدته هي الاعم من المفسدة النوعية و الشخصية، و الّا لو كانت هي خصوص المفسدة الشخصية لما صح ان يكون نقضا في المقام لما مرّ من ان جلّ التكاليف مصالحها و مفاسدها نوعية، فلا يكون من مصاديق هذه القاعدة الشك في محتمل الوجوب و الحرمة كما عرفت، و لا يخفى انه قد مر الكلام في هذه الدعوى في مباحث الظن ايضا، و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «ان قلت نعم و لكن العقل يستقل بقبح الاقدام» أي يستقل بالقبح على نفس الاقدام «على ما لا يؤمن من مفسدته» و ان ظاهره انها قاعدة في قبال قاعدة القبح على معلوم المفسدة، و لذا قال: «و انه كالاقدام على ما علم مفسدته كما استدل به» أي كما استدل باستقلال

ص: 354

قلت: استقلاله بذلك ممنوع، و السند شهادة الوجدان و مراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل و الاديان، حيث إنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته، و لا يعاملون معه معاملة ما علم مفسدته (1)، كيف؟

و قد أذن الشارع بالاقدام عليه، و لا يكاد يأذن بارتكاب القبيح (2)،

______________________________

العقل بقبح نفس الاقدام «شيخ الطائفة (قدس سره) على ان الاشياء على الحظر او الوقف» فلا وجه للحكم بالبراءة و الاباحة في محتمل الوجوب و الحرمة لاستلزام احتمالها لاحتمال المفسدة و ترك المصلحة، و العقل مستقل بقبح الاقدام على ذلك:

أي بعنوان احتمال المفسدة و احتمال ترك المصلحة، لا لان احتمال المفسدة ترك المصلحة من جهة احتمال الضرر حتى يكون الاستدلال عليه بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، بل هو لان نفس احتمال المفسدة مورد حكم العقل بقبح الاقدام عليها، و لذلك قال ان الأشياء كلها على الحظر او الوقف دون الترخيص، فلا مجال للبراءة بعد حكم العقل بقبح الاقدام على محتمل المفسدة.

(1) لا يخفى ان المصنف قد ناقش في الكبرى و انكر نفس استقلال العقل بقبح نفس الاقدام، و سنده شهادة الوجدان من حال العقلاء و اهل الاديان، انهم لا يعاملون مع محتمل المفسدة كمعاملتهم مع معلوم المفسدة: أي لا يعاملون محتمل الوجوب و الحرمة معاملة مقطوع الوجوب و الحرمة، و اليه اشار بقوله: «حيث انهم لا يحترزون ... الى آخر الجملة».

و ينبغي ان لا يخفى ان المناقشة هنا تنحصر في الكبرى، لوضوح ان مورد احتمال الحرمة او الوجوب مما لا ريب في كونه مورد احتمال المفسدة و ترك المصلحة.

(2) حاصله: دليل آخر إنّي على عدم صحة الدعوى المذكورة، و ان العقل غير مستقل بقبح نفس الاقدام على ما لا يؤمن مفسدته، و هي انه لا يعقل ان يرخص الشارع في فعل ما هو قبيح عقلا، و قد عرفت مما سبق دلالة الروايات على اذن

ص: 355

فتأمل (1).

اصالة الاحتياط

أدلّة المحدثين على الاحتياط:

اشارة

و احتج للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجة، بالادلة الثلاثة:

1- الاستدلال بالكتاب

أما الكتاب: فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم، و عن الالقاء في التهلكة، و الآمرة بالتقوى.

و الجواب: إن القول بالاباحة شرعا و بالأمن من العقوبة عقلا، ليس قولا بغير علم، لما دلّ على الاباحة من النقل و على البراءة من حكم

______________________________

الشارع في ارتكاب ما هو محتمل الحرمة او الوجوب، فاذن الشارع كاشف عن عدم قبح ذلك عند العقل.

(1) لعله اشارة الى ان الشيخ انما استدل بهذه الدعوى لبيان حال الاشياء قبل ان يرد فيها من الشرع شي ء، لا في قبال ما ورد فيها من الشرع شي ء.

و بعبارة اخرى: هو كأصل عقلي يلزم بالاحتياط و التوقف حيث لا يصدر من الشارع اذن في الترخيص و عدم الاحتياط.

او يكون اشارة الى ما ذكرناه من المناقشة في الصغرى، و انه لو سلّمنا استقلال العقل بقبح نفس الاقدام إلّا انه على المفسدة الشخصية دون النوعية.

و يمكن ان يكون اشارة الى المناقشة في الدليل، و هو ان الشارع لا يعقل ان يأذن و يرخص في فعل ما هو قبيح عقلا، و قد مرّ دلالة الروايات على جواز ارتكاب محتمل الحرمة و ترك محتمل الوجوب فيستكشف من ذلك عدم قبحه عقلا، و حاصل المناقشة انه لعل الوجه في ترخيص الشارع هو انه قد زاحم ذلك مصلحة اهم من المفسدة في محتمل الحرمة و أهم من ترك المصلحة في محتمل الوجوب، كمصلحة التسهيل على الامة، فالشارع لم ياذن في ارتكاب القبح بل أذن في ارتكاب ما فيه المصلحة الغالبة، فلا يكون اذن الشارع دليلا إنيّا على ان ارتكاب محتمل الحرمة ليس بقبيح، و اللّه العالم.

ص: 356

العقل، و معهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلا، و لا فيه مخالفة التقوى، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) استدل القائلون بالاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية بالكتاب و الاخبار و العقل:

اما من الكتاب: فبالآيات الدالة على النهي عن اتباع غير العلم، و بالآيات الناهية عن إلقاء النفس في التهلكة، و بالآيات الآمرة بالتقوى.

و بيان الاستدلال بالطائفة الاولى، و هي الآيات الناهية عن اتباع غير العلم، ان هذه الآيات قد دلّت على النهي عن القول بغير العلم، و القول بالبراءة و الأمن من العقوبة او بالاباحة الشرعية في مورد احتمال الحرمة الواقعية من القول بغير العلم، فمرجع الاستدلال الى صغرى و كبرى.

اما الصغرى فهي ان القول بالبراءة و عدم استحقاق العقوبة او بالاباحة الشرعية من القول بغير العلم، لوضوح انه مع احتمال الحرمة لا علم بعدم الحرمة و عدم استحقاق العقوبة، و الاباحة من لوازم عدم الحرمة، فلا ينبغي القول بهما الّا في مقام العلم بعدم الحرمة، فالقول بهما مع احتمال الحرمة من القول بغير العلم.

و اما الكبرى فهي ما دلّ من الآيات على حرمة القول بغير العلم.

و الجواب عنها، أولا: بان عدم استحقاق العقوبة و الأمن منها و الاباحة كما انهما من لوازم عدم الحرمة الواقعية، كذلك هما من لوازم الحكم بعدم الحرمة ظاهرا، و قد عرفت دلالة الادلة شرعا و عقلا على عدم الحرمة ظاهرا.

و ثانيا: ان استحقاق العقاب و عدم الأمن منه ليس من آثار الحرمة الواقعية، بل هو من آثار الحرمة المعلومة كما مرّ بيانه، و كذلك الاباحة فان الاباحة الواقعية هي من لوازم عدم الحرمة الواقعية، و اما الاباحة الظاهرية فموردها محتمل الحرمة.

و ثالثا: انه يرد ما ذكروه من القول بغير العلم على القول بالاباحة و بالأمن في الشبهة التحريمية على القائلين بالأمن و بالاباحة في مورد الشبهة الوجوبية، مع ان

ص: 357

.....

______________________________

جلّ القائلين بالاحتياط في الشبهة التحريمية يقولون بالترخيص و الأمن في الشبهة الوجوبيّة، مع ان نفس القول بوجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية هو ايضا من القول بغير العلم.

و رابعا: انه بعد دلالة الادلة عقلا و شرعا على الأمن من استحقاق العقاب و على الاباحة الشرعية لا يكون القول بها من القول بغير العلم.

الطائفة الثانية هي الآيات الناهية عن الإلقاء في التهلكة كقوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ(1) و طريق الاستدلال بها ان الظاهر من هذه الطائفة هو ما يعم التهلكة المعلومة و التهلكة المحتملة، لان الظاهر من الالقاء في التهلكة هو التعرّض للتهلكة، و لا ريب في اقتحام التهلكة المحتملة من التعرّض للتهلكة، و لا ريب ايضا ان محتمل الحرمة محتمل التهلكة، فالاقتحام فيه اقتحام في التهلكة المحتملة و هو من التعرّض للتهلكة و قد دلّت هذه الطائفة على النهي عنه.

و الجواب عنه اولا: منع كون محتمل الحرمة من محتمل التهلكة اذا كان المراد من التهلكة هي العقاب الاخروي، لما دلّ من الادلة نقلا و عقلا على عدم العقاب في محتمل الحرمة، فتكون تلك الادلة رافعة للموضوع في هذه الادلة الناهية عن الالقاء في التهلكة، لوضوح ان موضوع النهي فيها هو التعرّض للتهلكة، و بعد قيام الدليل على عدم العقاب في محتمل الحرمة، فتكون التهلكة فيه مقطوعا بعدمها لا محتملة، فلا موضوع لها.

و ثانيا: انه لا يعقل ان يكون المراد من التهلكة في هذه الآيات الناهية عنها هو العقاب، لان المستفاد منها حكم لموضوع، و الحكم فيها هو النهي و الموضوع له هو التهلكة، و من الواضح انه لا بد من فرض تحقق الموضوع ليلحقه الحكم، و لما كان الموضوع لهذا النهي هو التهلكة فلا بد من فرض تحقق التهلكة لان تكون منهيا عنها،

ص: 358


1- 37. ( 1) البقرة: الآية 195.

.....

______________________________

و على هذا فلا يعقل ان يكون المراد بالتهلكة هو العقاب، لان النهي اللاحق للتهلكة اما ان يكون نفسيا او طريقيا او ارشاديا، و لا يعقل ان يكون نفسيا و لا طريقيا و لا ارشاديا اذا كان المراد من التهلكة هي العقاب، لان لازم كون النهي نفسيا فيها تحقق عقابين على مرتكب محتمل الحرمة، العقاب على مخالفة النهي النفسي، و العقاب المفروض كونه موضوعا لهذا النهي، و لا يصح الالتزام بعقابين لمرتكب محتمل الحرمة.

و لا يعقل ان يكون النهي طريقيا ايضا، لان معنى كونه طريقيا كونه منجزا لما قام عليه، و فرض تحقق العقاب الذي هو الموضوع فرض تنجزه ايضا، و من الواضح ان المنجّز لا ينجّز، فمع كون فرض العقاب منجزا لا يعقل ان يكون النهي الطريقي منجزا له ايضا.

و كذلك فيما اذا كان النهي ارشاديا فان لازم فرض تحقق الموضوع و كون النهي ارشادا اليه هو كون العقاب منجزا بغير هذه الآيات لتكون هذه الآيات مرشدة الى تنجزه، لان تنجزه بنفس هذه الآيات غير معقول لعدم معقولية كون الارشاد فيه ارشادا الى نفسه، و كونه هو المنجّز لازم كون ارشاده ارشادا الى نفسه.

هذا كله اذا كان المراد من التهلكة في هذه الآيات هي العقاب الاخروي، و اما اذا كان المراد من التهلكة فيها هي التهلكة الدنيوية: أي المفسدة، فالجواب عنها ما مرّ في الجواب عن قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، فيما اذا كان المراد هو ضرر غير العقوبة الاخروية من المفسدة او ترك المصلحة فراجع.

و يظهر من المصنف ان مبنى استدلال القائلين بدلالة هذه الآيات على النهي عن الاقتحام في محتمل الحرمة هي التهلكة الاخروية و العقاب الاخروي، لعدم اشارته الى الجواب عنها فيما اذا كان المراد بها هي التهلكة الدنيوية.

ص: 359

.....

______________________________

و اما الآيات الآمرة بالتقوى فالوجه في الاستدلال بها هو ان هذه الطائفة من الآيات كقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ 38] و قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ 39] و قوله تعالى: وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ 40] قد دلّت على الامر بالتقوى للّه حق التقوى و بمقدار المستطاع منها و بالجهاد حق الجهاد، فهي تدل على لزوم التورّع في اوامر اللّه، و من الواضح ان الاقتحام في محتمل الحرمة مناف للتورّع، و ليس من التقوى للّه حق تقاته و لا الجهاد له- عزّ و جلّ- بقدر المستطاع.

و الجواب عنه اولا: ان الظاهر من الامر في هذه الآيات الآمرة بالتقوى هو الامر الاستحبابي، لوضوح شمول التقوى الى محتمل الوجوب و الكراهة و الاستحباب، و لذا استدل بها الشهيد في الذكرى على استحباب اعادة ما ادى من الصلاة اذا احتمل انه اخلّ بشي ء من اجزائها او شرائطها.

و ثانيا: ان المراد من التقوى المأمور بها، اما هي التورّع عن العقاب المقطوع و المحتمل، و على هذا فلا تكون شاملة للمقام، لان مورد الشبهة التحريمة العقاب فيها مقطوع العدم بواسطة ما دلّ على عدم العقاب فيها شرعا و عقلا، و ينحصر مورد العقاب المحتمل في المنجّز بالعلم الاجمالي في مقام الارتكاب لاحد اطرافه، و في المنجّز بالخبر الواحد فيما اذا قلنا بالطريقية فيه.

و اما ان يكون المراد بها هو التورع عن محتمل الوجوب و الحرمة، و لا بد و ان يكون الامر استحبابا لما عرفت من شموله للمكروه و المستحب، و قد اشار (قدس سره) الى هذه الطوائف الثلاث بقوله: «اما الكتاب فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم» كقوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ 41] «و» بالآيات الناهية «عن الالقاء في التهلكة» كقوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ(1) و بالآيات «الآمرة بالتقوى» كقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ 43]

ص: 360


1- 42. ( 5) البقرة: الآية 195.

.....

______________________________

و قد عرفت كيفية الاستدلال بها.

و اشار الى الجواب عنها بقوله: «ان القول بالاباحة شرعا و بالأمن من العقوبة عقلا ليس قولا بغير علم» و بهذا اشار الى الجواب الرابع عنها كما مر، و حاصله ما اشار اليه بقوله: «لما دل على الاباحة من النقل و على البراءة» و الأمن من العقوبة «من حكم العقل» فلا يكون القول بالاباحة و بالبراءة من استحقاق العقاب من القول بغير علم بعد قيام الدليل النقلي و العقلي عليهما.

و اشار الى الجواب عن آيات التهلكة بقوله: «و معهما» أي و مع دلالة النقل و حكم العقل على الاباحة و الأمن من العقوبة يكون محتمل الحرمة من المقطوع بعدم التهلكة فيه لا من محتمل التهلكة، و هذا هو الجواب الاول المتقدم عنها، الذي كان المبنى فيه على ان المراد من التهلكة هي العقوبة، و اشار الى الجواب عن الآيات الآمرة بالتقوى بقوله: «و لا فيه مخالفة التقوى» أي و مع دلالة النقل و حكم العقل على الاباحة و بالأمن من العقوبة في محتمل الحرمة لا يكون التورع عن ارتكابهما من مخالفة التقوى المأمور بها في هذه الآيات، لان استدلالهم بها على ذلك لازمه كون المراد من الامر بالتقوى هو الامر بالتورع عن محتمل العقاب، لاختصاصه على هذا بمحتمل الحرمة او الوجوب، و الجواب عنه ما اشار اليه من انه بعد دلالة النقل و العقل لا يكون من محتمل العقاب.

اما لو كان المراد بمخالفة التقوى مخالفة مطلق التكاليف المحتملة من الحرمة و الوجوب و الاستحباب و الكراهة فالامر فيها استحبابي قطعا، و مع كون الامر فيها استحبابيا لا دلالة فيه على لزوم الاحتياط او لزوم التوقف، اذ لا يعقل ان يكون الامر بالتورع عن محتمل الكراهة او الاستحباب امرا لزوميا كما لا يخفى.

ص: 361

2 لاستدلال بالاخبار:
1- اخبار الوقوف

و أما الاخبار: فبما دل على وجوب التوقف عند الشبهة، معللا في بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة، من الاخبار الكثيرة الدالة عليه مطابقة أو التزاما (1)،

2- اخبار الاحتياط
اشارة

و بما دل على وجوب الاحتياط

______________________________

(1) قد عرفت انهم استدلوا بالكتاب، و قد مرت الاشارة الى استدلالهم به و جوابه، و بالسنة و هي الاخبار التي اشار اليها، و هي على طوائف و بألسنة مختلفة يجمعهما الامر بالتوقف عند الشبهة اما بالمطابقة او الالتزام، و الامر بوجوب الاحتياط في الشبهات.

فما دل على وجوب التوقف عند الشبهة مطابقة الاخبار التي ورد التعليل فيها، بان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة.

منها ذيل مقبولة عمر بن حنظلة المسئول فيها عن المختلفين في حكمهم في مقام فصل الخصومة، فاجاب الامام عليه السّلام: بلزوم الاخذ بارجحهما، و ذكر المرجحات، ثم سأل السائل عن الحكم فيما اذا تساويا من كل جهة، فقال له عليه السّلام: (اذا كان كذلك فارجه حتى تلقى امامك، فان الوقوف عند الشبهات خير عن الاقتحام في الهلكات)(1).

و منها رواية زرارة عن ابي جعفر عليه السّلام: (حق اللّه على العباد ان يقولوا ما يعلمون و يقفوا عند ما لا يعلمون)(2).

و منها موثقة سعد بن زياد عن جعفر عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال: (لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة)- الى ان قال- (فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة)(3).

ص: 362


1- 44. ( 1) الكافي، ج 1، ص 68.
2- 45. ( 2) الكافي، ج 1، ص 43.
3- 46. ( 3) الوسائل، ج 18، ص 116.

من الاخبار الواردة بألسنة مختلفة (1).

______________________________

هذه بعض من الاخبار الدالة على التوقف بالمطابقة، و فيها ما ورد فيه التعليل بان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة.

و اما ما دلّ على التوقف التزاما فالاخبار الدالة على وجوب الردّ اليهم عليهم السّلام و بالكف و التثبت من دون ذكر فيها للامر بالتوقف فانها مما تدلّ بالالتزام على لزوم التوقف، كموثقة حمزة بن الطيار (انه عرض على ابي عبد اللّه بعض خطب ابيه عليه السّلام حتى اذا بلغ موضعا منها قال له عليه السّلام كف و اسكت، ثم قال ابو عبد اللّه عليه السّلام انه لا يسعكم فيما نزل بكم مما لا تعلمون الّا الكف عنه و التثبت و الرد الى أئمة الهدى عليهم السّلام حتى يحملوكم فيه الى القصد و يجلوا عنكم فيه العمى و يعرفوكم فيه الحق، قال اللّه تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)*(1) و مثلها اخبار أخر، فان الاخبار الدالة بالمطابقة على وجوب الكفّ و التثبّت و الردّ اليهم عليهم السّلام تدلّ بالالتزام على لزوم التوقف. و الى ما ذكر من الاخبار اشار بقوله: «الدالة عليه» أي على التوقف «مطابقة او التزاما».

(1) الاخبار الدالة على الاحتياط وردت بألسنة مختلفة ايضا، بعضها دال على الاحتياط مطابقة، و منها الصحيح الوارد عن ابي الحسن الرضا عليه السّلام قال: (قال امير المؤمنين عليه السّلام لكميل بن زياد: اخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت)(2).

و منها ما عن خط الشهيد (قدس سره) عن ابي عبد اللّه عليه السّلام يقول في آخر الحديث: (... و خذ الاحتياط في جميع امورك)(3).

و منها المرسل عن الشهيد ايضا و هو قوله عليه السّلام (لك ان تنظر الحزم و تأخذ بالحائطة لدينك)(4) فهذه الاخبار و امثالها تدل على الاحتياط لزوما بالمطابقة لدلالة

ص: 363


1- 47. ( 1) الكافي، ج 1، ص 50.
2- 48. ( 2) الوسائل، ج 18، ص 123.
3- 49. ( 3) الوسائل، ج 18، ص 127.
4- 50. ( 4) عوالي اللآلي، ج 1، ص 395.

.....

______________________________

هيئة الامر منها على الوجوب و المادة على الاحتياط.

و بعضها دال على الاحتياط التزاما، فمنها اخبار التثليث الذي ورد التثليث في بعضها تعليلا لطرح الشاذ النادر لانه مما فيه الريب، قال الامام عليه السّلام فيها: (انما الامور ثلاثة: امر بين رشده فيتبع، و امر بيّن غيّه فيجتنب، و امر مشكل يردّ حكمه الى اللّه و رسوله، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: حلال بيّن و حرام بيّن و شبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، و من اخذ بالشبهات وقع في المحرمات و هلك من حيث لا يعلم)(1) فانها و ان لم يرد فيها لفظ الامر بالاحتياط إلّا انها لما وردت معلّلة للامر بطرح الشاذ النادر تكون دالة بالالتزام على الاحتياط، لوضوح ان الامر بالطرح معناه العمل في مورد الشبهة بما هو مقتضى الاحتياط فيها، فلسانها ليس لسان التوقف و عدم العمل بل مؤدّاها العمل بالاحتياط، و لذلك تكون دالة بالالتزام على الاحتياط، و اما على لزومه فلأن أمره عليه السّلام بطرح الشاذ النادر ظاهره لزوم الطّرح، و الى ما ذكرنا من دلالة الاخبار على الاحتياط مطابقة أو التزاما اشار بقوله:

«الواردة بألسنة مختلفة» و طريق الاستدلال بها:

اما باخبار التوقف فلدلالتها على الهلكة في الشبهة فتكون رافعة لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لانها هي البيان له، و اما على اخبار الاباحة أو الرفع لما لا يعلمون فلانها بعد دلالتها على الهلكة في مورد الشبهة تكون علما بالهلكة فيرتفع بها ايضا موضوع الاباحة المجعولة فيما لا يعلم و الرفع المجعول لما لا يعلم.

و اما اخبار الاحتياط فهي اما ان يكون الوجوب فيها نفسيا او طريقيا، و على كلا الامرين فالامر بوجوب الاحتياط في مورد الشبهة يكون معلوما و مبيّنا، فيكون رافعا لقاعدة القبح بلا بيان، لكونه بيانا و رافعا لما لا يعلم لانه من العلم.

ص: 364


1- 51. ( 1) الكافي، ج 1، ص 68.

و الجواب: إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية، مع دلالة النقل و حكم العقل بالبراءة كما عرفت (1).

______________________________

(1) اشار اولا الى الجواب عن اخبار التوقف، و حاصله: انها لا بد و ان لا يكون المراد بها ما يشمل الشبهة البدوية، و يكون المراد مورد الشبهة الذي كان العقاب فيها منجزا كمورد الشبهة في ارتكاب احد اطراف العلم الاجمالي، فيما اذا كان المراد من الهلكة فيها هو العقاب، و الوجه في ذلك انها لما كانت الهلكة فيها مفروضة و معنى فرضها هو كونها منجزة و لا منجز لها في الشبهة البدوية، لعدم معقولية ان تكون هذه الاخبار هي المنجزة لها، لفرض كون الهلكة فيها مفروضة، و لازم فرضها هو كون المنجز لها غير هذه الاخبار، لوضوح ان ما دل على لزوم التوقف في العقاب المفروض تنجزه لا يعقل ان يكون نفس ما دل على فرض تحققه هو المحقق له، لان لازم كون التوقف المفروض تحقق الهلكة فيه هو تقدم فرض تحققه عليه، و لازم كونه هو المحقق له هو تأخر تحققه عنه.

و اما تحققه بغير هذه الاخبار فلانه ليس هناك غيرها إلّا اخبار الاحتياط، و سيأتي الكلام فيها، مضافا الى انها لو كانت غير هذه الاخبار لما كانت هذه الاخبار هي الدليل على ان الحكم في المشتبه هو لزوم التوقف، و كان الدليل عليه هي اخبار الاحتياط او غيرها من الادلة لو كانت، هذا أولا.

و ثانيا: انه بعد ان كان الموضوع فيها هو المهلكة، فادلة البراءة و الاباحة تكون رافعة لموضوع هذه الاخبار، لوضوح ان الحكم في هذه الاخبار الذي هو التوقف لا يثبت موضوع نفسه و هو الهلكة، و الأدلة الدالة على انه لا هلكة في مورد الشبهة البدوية من العقل و من النقل تكون رافعة للموضوع فيها، و انما تكون هذه الاخبار رافعة لموضوع ما دل على البراءة عقلا و على الاباحة شرعا حيث تكون الهلكة فيها التي هي الموضوع فيها مدلولا عليها بغير هذه الاخبار و المفروض عدم ذلك، و الى هذا اشار بقوله: «انه لا مهلكة في الشبهة البدوية مع دلالة النقل» على الاباحة

ص: 365

و ما دل على وجوب الاحتياط لو سلم (1)، و إن كان واردا على حكم العقل، فإنه كفى بيانا على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول (2).

______________________________

«و حكم العقل بالبراءة» لارتفاع الهلكة المفروضة كونها موضوعا لاخبار الوقف بواسطة ما دل على عدم الهلكة من النقل و العقل في الشبهة البدوية، و قد تقدم الكلام في هذا مفصلا، و لذا قال (قدس سره): «كما عرفت».

(1) لما اجاب عن اخبار التوقف تعرض للجواب عن اخبار الاحتياط.

و توضيحه: ان اخبار الاحتياط حيث لم يفرض فيها الهلكة، فيمكن ان يكون الامر فيها نفسيا و طريقيا و ارشاديا، و لكنه لا يخفى انه لو كان ارشاديا لما نفع المستدل به على لزوم الاحتياط، لان كونه ارشاديا لازمه ان يرشد الى ما هو المنجز من اللزوم، و لا معنى لكونه ارشاديا الزاميا الى غير ما هو منجز اللزوم، و المفروض دلالة نفس الاحتياط على اللزوم، و اليه يشير بقوله: «لو سلم» أي لو سلم دلالته على وجوب الاحتياط، و ذلك فيما لم يكن ارشاديا، فان معنى كونه ارشاديا هو كونه ارشاديا الى ما هو الواجب لا أنه هو الواجب، و سيأتي في ذيل العبارة بيان ما يشهد بارشاديته.

(2) لا يخفى انه بناء على تسليم دلالته على الوجوب فالمتعين كون وجوبه وجوبا طريقيا بداعي تنجيز الواقع، لان كون وجوبه نفسيا و ان كان ممكنا إلّا انه سيأتي ما ينفي وجوبه النفسي، و اذا كان دالا على الوجوب الطريقي بداعي تنجيز الواقع المجهول يكون واردا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لان موضوعه اللابيان بنحو من الانحاء للمجهول، و مع كون الاحتياط طريقا الى تنجيزه يحصل البيان له بجعل الاحتياط منجزا له، لصحة العقاب عليه بعد جعل الاحتياط طريقا الى تنجيزه لو صادف كون مخالفة الاحتياط مخالفة للواقع لصحة الاحتجاج به على مخالفته، و اذا كان هناك بيان للتكليف المجهول يرتفع موضوع دليل حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، و هذا هو معنى ورود أدلة الاحتياط على حكم العقل بالبراءة في التكليف

ص: 366

كلام الشيخ (قده) و مناقشة المصنف (قده) فيه

و لا يصغى إلى ما قيل من أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح، و إن كان نفسيا فالعقاب على مخالفته لا على مخالفة الواقع (1)، و ذلك لما عرفت من أن إيجابه يكون طريقيا،

______________________________

المجهول، و اما بالنسبة الى الدليل النقلي على البراءة و على الاباحة في مورد التكليف المجهول فسيأتي انهما من المتعارضين، و اليه اشار بقوله: «و ان كان واردا على حكم العقل» لان موضوعه اللابيان، و الاحتياط المنجز للواقع بيان له، و ليس الورود إلّا ارتفاع الموضوع حقيقة بواسطة الدليل الوارد، و بهذا يفترق عن التخصيص، فان عدم الموضوع و خروج الخارج حقيقة بذاته و بطبعه لا بواسطة الدليل كخروج الجاهل عن موضوع اكرم العالم، فانه خارج بذاته لا بواسطة الدليل، بخلاف ارتفاع اللابيان فانه و ان كان ارتفاعا حقيقة لكنه بواسطة الدليل الذي هو البيان له، و لذا قال (قدس سره): «فانه كفى بيانا على العقوبة» أي ان دليل الاحتياط يكفي ان يكون بيانا يستحق المكلف العقاب بواسطته «على مخالفة التكليف المجهول» فيكون واردا عليه لارتفاع موضوعه بواسطته حقيقة.

(1) القائل هو الشيخ الانصاري (قدس سره) في رسائله، و حاصل ما قال: ان دليل الاحتياط لا يعقل ان يدل على الوجوب، و ما لم يدل على الوجوب لا ينفع الخصم الاستدلال به، و الوجوب المستفاد منه اما ان يكون وجوبا مقدميا للتحرز عن عقاب التكليف المجهول و هو غير معقول، لان فرض كونه تحرزا عن العقاب على التكليف المجهول لازمه فرض تحقق العقاب على التكليف المجهول من دون ملاحظة دليل الاحتياط، و قد عرفت ان العقاب على التكليف المجهول قبيح مع فرض عدم ملاحظة دليل الاحتياط، و لازم القبيح قبيح، فكون وجوب الاحتياط وجوبا مقدمة للتحرز عن العقاب على التكليف المجهول قبيح ايضا، و اليه اشار بقوله: «من ان ايجاب الاحتياط كان مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح» لان العقاب على التكليف المجهول قبيح، فكونه وجوبا للتحرز عما هو القبيح قبيح ايضا.

ص: 367

و هو عقلا مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة، كما هو الحال في أوامر الطرق و الامارات و الاصول العملية (1).

______________________________

و ان كان الاحتياط وجوبا نفسيا فهو خلف الفرض في المقام، لان المفروض كون عقاب الاحتياط عقابا على مخالفة الواقع عند المصادفة، و من الواضح ان لازم مخالفة الوجوب النفسي كون العقاب على مخالفته لا على مخالفة غيره، و هو التكليف الواقعي المجهول في المقام، مع ان فرض كون وجوبه نفسيا الالتزام بالعقاب عليه على كل حال سواء أصادف الواقع ام لا، و لازم ذلك أن يلتزم القائل بالوجوب النفسي في الاحتياط بعقابين لو خالف المكلف فلم يحتط و صادفت مخالفته مخالفة المجهول ايضا، مع انه خلاف ظاهر مادة الاحتياط، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و ان كان نفسيا فالعقاب على مخالفته» أي على مخالفة نفس وجوب الاحتياط النفسي «لا على مخالفة الواقع».

(1) هذا هو السبب في عدم الاصغاء لهذا القول، و حاصله: ان الوجوب في الاحتياط لا ينحصر في ما ذكر من كونه اما وجوبه مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول، او انه وجوب نفسي، بل يمكن ان يكون وجوبه وجوبا طريقيا بداعي تنجيز الواقع، و لا يرد عليه ما ذكره، لصحة تنجز الواقع بواسطة الاحتياط، و لا يستلزم فرض التنجز مع عدم ملاحظة دليل الاحتياط، و لا يستلزم العقاب على نفس مخالفته بل يكون العقاب في الايجاب الطريقي على مخالفة الواقع دون الطريق.

و على كل، فالاحتياط من الطرق لتنجيز الواقع كالأمارات، و اذا كان من الطرق المنجزة للواقع كان بحكم العقل مما يستحق العبد العقاب على مخالفته لو صادف الواقع، و ان لم يصادف الواقع فهو من التجري، ففي مورد الشبهة الحكمية يصح من المولى مؤاخذة العبد على مخالفة الشبهة بعد جعل الاحتياط له، و الى هذا اشار بقوله: «و ذلك لما عرفت» من ان السبب في عدم الاصغاء الى ما قيل هو ما عرفت «من» عدم الانحصار بما ذكر لوضوح «ان ايجابه» أي ايجاب الاحتياط بناء على

ص: 368

إلا أنها تعارض بما هو أخص و أظهر، ضرورة أن ما دل على حلية المشتبه أخص، بل هو في الدلالة على الحلية نص، و ما دل على الاحتياط غايته أنه ظاهر في وجوب الاحتياط (1)، مع أن هناك قرائن دالة

______________________________

تسليمه «يكون» ايجابا «طريقيا و هو» أي الايجاب الطريقي «عقلا مما يصح ان يحتج به» المولى «على» العبد في مقام «المؤاخذة» له «في مخالفة الشبهة» الحكمية لتنجز الواقع به، و الحال فيه «كما هو الحال في أوامر الطرق و الامارات» في كونها منجزة للواقع و يصح المؤاخذة بعد جعلها على مخالفة الواقع «و» كما هو الحال في «الاصول العلمية» كالاستصحاب المثبت للتكليف بناء على عدم جعل الحكم على طبق مؤدى الاستصحاب، فان حاله في تنجيز الواقع به و كون العقاب فيه منوطا بمخالفة الواقع حال الامارات من غير فرق، و انما يختلف الحال بينه و بين الطرق من هاتين الناحيتين بناء على جعل الحكم على طبقه.

(1) لا يخفى ان قوله: «إلّا انها تعارض» هو من متعلقات قوله في صدر عبارته:

«و ان كان واردا» و تقديره «ان ما دل على وجوب الاحتياط لو سلم» دلالته عليه «و ان كان واردا على حكم العقل» بالبراءة من العقاب «إلّا انها» أي ادلة الاحتياط «تعارض بما هو اخص منها و اظهر» و هو ما دل على حلية المشتبه.

و توضيحه يتوقف على بيان امرين: الاول: بيان معارضتها و انه ليس احدهما واردا على الآخر و رافعا لموضوعه: أي ان ادلة الاحتياط و ادلة البراءة النقلية من المتنافيين في الحكم في موضوع واحد هو الموضوع لكل واحد منهما، و يدل كل واحد منهما على حكم له ينافي ما دل عليه الآخر، و هذا هو ميزان التعارض التام بين الدليلين.

و الثاني: بيان الوجه في تقديم ادلة البراءة النقلية على ما دل على وجوب الاحتياط.

ص: 369

.....

______________________________

و توضيح الاول: ان الموضوع لادلة الاحتياط هو التكليف المجهول، كما انه هو الموضوع لدليل الرفع، و دليل الاحتياط يثبت فعلية هذا التكليف المجهول، و دليل الرفع ينفي فعليته، لان المستفاد من دليل الاحتياط- بناء على الطريقية فيه- هو فعلية التكليف المجهول و تنجيزه به، و المستفاد من دليل الرفع هو رفع فعلية التكليف غير المعلوم، فهما متعارضان.

لا يقال: ان موضوع دليل الاحتياط هو التكليف المجهول، و حكمه فعلية هذا التكليف و تنجيزه به، و الموضوع لدليل البراءة هو عدم العلم بالتكليف، و من الواضح أن قيام الحجة عليه بنحو من الانحاء من العلم به، فعلى هذا يكون دليل الاحتياط واردا على دليل الرفع لانه يصح ان يكون هو الحجة عليه، فهو من انحاء العلم به و به يرتفع موضوع دليل الرفع لان موضوعه عدم العلم و دليل الاحتياط من انحاء العلم بالتكليف.

فانه يقال: ان الظاهر من قوله (ما لا يعلمون) هو عدم العلم بالتكليف نفسه، لا عدم العلم بالحجة عليه و الوظيفة فيه، و من الواضح ان لسان دليل الاحتياط ليس لسان انه علم بالتكليف و ليس هو موجبا للعلم به حقيقة، و على كل فالظاهر مما لا يعلمون هو التكليف الذي لا يعلمونه لا التكليف الذي لا يعلمون الوظيفة فيه.

لا يقال: كيف لا يكون الاحتياط علما مع انه لا ريب في ان العمل بالاحتياط موجب للعلم باصابة الواقع، و الذي يكون واردا على البراءة هو ما أوجب العلم باصابة الواقع او بما هو منزل منزلة الواقع، و الاحتياط أولى ان يكون واردا على البراءة من الامارة، لان الامارة منزلة منزلة الواقع، و الاحتياط موجب للعلم باصابة الواقع فانه نتيجة كالعلم الحقيقي بالتكليف.

فانه يقال: ليس المدار في الورود ان تكون نتيجة العمل موجبة للعلم باصابة الواقع، بل المدار في الورود رفع الشك بالتكليف الذي هو موضوع البراءة، و محل ذلك قبل العمل، و الاحتياط قبل العمل ليس علما بالتكليف حقيقة و لا كالامارة

ص: 370

.....

______________________________

منزلا منزلة العلم، و إلّا فالاطاعة في مورد العلم بالتكليف موجبة للعلم باصابة الواقع، و لا معنى لتوهم كونها واردة على شي ء. هذا بالنسبة الى دليل البراءة.

و اما بالنسبة الى دليل الحلية فالتعارض بين دليل الاحتياط و بينه واضح، لصراحة كون الغاية في دليل الحلية هي العلم بنفس التكليف، فان قوله: حتى تعرف الحرام بعينه صريح في لزوم معرفة التكليف بنفسه، لا معرفة الوظيفة فيه.

و اما الامر الثاني و هو الوجه في ترجيح ادلة البراءة و الاباحة النقليين على دليل الاحتياط، فتوضيحه: ان النسبة بين دليل الاحتياط و دليل الرفع و ان كان هو التعارض مطلقا، لإطلاق ادلة الاحتياط لما يشمل الشبهة بجميع افرادها، و اطلاق دليل الرفع لجميع افراد الشبهة ايضا، إلّا ان دليل الرفع اظهر لكونه نصا في رفع الفعلية للتكليف المجهول، و دليل الاحتياط ظاهر في جعل الوجوب الذي لازمه ظهوره في فعلية التكليف المجهول، و لا اشكال في تقديم النص على الظاهر، لوضوح ان دليل الرفع اذا لم يكن رافعا للفعلية لا تكون له دلالة معقولة على شي ء، بخلاف دليل الاحتياط فانه ان لم يكن دليلا على الوجوب كان دليلا على الاستحباب، لإمكان حمله على استحباب الاحتياط فيما اذا لم يؤخذ بما هو ظاهره من الدلالة على الوجوب، فدليل الرفع اظهر دلالة فيتقدم على ادلة الاحتياط.

و اما بالنسبة الى قاعدة الحل فهي متقدمة عليه ايضا لما ذكرنا في وجه تقديم دليل الرفع عليه من الأظهرية، و لانها اخص منه لانها مما تختص بالشبهة التحريمية، فهي اخص من دليل الاحتياط الشامل لها و للشبهة الوجوبية.

و قد اشار الى الامرين في قاعدة الحل بقوله: «إلّا انها» أي ان ادلة الاحتياط «تعارض بما هو اخص» منها «و اظهر» فاشار الى الاخصية بقوله: «ضرورة ان ما دل على حلية المشتبه اخص» لما عرفت من اختصاصها بالشبهة التحريمية، و اشار الى الأظهرية، بقوله: «بل هو في الدلالة على الحلية نص» أي ان دليل الحلية نص في الحلية، لان قوله: فهو لك حلال نص في ذلك، و لانه لو لم يرد منه الحلية لم يبق

ص: 371

القرائن التي تقتضي كون الأمر بالاحتياط ارشاديا

على أنه للارشاد، فيختلف إيجابا و استحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه. و يؤيده أنه لو لم يكن للارشاد يوجب تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعا، مع أنه آب عن التخصيص قطعا، كيف لا يكون قوله قف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة للارشاد؟ مع أن المهلكة ظاهرة في العقوبة، و لا عقوبة في الشبهة البدوية قبل إيجاب الوقوف و الاحتياط، فكيف يعلل إيجابه بأنه خير من الاقتحام في الهلكة (1)؟

______________________________

له معنى يسوغ حمله عليه «و» هو بخلاف دليل الاحتياط فان «ما دل على الاحتياط غايته انه ظاهر في وجوب الاحتياط» لظهور الهيئة في الامر به في الوجوب، و لانه لو لم يحمل على الوجوب لكان لحمله على الاستحباب مجال واضح، لكثرة ما يراد من هيئة الامر الاستحباب.

(1) لا يخفى ان لزوم كون الامر بالاحتياط للارشاد انه يختلف حاله بالنسبة الى ما يرشد اليه، فان كان المرشد اليه واجبا كان الارشاد الى الوجوب، و ان كان المرشد اليه استحبابا كان ارشادا الى الاستحباب، فوصف الامر الارشادي بالوجوب مرة و بالاستحباب اخرى انما هو باعتبار ما يرشد اليه، فان كان واجبا كان الارشاد اليه وجوبا ارشاديا، و ان كان مستحبا كان الارشاد استحبابيا، و اليه اشار بقوله:

«فيختلف ايجابا و استحبابا» أي يتحقق الامر الارشادي في مقام وصفه بالوجوب و الاستحباب «حسب اختلاف ما يرشد اليه».

و لا يخفى ايضا انه لو كان للارشاد لا يكون شاملا للشبهة البدوية كما اشرنا اليه سابقا، للزوم كونه مرشدا الى ما كان الأمر فيه فعليا من غير قبل ادلة الاحتياط، و لا امر فعلي في الشبهة البدوية.

و اما القرائن التي تقتضي كونه للارشاد امور:

ص: 372

.....

______________________________

منها: ما ورد في بعضها من التعليل الظاهر في كون الامر استحبابيا، كرواية النعمان بن بشير التي هي (قال سمعت رسول اللّه يقول: ان لكل ملك حمى و ان حمى اللّه حلاله و حرامه و المشتبهات بين ذلك، كما لو ان راعيا رعى الى جانب الحمى لم يثبت غنمه ان تقع في وسطه فدعوا المشتبهات)(1) فانه ظاهر في ان الامر بترك الشبهات لئلا يجرأ في ارتكاب المحرمات و ترك الواجبات، فهو ظاهر في الارشاد الى التورع و الاعتياد على ترك حمى اللّه.

و منها: ما ورد في بعض الاخبار ان في ارتكاب الشبهات عتابا، بعد قوله ان في فعل المحرمات عقابا، و لو كان الامر فيه للوجوب لكان مما عليه العقاب لا العتاب.

و منها: انه لو لم يكن الامر فيه للارشاد و كان للوجوب للزم تخصيصه بالشبهات الموضوعية لعدم وجوب الاحتياط فيها عند الكل، و بالشبهات الوجوبية لقول معظم العلماء من الاصوليين اجمع و جل الاخباريين بعدم وجوب الاحتياط فيها، مع ان سياق بعض ادلة الاحتياط آب عن التخصيص كروايات التثليث، لانها في مقام الحصر للامور في ثلاثة اشياء: أمر بين رشده، و امر بين غيه، و امر بين ذلك ...

و حلال بين، و حرام بين، و شبهات بين ذلك، و سياق الحصر آب عن التخصيص، فلا بد من حمله على الارشاد لئلا يلزم التخصيص، و الى هذا اشار بقوله: «و يؤيده انه لو لم يكن» الامر الاحتياطي «للارشاد يوجب تخصيصه لا محاله ببعض الشبهات اجماعا» كالشبهة الموضوعية و الوجوبية «مع انه آب عن التخصيص قطعا» كما عرفت.

و منها: ان اخبار الاحتياط و اخبار الوقوف عند الشبهة مرجعهما واحد و هو الكف عن الشبهة و تركها، و في اخبار الوقوف قرينة واضحة على ان المراد بما يكون الوقوف عنده لازما هو غير الشبهة البدوية، للتعليل فيها بفرض المهلكة فيها و ان الاقتحام

ص: 373


1- 52. ( 1) وسائل الشيعة ج 18: 122/ 12 باب 12 من أبواب صفات القاضي.

.....

______________________________

في الشبهة اقتحام في الهلكة، و قد عرفت انه لا مهلكة في الشبهة البدوية، و انما المهلكة في مثل الشبهة قبل الفحص و الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي لتنجز الامر فيها الموجب لكون الاقتحام فيها اقتحاما في المهلكة التي هي العقوبة، لان من الواضح ان الظاهر من المهلكة في قوله عليه السّلام: (و قفوا عند الشبهة فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة)(1) هو العقاب، و حيث لا عقاب في الشبهة البدوية فلا بد من حمله على الارشاد لما فيه الهلكة، و هو غير الشبهة البدوية كما مر بيان ذلك مفصلا: من ان فرض الهلكة يقتضي الحمل على الارشاد.

و الى هذا اشار بقوله: «كيف لا يكون قوله قف عند الشبهة» و لا يخفى ان اسم يكون هو هذه الجملة كلها، و هي قوله قف عند الشبهة «فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» و خبر يكون هو قوله «للارشاد» أي كيف لا يكون الامر في قف عند الشبهة للارشاد و قد علله بانه خير من الاقتحام في المهلكة «مع ان المهلكة ظاهرة في العقوبة و لا عقوبة في الشبهة البدوية قبل ايجاب الوقوف و الاحتياط» بتركها، لانه لا اشكال في العقاب في الشبهة البدوية قبل ايجاب الوقوف و الاحتياط فيها من العقاب بلا بيان، و قد عرفت ايضا انه لا يمكن ان تكون المهلكة فيها هي المهلكة الحاصلة بواسطة نفس ايجاب الوقوف و الاحتياط، لان الحكم لا يثبت موضوعه، و حيث لا هلكة في الشبهة البدوية «فكيف يعلل ايجابه» أي ايجاب الوقوف فيها «بانه خير من الاقتحام في الهلكة» فلا بد و ان يكون الامر فيها للارشاد الى ما فيه الهلكة و هو غير الشبهة البدوية كالشبهة قبل الفحص و الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي.

ص: 374


1- 53. ( 1) وسائل الشيعة ج 18: 116/ 15 باب 62 من أبواب صفات القاضي.

لا يقال: نعم، و لكنه يستكشف منه على نحو الإنّ إيجاب الاحتياط من قبل، ليصح به العقوبة على المخالفة (1).

______________________________

(1) حاصله: ان في قوله قف عند الشبهة و تعليله لذلك بفرض المهلكة في الاقتحام فيها امور ثلاثة:

ظهور قوله: (قف) في الامر المولوي الوجوبي دون الارشادي.

و اطلاقه الشامل للشبهة البدوية.

و التعليل لهذا الوجوب في الشبهة بان الاقتحام فيها من الاقتحام في الهلكة.

و يقتضي المحافظة على هذه الامور الثلاثة ان يكون هناك امر فعلي منجز في الشبهة البدوية غير هذا الامر الدال عليه اخبار الوقوف و الاحتياط، و على فرض رفع اليد عن الامر الاول و هو الظهور في الايجاب المولوي، لظاهر التعليل بان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، بان نقول بان الامر فيه للارشاد، فلا بد من المحافظة على الامرين الآخرين، اما الاطلاق فلانه لا وجه لرفع اليد عن الاطلاق من دون وصول المقيد له، و اما التعليل فهو كنص في ان مورد الشبهة من الاقتحام في الهلكة، و مع المحافظة على هذين الظهورين، و هما الاطلاق الشامل للشبهة البدوية، و التعليل بان الاقتحام فيها من الاقتحام في الهلكة لا مناص من الالتزام بذلك، و هو ان هناك امرا فعليا بالاحتياط منجزا فيها، و هو غير هذا الامر الاحتياطي، فيستكشف بطريق الإن و هو الانتقال من المعلول الى العلة و من اللازم الى الملزوم تحقق الامر الفعلي المنجز في الشبهة البدوية، و ان هناك امرا بالاحتياط فيها غير هذه الاوامر لتصح العقوبة على مخالفتها، و اليه اشار بقوله: «نعم و لكنه يستكشف عنه» أي عن هذا الامر بالوقوف «على نحو الإنّ» لاجل المحافظة على الامور الثلاثة، او الأمرين الاخيرين- المتقدم ذكرها- انه قد صدر من الشارع «ايجاب الاحتياط فيها من قبل» أي من قبل هذه الاخبار الدالة على الاحتياط

ص: 375

فإنه يقال: إن مجرد إيجابه واقعا ما لم يعلم لا يصحح العقوبة، و لا يخرجها عن أنها بلا بيان و لا برهان، فلا محيص عن اختصاص مثله بما يتنجز فيه المشتبه لو كان كالشبهة قبل الفحص مطلقا، أو الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، فتأمل جيدا (1).

______________________________

و الوقوف، فهو احتياط سابق غير هذا الوقوف و الاحتياط «ليصح به» أي ليصح بواسطة الامر الاحتياطي السابق «العقوبة على المخالفة» في الشبهة البدوية.

(1) توضيحه: انه لا يعقل كون الامر الواقعي غير الواصل فعليا منجزا لملازمة الفعلية المنجزة للوصول، فمع عدم الوصول و بقاء الامر الواقعي على حده غير الواصل لا يعقل ان يكون فعليا منجزا، و من الواضح ان العقاب لا يصح إلّا على الفعلي المنجز.

اذا عرفت هذا فنقول: الامر الاحتياطي الآخر المدعي استكشافه ان كان غير و اصل فلا يكون مستند الصحة العقوبة على المخالفة في الشبهة البدوية، و ان كان و اصلا فحاله حال هذه الاخبار اذا لم يكن فيه اشارة الى انه قد صدر ليكون مصححا للعقوبة على الشبهة البدوية، و لم نجد في اخبار الاحتياط ما فيه هذه الدلالة، فلا بد من حمل هذه الاوامر الاحتياطية و الاوامر الدالة على وجوب الوقوف على ما كان الامر في مورد الشبهة فعليا منجزا، و ذلك في مثل الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، فان العقاب فيها يكون مفروضا، و مثله العقاب في الشبهة البدوية قبل الفحص، و اليه اشار بقوله: «فانه يقال ان مجرد ايجابه» أي ان مجرد ايجاب الاحتياط «واقعا ما لم» يكن و اصلا و «يعلم» به «لا يصحح العقوبة» على المخالفة في الشبهة البدوية بعد الفحص «و لا يخرجها عن انها» من العقاب «بلا بيان و لا برهان» و هو قبيح غير معقول من الشارع «فلا محيص عن اختصاص مثله» أي مثل ما ورد من الاحتياط و الوقوف «بما يتنجز فيه المشتبه لو كان» و ذلك «كالشبهة

ص: 376

الاستدلال بالعقل على الاحتياط: بالعلم الاجمالي
اشارة

و أما العقل: فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه و ترك ما احتمل حرمته، حيث علم إجمالا بوجود واجبات و محرمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته، مما لم يكن هناك حجة على حكمه، تفريغا للذمة بعد اشتغالها، و لا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي إلا من بعض الاصحاب (1).

______________________________

قبل الفحص مطلقا» و ان كانت بدوية وجوبية او تحريمية «او الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي».

(1) لا يخفى ان هذا العلم الاجمالي في المقام و ان كان يمكن ادعاؤه في الواجبات و المحرمات كما اشار اليه المصنف، الّا انه لما كان محل البحث و النزاع بين الاصوليين و الاخباريين هو الشبهة التحريمية دون الوجوبية- لانهم يقولون في الشبهة الوجوبية بالبراءة كالاصوليين- فينبغي حصره في المحرمات، لانها هي محل النزاع.

و على كل، فحاصل الدعوى ان العقل مستقل بلزوم الاحتياط في موارد الشبهة لما ثبت من منجزية التكاليف الواقعية بالعلم الاجمالي كالعلم التفصيلي، و من الواضح انا نعلم اجمالا بوجود احكام واقعية في ضمن الشبهات التي لم تقم حجة على الحكم الواقعي فيها، و اثر هذا العلم الاجمالي هو الاحتياط فيها لتحصيل العلم اليقيني بفراغ الذمة التي اشتغلت بالتكاليف الواقعيّة المنجّزة بهذا العلم الاجمالي، فان تنجيز العلم الاجمالي لها و تأثيره في لزوم تفريغ الذمة بالاحتياط في الشبهة لانها من اطرافه من المسلّم عند جلّ الاصحاب، و ان خالف فيه بعضهم، و هو لا يضر لان المفروض ان القائلين بالبراءة فيها ممن يرى منجزيّة العلم الاجمالي و تأثيره.

و قد اشار الى هذا العلم الاجمالي بقوله: «حيث علم اجمالا ... الى آخر الجملة» و اشار الى ان أثر هذا العلم الاجمالي هو الاحتياط في الشبهة لانها من اطرافه بقوله: «و لا خلاف في لزوم الاحتياط ... الى آخر الجملة».

ص: 377

الجواب الاول عن العلم الاجمالى

و الجواب: إن العقل و إن استقل بذلك، إلا أنه إذا لم ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي و شك بدوي، و قد انحل هاهنا، فإنه كما علم بوجود تكاليف إجمالا، كذلك علم إجمالا بثبوت طرق و أصول معتبرة مثبتة تكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد، و حينئذ لا علم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من الطرق و الاصول العملية (1).

______________________________

(1) هذا هو الجواب الاول، و سيأتي منه جواب ثان حاصله: دعوى ان العلم الاجمالي مقيد من أصله بوجود الاحكام الواقعية في ضمن ما قامت عليه الطرق، و في غيرها من موارد الشبهة لا علم اجمالي لنا اصلا و انما هو احتمال محض.

و حاصل هذا الجواب الاول المبني على كون الشبهة من اطراف المعلوم بالاجمال، و المتحصّل من مجموع كلامه في المقام هو: ان هذا العلم الاجمالي منحلّ لاحتمال انطباقه من الاول على الاحكام الثابتة بالامارات و بالاصول العملية المثبتة للتكاليف.

و توضيح ذلك: ان انحلال العلم الاجمالي، تارة يكون انحلالا تفصيلا حقيقة، و ذلك فيما اذا انحلّ الى علم تفصيلي و شك بدوي، كما اذا علمنا اجمالا بوجود اناء نجس لزيد قطعا في ضمن اناءين او اكثر، و كان الاناء الآخر محتمل النجاسة و ذلك فيما اذا علمنا اجمالا بالنجس و كان اناء زيد هو المتيقن، ثم علمنا تفصيلا باناء زيد النجس، فان العلم الاجمالي ينحلّ الى علم تفصيلي و شك بدوي.

و اخرى: يكون الانحلال تفصيليا و لكنه يكون حكما لا حقيقة- كما في المثال المذكور- الّا ان البيّنة تقوم على ان هذا الاناء المعيّن هو اناء زيد النجس، فان العلم الاجمالي و ان انحلّ تفصيلا الّا انه حكما لا حقيقة، لبداهة عدم حصول العلم بالبينة، و لكنه لما كانت حجيتها باعتبار ان ما تقوم عليه هو الواقع، و كان قيامها بنحو ان يكون ذلك المعلوم بالاجمال الذي هو اناء زيد هو هذا الاناء الخاص، كان العلم

ص: 378

.....

______________________________

الاجمالي منحلا تفصيلا الى ما هو الواقع تعبدا لا حقيقة، فهو انحلال تفصيلي حكمي لا حقيقي، اما كونه تفصيليا فلفرض كون البينة كانت بنحو التعيين لما هو المعلوم بالاجمال، و اما كونه حكميا فلانه تعبدي لا حقيقي لعدم حصول العلم بها و انما الحاصل بها هو الظن.

و ثالثة: ان يكون انحلال العلم الاجمالي لاجل احتمال الانطباق، و ذلك كما اذا علمنا بنجاسة احد الإناءين من دون عنوان كونه لزيد، و تقوم البيّنة على ان هذا الاناء المعيّن نجس فقط من دون كونه هو الاناء المعلوم بالاجمال، فان العلم الاجمالي ينحل بقيام هذه البيّنة لاحتمال انطباق النجس المعلوم بالاجمال عليه، فانّا و ان احتملنا ايضا ان يكون المعلوم بالاجمال غيره لاحتمال ان يكون هو الاناء الآخر، الّا انه لما كانت منجزية العلم الاجمالي مشروطة بان يكون منجزا على أي تقدير، و مع احتمال انطباقه على ما قامت عليه البينة لا يكون منجزا على أي تقدير، لانه في فرض انطباقه على ما قامت عليه البيّنة لا يعقل ان يكون مؤثرا بما هو علم اجمالي، للزوم اجتماع بعثين فعليّين على واحد، احدهما من ناحية البيّنة و الثاني من ناحية العلم الاجمالي، و البعث الفعلي المنجز فيما قامت عليه البينة هو البعث الآتي من جانب البيّنة، لان النجس الواقعي- بما هو واقعي- غير معلوم لا يعقل ان يكون منجزا لقيام التنجيز بالوصول، و بما هو معلوم بالاجمال غير معقول ان يكون منجزا ايضا، لما عرفت من لزوم اجتماع بعثين فعليين على واحد، و اذا لم يكن العلم منجزا في جميع الاطراف و على أي تقدير لا يكون مؤثرا في الطرف الآخر المقابل لما قامت عليه البينة، فمع احتمال الانطباق لا علم بتكليف فعلي في غير ما قامت عليه البيّنة، و حيث كان مشكوكا فهو مجرى للاصل.

و قد اتضح مما ذكرنا: ان هذا الانحلال ليس انحلالا تفصيليا لا حقيقة و لا حكما، أما كونه ليس بحقيقي فواضح لعدم العلم، و اما انه ليس بانحلال تفصيلي حكما، فلوضوح ان البيّنة لم تقم على ان هذا الاناء النجس هو المعلوم بالاجمال لتكون

ص: 379

.....

______________________________

تفصيليتها باعتبار حكايتها عن نفس المعلوم بالاجمال، و حكميّتها باعتبار كونها تعبدية لا علمية حقيقة.

فاذا عرفت هذه المقدمة، نقول: ان انحلال المعلوم بالاجمال من التكاليف الواقعية بالطرق و الاصول المثبتة للتكاليف هو من قبيل الثالثة و هو الانحلال لاحتمال الانطباق، لوضوح كونه ليس بانحلال تفصيلي حقيقة لعدم حصول العلم من الطرق و الاصول المثبتة، و ليس بانحلال تفصيلي حكمي ايضا، لان المجعول في الامارات اما هو محض حجيتها و انها منجزة لو اصابت و معذرة لو اخطأت من دون جعل الحكم الطريقي فيها، و سيأتي الكلام فيه من المصنف، و ان الانحلال فيه لاجل احتمال الانطباق ايضا، بل هو اولى بالانحلال باحتمال الانطباق من الانحلال باحتمال الانطباق بناء على جعل الحكم الطريقي، و ان كان في دعوى هذه الاولوية من المصنف نظر سننبّه عليه ان شاء اللّه تعالى. و اما ان يكون المجعول فيها هو الحكم الطريقي بلسان ان مؤدّاها حكم واقعي، فلان لسان الجعل فيها و ان كان هو كون مؤدّاها حكما واقعيا، الّا انه لا دلالة فيها على انه لا حكم واقعي غير ما قامت عليه الامارة.

و بعبارة اخرى: ان الانحلال التفصيلي انما هو فيما اذا دلّ الدليل الحال للعلم الاجمالي على كون مؤدى الدليل الحال هو المعلوم بالاجمال و نفيه عن غير ما قام عليه الدليل الحال، و من الواضح ان لسان الجعل في الامارة لا يدل على اكثر من كون مؤدّاها حكما واقعيا، و ليس لها دلالة على ان الحكم المعلوم بالاجمال هو ما قامت عليه الامارة و لا على نفيه عن غيرها، فيكون حالها بالنسبة الى الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال حال البيّنة القائمة على نجاسة اناء معين بالنسبة الى العلم الاجمالي بنجاسة احد الإناءين، و قد عرفت ان الانحلال فيها لاحتمال الانطباق لا حقيقة لا حكما، و الامارات بالنسبة الى الاحكام الواقعية المعلومة بالاجمال كذلك، فانه لا دلالة للسان الجعل فيها بان المعلوم بالاجمال هو مؤدّى الامارة، بل

ص: 380

.....

______________________________

غاية دلالته هو ان المؤدّى فيها حكم واقعي، فليس للسان الجعل دلالة على نفي الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال في غيرها، بخلاف الانحلال بالنحو الثاني المتقدّم، و هو فيما اذا علمنا بنجاسة اناء زيد و قامت البينة على ان إناء زيد هو هذا الاناء المعيّن فانه انحلال تفصيلي حكمي، لان لسان البيّنة كون هذا الإناء هو اناء زيد هذا بنحو المطابقة، و تدل بالالتزام على نفي اناء زيد عن غير هذا الاناء، و لذا كان انحلالا تفصيليا حكميّا لعدم حصول العلم من البيّنة، و الّا لكان انحلالا تفصيليا حقيقيا.

و لا يخفى ان ظاهر المصنف في صدر عبارته انه من الانحلال التفصيلي الحكمي، و لكنه صرّح في ذيل عبارته بانه من الانحلال لاحتمال الانطباق.

و على كلّ، فقد اتضح: ان العلم الاجمالي المدّعى في المقام لا يقتضي الاحتياط في موارد الشبهة التي لم تقم حجة على الحكم فيها، لانه منحلّ بقيام الطرق و الامارات و الاصول المثبتة للتكاليف، لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال على مؤدّى الامارة، و مع احتمال الانطباق لا يكون العلم منجزا في غير مورد الطرق و الامارات، و يكون من الشك البدوي الذي هو مجرى الاصول النافية للتكليف، و لذا قال (قدس سره): «و الجواب ان العقل و ان استقل بذلك» أي بلزوم الاحتياط في اطراف العلم الاجمالي «إلّا انه اذا لم ينحل العلم الاجمالي الى علم تفصيلي و شك بدوي».

و الظاهر ان مراده من العلم التفصيلي هو العلم التفصيلي بالاحكام التي قامت عليها الطرق المحتمل انطباق الاحكام الواقعية المعلومة بالاجمال عليها، و الى شك بدوي في غيرها و هو كمورد الشبهة التحريمية «و قد انحل هاهنا» كذلك «فانه كما علم بوجود تكاليف» واقعية «اجمالا كذلك علم اجمالا بثبوت طرق و اصول معتبرة مثبتة لتكاليف» ب «مقدار تلك التكاليف المعلومة او ازيد» و قوله بمقدار تلك التكاليف او ازيد لاجل انه لو كان الثابت بالامارات مقدارا من التكاليف اقل

ص: 381

إن قلت: نعم، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقا بالعلم بالواجبات (1).

______________________________

من المقدار المعلوم بالاجمال لبقى العلم الاجمالي منجزا بالنسبة الى تلك التكاليف الزائدة على ما قامت عليه الطرق، و لذا قال (قدس سره): «و حينئذ» أي و حين ثبوت تكاليف في الامارات بمقدار المعلوم بالاجمال «لا» يبقى لنا «علم بتكاليف آخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من الطرق و الاصول العملية» المثبتة للتكاليف، و قد عرفت ان الوجه في الانحلال هو احتمال الانطباق.

(1) توضيحه: ان العلم التفصيلي بحكم في بعض اطراف العلم الاجمالي على اقسام: لانه تارة يكون العلم التفصيلي متحدا مع العلم الاجمالي عنوانا، كما اذا علم اجمالا بنجاسة اناء زيد ثم علم تفصيلا او حكما بان هذا الاناء المعيّن هو اناء زيد، و لا ريب في انحلال العلم الاجمالي بهذا العلم التفصيلي الحقيقي أو الحكمي.

و اخرى: يكون العلم التفصيلي قد تعلّق بعنوان غير العنوان الذي تعلّق به العلم الاجمالي و كان حادثا بعد العلم الاجمالي، كما اذا علم بحرمة احد الإناءين لخمريته ثم بعد علم تفصيلا بحدوث غصبيّة لاحد الإناءين المعيّن، بمعنى ان يعلم ان هذا الاناء الخاص بعينه غصب. و لا ريب ايضا ان هذا العلم التفصيلي بحرمة الغصب في الاناء المعيّن لا يحلّ العلم الاجمالي بحرمة احد الإناءين لانه خمر، لان الاثر في الخمر حرمة شربه، و الاثر في الغصب حرمة التصرف باعتبار انه تصرّف في سلطان الغير.

و مما ذكرنا يظهر العلم بمحالية الانطباق، و ان الحرمة من حيث كونه خمرا لا يعقل ان تنطبق على الحرمة من حيث كونه غصبا، لاختلاف الاثر في كل منهما، و للعلم بمحالية انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل.

و ثالثة: لا يكون حادثا بل كان مقارنا للعلم الاجمالي، كما اذا كان مقارنا للعلم الاجمالي بالخمرية العلم التفصيلي بالغصبية، فانه ايضا لا يحلّ العلم الاجمالي لما عرفت من اختلاف آثارهما و محالية الانطباق فيهما.

ص: 382

.....

______________________________

لا يقال: ان المعلوم بالاجمال و هو خمرية احد الإناءين ثم العلم التفصيلي الحادث بغصبية احد الإناءين و ان كان لا يحلّ العلم الاجمالي بالخمرية لمحالية الانطباق، إلّا انه يحلّ العلم الاجمالي بالخمرية، لان الاناء الذي هو الخمر لا يملك لخمريته، و مع تنجز العلم التفصيلي بالغصبيّة لا اثر للعلم الاجمالي بخمريته لانه يجب الاجتناب عنه و عدم التصرّف فيه باي نحو من انحاء التصرّف فلا اثر فيه للعلم الاجمالي، و يبقى الطرف الثاني مشكوك الخمريّة فينفى بالاصل.

فانه يقال اولا: ان كون المعلوم بالاجمال هو الخمرية من باب المثال، فلو كان العلم الاجمالي هو النجاسة دون الخمريّة لأثر.

و ثانيا: ان العلم الاجمالي انما لا يؤثر حيث لا يبقى له مع العلم التفصيلي اثر اصلا، و العلم الاجمالي بالخمرية و ان كان لا يؤثر من ناحية لزوم الاجتناب من ناحية حرمة التصرّف في مال الغير، لكنه يؤثر من ناحية حرمة مباشرته لانه نجس و وجوب غسل اليد منه.

و ثالثا: ان ملكيّته و ان انتفت لخمريته لكن بالامارة حق الاختصاص منه لا ينتفي لإمكان معالجته و عوده خلا.

و رابعة: ان يكون الفرق بين العلم الاجمالي و العلم التفصيلي هو السبق و الحدوث فقط، كما اذا علم بحرمة احد الإناءين و لو من دون عنوان، ثم علم بحرمة الاناء المعين لحرمة حادثة كالربا مثلا، و في هذا الفرض ايضا لا ينحلّ العلم الاجمالي بهذا العلم التفصيلي، لوضوح انه مع فرض سبق العلم الاجمالي يكون تأثيره سابقا ايضا، و مع سبق تأثيره بلزوم الاجتناب في اطرافه لا يكون العلم التفصيلي بالحرمة الحادثة موجبا لانحلاله.

اذا عرفت هذا فنقول: ان الامارات بالنسبة الى العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية من قبيل القسم الاخير، لوضوح تأخر الامارات عن العلم الاجمالي، فلا تكون الامارات موجبة لانحلال العلم الاجمالي في المقام، و الى هذا اشار بقوله:

ص: 383

قلت: إنما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثا، و أما إذا لم يكن كذلك بل مما ينطبق عليه ما علم أولا، فلا محالة قد انحل العلم الاجمالي إلى التفصيلي و الشك البدوي (1).

______________________________

«ان قلت نعم» انا نسلّم ان العلم الاجمالي ينحل بالعلم التفصيلي و لو كان انحلالا حكميا علميا لا علما «لكنه» فيما «اذا لم يكن العلم» التفصيلي بالاحكام التي هي مؤدى الامارات «مسبوقا بالعلم» الاجمالي «بالواجبات» او المحرمات، فانه اذا كان كذلك لا يكون العلم التفصيلي حالا للعلم الاجمالي، و الامارات بالنسبة الى العلم الاجمالي بالاحكام كذلك لتأخرها عن العلم الاجمالي.

(1) و توضيح الجواب: انه فرق بين تأخر الحكم التفصيلي عن العلم الاجمالي، و بين تأخر الجعل فيه عن العلم الاجمالي، فان تأخر الجعل لا يضر اذا كان متعلق العلم التفصيلي مما يمكن انطباق المعلوم بالاجمال عليه، و المتأخر في الامارة هو جعلها، و اما الحكم فيها بعد ان كان بلسان انه هو الواقع فلا مانع من انطباق المعلوم بالاجمال عليها، و ذلك فيما اذا صادفته بان اصابت الواقع.

و الحاصل: ان الامارة لها دلالة ذاتية غير محتاجة الى الجعل و الاعتبار، و هي دلالتها على ان مؤدّاها هو الواقع، و الجعل انما يتعلق بان ما قامت عليه قد اعتبره الشارع حكما واقعيا، فاعتبار هذا الحكم الذي هو مؤدى الامارة متأخر عن العلم الاجمالي، لا ان الحكم الذي قامت عليه الامارة هو حكم متأخر عن الحكم المعلوم بالاجمال، و ليس هذا كقيام البيّنة على ان هذا الاناء الخاص المعين حرام لاجل الرّبا بعد العلم بحرمته و لو بلا عنوان، الذي هو القسم الرابع المشار اليه في ان قلت، و انما لا تكون هذه الحرمة الحادثة حالّة للعلم الاجمالي لمحالية الانطباق بعد ان كان المفروض فيها كونها حكما حادثا غير الحكم المعلوم بالاجمال، و اما تأخر الاعتبار بعد ان كان مدلول الامارة ان مؤدّاها هو الواقع فلا يمنع عن احتمال الانطباق و هو واضح، فالمضر هو حدوث الحكم كالعلم بحرمة الاناء المعيّن بحرمة حادثة غير الحرمة

ص: 384

إن قلت: إنما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالاجمال ذلك إذا كان قضية قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته فعلا، و أما بناء على أن قضية حجيته و اعتباره شرعا ليس إلا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا، و هو تنجز ما أصابه و العذر عما أخطأ عنه، فلا انحلال لما علم بالاجمال أولا، كما لا يخفى (1).

______________________________

المعلومة بالاجمال، لا فيما اذا كان الجعل حادثا و لكن الحكم كان مما يصح ان ينطبق عليه المعلوم بالاجمال، كما هو الحال في الامارة بالنسبة الى الاحكام المعلومة بالاجمال، و الى هذا اشار بقوله: «قلت انما يضر السبق» فيما «اذا كان المعلوم اللاحق حادثا» حكما لا جعلا «و اما اذا لم يكن كذلك بل» كان الحكم المتأخر العلم به لتأخر الجعل فيه «مما» يصح ان «ينطبق عليه ما علم اولا فلا محالة» يكون من الموارد التي «قد انحل العلم الاجمالي» فيها «الى» العلم «التفصيلي» لاحتمال الانطباق «و الشك البدوي».

(1) توضيحه: ان ملخص ما مرّ هو ان العلم التفصيلي بحكم يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه يوجب انحلال العلم الاجمالي، و هذا انما يتمّ حيث يكون المتحصّل من لسان الجعل في الامارة هو جعل الحكم الطريقي، فان مؤدّاها يكون حكما طريقيا، و يصح على هذا ان يقال بالانحلال لاحتمال انطباق الحكم الواقعي على هذا الحكم الطريقي.

و اما اذا قلنا بان المجعول في الامارة هو نفس حجيتها و كونها منجزة لو اصابت و معذرة لو خالفت فلا يكون هناك حكم مجعول اصلا، و على هذا فلا حكم معلوم تفصيلا حتى يحتمل الانطباق عليه، فكيف يقال بالانحلال لاحتمال الانطباق مع انه ليس هناك في الامارات حكم حتى ينطبق عليه المعلوم بالاجمال، فلا موضوع لاحتمال الانطباق لوضوح ان المعلوم بالاجمال هو الحكم، و المعلوم بالتفصيل هو نفس الحجية في الامارات من دون ان يكون هناك حكم، فاي شي ء ينطبق عليه

ص: 385

قلت: قضية الاعتبار شرعا- على اختلاف ألسنة أدلته- و إن كان ذلك على ما قوينا في البحث، إلا أن نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال في بعض الاطراف يكون عقلا بحكم الانحلال، و صرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف و العذر عما إذا كان في سائر الاطراف، مثلا إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد بين الإناءين و قامت البينة على أن هذا إناؤه، فلا ينبغي الشك في أنه كما إذا علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلا عن خصوصه دون الآخر (1)، و لو لا ذلك لما كان يجدي

______________________________

الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال؟ و الى هذا اشار بقوله: «ان قلت انما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له» أي للتكاليف «بمقدار المعلوم بالاجمال ذلك» و هو الانحلال للعلم الاجمالي بالعلم التفصيلي باحكام يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليها فيما «اذا كان قضية الطريق على تكليف موجبا لثبوته فعلا» و هذا انما يكون بناء على ان المجعول في الامارات هو الحكم الطريقي على مؤداها، «و اما بناء على ان قضية» أي بناء على ان قضية الجعل في الطريق هو جعل محض «حجيته و اعتباره شرعا» من دون ان يكون هناك حكم مجعول على طبقها اصلا بل «ليس» المجعول فيها «الّا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا» و هو القطع على الطريق الشرعي و هو الامارات بان يكون لها من الآثار ما للقطع من الآثار «و هو تنجز ما اصابة» الطريق «و العذر عما أخطأ عنه» الطريق، و على هذا فلا حكم في مورد الطرق و الامارات حتى يمكن ان ينطبق عليه المعلوم بالاجمال، و حيث لا حكم في الامارات معلوم بالتفصيل «فلا انحلال لما علم بالاجمال اولا كما لا يخفى».

(1) حاصله: انه لا يختلف الحال في انحلال العلم الاجمالي لاحتمال الانطباق سواء قلنا بان المجعول في الامارة هو الحكم الطريقي، او كان المجعول فيها هو نفس الحجية و الطريقيّة و انها منجزة لو اصابت و معذرة لو اخطأت كما هو المختار للمصنف، و تقدم تحقيقه في مبحث جعل الامارة من مباحث الظن، بل لو قلنا بان المجعول فيها

ص: 386

.....

______________________________

هو نفس الطريقية فانه اولى بالانحلال لاحتمال الانطباق، لان الامارة لو اصابت كان المنجّز بها نفس الحكم الواقعي من دون حاجة الى تكلف او تأويل اصلا، بخلاف ما لو كان المجعول هو الحكم الطريقي فانه حيث كان هناك حكم ظاهري مجعول فعلا على طبقها فلا بد من التأويل، بان يكون هذا الحكم الظاهري لبّا هو الحكم الواقعي، و اما على المختار فلا حكم ظاهري مجعول، بل ليس هناك عند الاصابة الانفس الحكم الواقعي، فاحتمال الانطباق على المختار اولى.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «قلت قضية الاعتبار شرعا على اختلاف السنة ادلته» كقوله عليه السّلام في بعضها: (فعليك بهذا الجالس)(1) مشيرا الى زرارة، و قوله عليه السّلام في بعضها: (العمري و ابنه ثقتان فما حدثا فعني يحدثان)(2) «و ان كان ذلك» و هو كون المجعول في الامارة هو نفس الطريقية و ترتيب آثار القطع فيها و هو المنجزية و المعذرية «على ما قويناه في البحث» المتقدم «الّا ان» الحال لا يختلف فيما ذكرناه من الانحلال لان «نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال في بعض الاطراف يكون عقلا بحكم الانحلال» فيما اذا كان المجعول هو الحكم الطريقي، بل قد عرفت انه اولى بذلك.

ثم اشار الى معنى الانحلال «و» هو ان معنى الانحلال للمعلوم بالاجمال الى العلم التفصيلي و الشك البدوي هو «صرف تنجزه الى ما إذا كان في ذلك الطرف» الذي قامت عليه الامارة، فيكون تنجّز العلم الاجمالي منصرفا الى هذا الطرف الذي اصابه الطريق كما لو كان معلوما حقيقة تفصيلا «و العذر» في مخالفته «عما اذا كان المعلوم بالاجمال في سائر الاطراف» التي هي غير الطرف الذي قامت عليه الامارة، ثم مثل لذلك توضيحا للامر بقوله: «مثلا اذا علم اجمالا بحرمة اناء زيد بين

ص: 387


1- 54. ( 1) البحار ج 2: ص 246. عن الكشي، ص 136.
2- 55. ( 2) ورد في الكافي ج 1، ص 330( ... فما ادّيا اليك عني فعني يؤدّيان).

القول بأن قضية اعتبار الامارات هو كون المؤديات أحكاما شرعية فعلية، ضرورة أنها تكون كذلك بسبب حادث، و هو كونها مؤديات الامارات الشرعية (1).

______________________________

الإناءين و قامت البينة على ان هذا» الاناء المعيّن هو «إناؤه» فالبينة القائمة بهذا النحو صرف تنجز العلم الاجمالي الى خصوص الاناء الذي قامت البينة على انه اناء زيد و يجري الاصل النافي في الاناء الثاني «فلا ينبغي الشك في انه» أي لا ينبغي الشك في ان الحال في صرف تنجز العلم الاجمالي الى الاناء الخاص بواسطة قيام البينة «كما» هو الحال في صرف تنجز العلم الاجمالي بالانحلال بالعلم الحقيقي، و ذلك «كما اذا علم انه» أي كما اذا علم حقيقة ان هذا الاناء الخاص هو «اناؤه في عدم لزوم الاجتناب الا عن خصوصه» أي لا يلزم الاجتناب الا عن خصوص اناء زيد «دون» الاناء «الآخر» فاتضح أن حال البينة فيما قامت عليه حال العلم الحقيقي في صرف تنجز العلم الاجمالي في خصوص الطرف الذي قامت عليه.

(1) حاصله: ما اشرنا اليه من ان الانحلال باحتمال الانطباق- بناء على المختار من كون المجعول في الامارة هو نفس الحجية و الطريقية أي المنجزية و المعذرية- اولى من الانحلال باحتمال الانطباق فيما اذا قلنا بان المجعول في الامارة هو الحكم الطريقي، بل يمكن ان نقول انه بناء على جعل الحكم الطريقي لا يصح الانحلال و لو مع التكلف له، لان الحكم الطريقي المجعول بسبب الامارة، اما ان يكون حكما مماثلا للحكم الواقعي، و مع كونه حكما مماثلا له فهو حكم في قبال الحكم الواقعي، و لا يعقل انطباق المماثل على المماثل. و اما ان يكون المراد منه اعتبار كون هذا الحكم الطريقي هو الحكم الواقعي، فالفرق بين الحكم الطريقي الذي ادّت اليه الامارة و بين الحكم الواقعي هو الفرق بين الوجود الواقعي للشي ء و الوجود الاعتباري، و لا ريب في ان الوجود الاعتباري للشي ء غير وجوده الحقيقي، فلا يصح الانطباق ايضا.

ص: 388

.....

______________________________

و بعبارة اخرى: انه بناء على الحكم الطريقي الذي كانت الامارة سببا لجعله على طبق ما قامت عليه هو حكم حادث غير الحكم الواقعي و قد جاء بسبب قيام الامارة عليه، و لا يعقل انطباق حكم على حكم آخر لحدوثه و لازم حدوثه كونه غيره، و لا يعقل انطباق الشي ء على غير نفسه، و الى هذا اشار بقوله: «و لو لا ذلك» أي و لو لا القول بان المجعول هو نفس المنجزية و المعذرية لما صحّ الانحلال باحتمال الانطباق، لانه عليه تكون الامارة منجزة لنفس الحكم الواقعي لو اصابت و معذرة عنه لو أخطأت بخلافه بناء على ان المجعول هو الحكم الطريقي فانه لو كان هو المجعول «لما كان يجدي» في الانحلال، لان معنى ذلك هو «القول بان قضية اعتبار الامارات هو كون المؤديات احكاما شرعية فعلية» في قبال الاحكام الواقعية واقعا «ضرورة انها تكون كذلك» أي احكاما شرعية فعلية غير الاحكام الواقعية هو ان هذه الاحكام قد جعلت «بسبب حادث و هو كونها مؤديات الامارات الشرعية».

يمكن ان يقال: انه لا فرق في الانحلال بناء على جعل الحكم الطريقي المماثل، و اما ما ذكره من محاليّة الانطباق ... فجوابه ان القائل بالحكم الطريقي قائل بان الحكم الطريقي مجعول من اول الامر كالحكم الواقعي، و حيث انه كان مماثلا للحكم الواقعي فلا مانع من انشائه من اول الامر، لانه هو الذي تصل اليه الامارة، و ليس هو بمتأخر بل اعتباره متأخر، و الامارة كاشفة عنه و لسانها كذلك، فان قوله عليه السّلام:

(ما حدثا عني فعني يحدثان) يدل على ذلك بوضوح، و على هذا فالعلم الاجمالي باحكام واقعية يلازمه العلم الاجمالي بجعل احكام مماثلة لها، و على هذا فالانطباق واضح.

و بعبارة اخرى: ان الحجّة على الحكم المماثل مجعول اعتبارها من اول الامر، و انما الظفر بها متأخر، لا ان الحكم الذي هو مؤداها يجعل بعد قيام الامارة عليه، و لذا كان قاعدة قبح العقاب بلا بيان جريانها قبل الفحص من باب عدم العذر في حال عدم الفحص عما هو الحجة المجعول، لا ان الجعل يكون بعد قيام الحجة، و إلّا

ص: 389

الجواب الثاني عن العلم الاجمالي

هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالاجمال، و إلا فالانحلال إلى العلم بما في الموارد و انحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال. كما لا يخفى (1).

______________________________

لكانت الحجة على الحكم قبل قيامها مقطوعة بعدم الحكم حينئذ، لا ان الحكم موجود و التقصير في الفحص غير معذر.

(1) هذا هو الجواب الثاني عن العلم الاجمالي، و حاصله: ان متعلق العلم الاجمالي ليس التكاليف بنحو الاطلاق بل المتعلق له هو التكاليف المنحصرة في موارد الطرق المثبتة للتكاليف.

و بعبارة اخرى: انه كما انه لنا علم بتكاليف واقعية لنا علم آخر بان تلك التكاليف ثابتة في موارد الطرق المثبتة للتكاليف، و لازم هذين العلمين هو كون العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية منحصرا في الطرق، فالعلم الاجمالي في المقام هو العلم الاجمالي المنحصر في موارد الطرق.

و لازم هذا العلم الاجمالي المقيد بانحصاره في موارد الطرق هو كون التكاليف الثابتة بالطرق هي بمقدار المعلوم بالاجمال، و اذا كان الامر كذلك فانحلال العلم الاجمالي الى العلم التفصيلي الذي تثبته الطرق و الشك البدوي في غير موارد الطرق من الواضحات، لوضوح انه اذا كان منحصرا كذلك فلا بد من انحصار اطرافه بها ايضا، و اذا كانت اطرافه منحصرة بالطرق فخروج غير موارد الطرق عن اطرافه بديهي، و الدليل على هذا الانحلال هو انه لو عزلنا الطرق المعتبرة لا يبقى لنا علم اجمالي بثبوت تكاليف واقعية مقطوعة الثبوت بنحو الاجمال في غيرها، بخلاف ما لو عزلنا من الطرق غير المعتبرة بمقدار المعلوم بالاجمال لا ينحل علمنا الاجمالي بالتكاليف الواقعية، و بالوجدان يبقى لنا علم اجمالي بتكاليف واقعيّة، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «هذا اذا لم يعلم ثبوت التكاليف الواقعيّة في» خصوص «موارد الطرق المثبتة» للتكاليف «بمقدار المعلوم بالاجمال و إلّا» أي و ان قلنا بان

ص: 390

الاستدلال باصالة الحظر
اشارة

و ربما استدل بما قيل من استقلال العقل بالحظر في الافعال غير الضرورية قبل الشرع، و لا أقل من الوقف و عدم استقلاله، لا به و لا بالاباحة و لم يثبت شرعا إباحة ما اشتبه حرمته، فإن ما دل على الاباحة معارض بما دلّ على وجوب التوقف أو الاحتياط (1).

______________________________

العلم الاجمالي هو على هذا النحو من اول الامر «فالانحلال الى العلم» التفصيلي بالتكاليف «بما في» تلك «الموارد» و الشك البدوي في غيرها واضح «و» قد ظهر ايضا «انحصار اطرافه» أي اطراف هذا العلم الاجمالي «بموارد تلك الطرق» و هو واضح ايضا «بلا اشكال».

(1) هذا هو الدليل العقلي الثاني للاخباريين القائلين بالاحتياط أو التوقف في الشبهة التحريمية، و هو عبارة من مقدمتين:

الاولى: ان الاصل في عامة الافعال غير الضرورية الفعل للناس هو الحظر و المنع، أو لا اقل من التوقف فيها حتى بإذن فيها المالك الحقيقي كشرب التتن فانه غير ضروري للناس، بخلاف اصل اكل ما يقوم به أود الحياة و الشرب لما تتوقف عليه الحياة ايضا فان العقل لا يرى ان الاصل فيها هو الحظر و المنع او التوقف.

و توضيح هذه القاعدة ببيان امرين:

الاول: ان الموضوع فيها هو الافعال قبل ورود تكليف شرعي بها.

الثاني: هو ان من شأن العبد بالنسبة الى مولاه هو ان يكون صدوره و وروده منوطا بما يتلقاه عنه و يكون عن اذنه، فتصرف العبد في افعاله بما يشاء من دون صدور الاذن من مولاه خروج عن زي الرقية و رسم العبوديّة، و كل ما كان خروجا عن زي الرقية و رسم العبودية كان ظلما من العبد لمولاه، فهو قبيح و مذموم عليه، فاذا ثبت الذم عليه، فان قلنا بان كل ذم عند العقل يستلزم استحقاق العقاب كان لازم الارتكاب هو استحقاق العقاب، و ان قلنا بانه لا يستلزم كل ذم عنده استحقاق

ص: 391

.....

______________________________

العقاب عليه عند العقل فلا اقل من احتمال العقاب، و سيأتي انه لازم الاول لزوم الاحتياط، و لازم الثاني التوقف.

فاذا تمّ هذا الاصل للافعال قبل ورود الحكم فيها من الشارع يتمّ المطلوب بالمقدمة الثانية، و هي ان ما ورد من الشارع في الشبهة التحريمية مما يدل على الاباحة معارض بما ورد منه مما يدل على الاحتياط فيتعارضان و يتساقطان فيبقى الاصل العقلي الاولى المذكور بما لا مانع يمنع عنه شرعا، و لازم الاصل المذكور هو اما المنع و لزوم الاحتياط فيه، فيما اذا قلنا بملازمة الذم لاستحقاق العقاب، لبداهة انه لازم حكم العقل باستحقاق العقاب على فعل هو لزوم الترك له و وجوب الاحتياط فيه عقلا، و ان قلنا بعدم الملازمة فلا اقل من احتمال العقاب، و لا بد من التوقف فيه لانه مظنة للعقاب و لا يؤمن فيه.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و ربما استدل» على الاحتياط او التوقف عقلا في الشبهة التحريمية «بما قيل من استقلال العقل بالحظر» أي المنع «في الافعال غير الضرورة» كشرب التتن مثلا «قبل الشرع» أي ان العقل مستقل بالمنع عن الارتكاب في الافعال غير الضرورة بما هي فعل للشخص، لا بما هي محتملة للتكليف، فموضوع هذا الاصل هي الافعال قبل ورود الحكم فيها من الشارع، و قد عرفت الوجه في حكم العقل بالمنع و الحظر فيها، و ان ذلك مبنيّ على القول باستحقاق العقاب على كل ما فيه الذم، و انه ان لم نقل بلزوم المنع فلا محالة من كونه محتملا فلا بد من التوقف، و اليه اشار بقوله: «و لا اقل من الوقف» في الفعل المحتمل حرمته «و» ذلك لاجل «عدم استقلاله» أي العقل «لا به» أي بالمنع فيه «و لا بالاباحة» و بهذا كله اشار الى المقدمة الاولى، ثم اشار الى المقدمة الثانية بقوله: «و لم يثبت شرعا اباحة ما اشتبه حرمته» لاجل المعارضة «فان ما دلّ على الاباحة» شرعا «معارض بما دل» شرعا «على وجوب التوقف او الاحتياط» فيتساقطان و يكون المرجع هو الاصل الاولي في مشتبه الحرمة.

ص: 392

الجواب عن الاستدلال باصالة الحظر

و فيه أولا: إنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف و الاشكال، و إلا لصح الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الافعال على الاباحة (1).

______________________________

(1) توضيح هذا الايراد الاول: انه لا نسلّم كون الاصل عند العقل في هذه الافعال قبل ورود الحكم فيها من الشارع هو المنع و الحظر و انه من الامور المسلّمة، بل هو محل الخلاف و الاشكال، و هناك من يقول بان الاصل في هذه الافعال هو الاباحة عقلا دون المنع و الحظر، و اذا كان الحكم العقلي في هذا الاصل هو من موارد الخلاف فلا يصح الاستدلال به، لان الاستدلال على القائلين بالاباحة في المشتبه لا بد و ان يكون بما هو المسلّم لا بما هو محل الخلاف، و لو صحّ الاستدلال بما هو محل الخلاف لصحّ الاستدلال من القائلين بالاباحة في المشتبه بالاباحة عقلا في الافعال قبل ورود حكم الشرع فيها، لوجود القائل بالاباحة فيه لو لم يكن القول به هو الاقوى كما سنشير اليه، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و فيه اولا انه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف و الاشكال» و انما يصح بما هو المسلّم «و إلّا» أي و لو صحّ الاستدلال بما هو محل الخلاف «لصحّ الاستدلال» من القائلين بالبراءة «على البراءة بما قيل من كون» حكم العقل «في تلك الافعال» غير الضرورية هو «على الاباحة» دون الحظر.

و مزيدا للتوضيح في هذه المسألة نقول: ان العقل مستقل بالاباحة دون المنع في الافعال قبل ورود الحكم من الشرع، و ما يقال من ان شأن العبد ان يكون صدوره و وروده منوطا بما يتلقاه من مولاه انما هو في الموالي و العبيد العاديين دون العبيد بالنسبة الى مولى الموالى، لان المناط في الشأنية المدعاة لا وجه لها، الا دعوى كون التصرّف من العبد بدون اذن مولاه خروجا منه عن زي الرقية و رسم العبوديّة، و هذا انما يمكن ان يدعى فيما احتمل ان يكون في الفعل غرض للمولى، فيكون التصرف فيما احتمل غرض للمولى فيه من دون حكمه فيه من احتمال التصرّف في غرضه

ص: 393

و ثانيا: إنه تثبت الاباحة شرعا، لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط، للمعارضة لما دلّ عليها (1).

و ثالثا: أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة، للقول بالاحتياط في هذه المسألة، لاحتمال أن يقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان (2)، و ما قيل من أن الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام

______________________________

بدون اذنه، اما مولى الموالى فمن الواضح انه عين الغنى و عدم الحاجة، فلا يعقل ان يكون له غرض عائد الى ذاته جلّ و علا عن ذلك في افعال العباد، فلا يكون التصرّف من العبد من احتمال التصرف في غرض المولى، و انما اوامره و نواهيه تابعة لمصالح اما نوعية او شخصية عائدة الى عباده دون ذاته تعالى شانه، و لما كان من اللطف ايصال العباد الى ما فيه مصالحهم، فلا بد ان يكون عدم وصول ذلك اليهم لمانع يمنع عن فعلية هذا الاقتضاء من اللطف، فالعقل يحكم بان الافعال قبل ورود الحكم فيها من الشارع لا تأثير للمصالح و لا المفاسد فيها على نحو اللزوم، فالافعال مباحة حقيقة عقلا لعدم تأثير ما فيه الاقتضاء للحكم فيها، و مع كونها كذلك عند العقل فلا يكون التصرّف من العبد خروجا عن زي الرقية و لا رسم العبوديّة.

(1) حاصل هذا الجواب الثاني: هو منع المقدمة الثانية و ان دليل الاباحة الشرعية غير ساقط بالمعارضة بأدلة الاحتياط، لما عرفت من عدم تمامية دلالتها على لزوم الاحتياط و لا على لزوم التوقف، فلو فرضنا ان الاصل العقلي الاولى هو ما ذكر من لزوم الاحتياط او التوقف قبل ورود الحكم من الشارع، و لكن بعد ورود الاذن و الترخيص من الشارع يسقط تأثير هذا الاصل من أصله، و عبارة المتن واضحة، و الضمير في قوله: «لما دل عليها» راجع الى الاباحة شرعا.

(2) حاصل هذا الجواب الثالث هو: انه لا وجه للاستدلال على لزوم الاحتياط أو التوقف في المقام بلزوم الاحتياط او التوقف في مسألة الحظر فانهما مسألتان في موضوعين مختلفين، فان الموضوع في مسألة الحظر هو الافعال بفرض عدم ورود

ص: 394

.....

______________________________

التكليف فيها من الشارع، ففرض عدم التكليف مأخوذ في موضوع مسألة الحظر، و الموضوع في مسألتنا هذه هو فعل المكلف بما هو محتمل التكليف، فاحتمال التكليف ماخوذ في موضوع هذه، فلو قلنا بان الاصل في الفعل المفروض فيه عدم التكليف هو الحظر فلا ملازمة بينه و بين القول بالاحتياط في الفعل المفروض فيه احتمال التكليف، و لذا يمكن ان نقول بالحظر في تلك المسألة و بالبراءة في هذه المسألة.

و بعبارة اخرى: انه لا مانع من ان نقول بحكم العقل بالحظر على العبد في الفعل الذي لم يصدر فيه حكم من مولاه، و بالبراءة في الفعل الذي احتمل صدور حكم الحرمة فيه من المولى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

و الوجه في ذلك ان مناط الحظر في تلك المسألة هو ان العبد لا ينبغي ان يصدر و يرد في فعل الّا بما يتلقاه من حكم مولاه في ذلك الفعل، و مناط البراءة في هذه المسألة هو ان المصلحة او المفسدة الملزمة الصادر على طبقها تكليف يقبح العقاب على ذلك التكليف ما لم يصل، و على هذا فلا مانع من القول بالحظر في تلك المسألة و بالبراءة في هذه المسألة.

هذا مضافا الى اختلاف الاثر في المسألتين، فان الاثر في المسألة الاولى هو استحقاق العقاب على الاقدام على الفعل الذي لم يصدر فيه حكم من الشارع غير منوط بالمصادفة و عدم المصادفة، لوضوح انه مع كون الموضوع فيه هو الفعل بفرض عدم التكليف فلا معنى لان يناط العقاب بالمصادفة و عدمها، حيث لا تكليف حتى تكون له مصادفة او لا مصادفة، بل استحقاق العقاب فيه على نفس الاقدام، فهو موجود على كلّ حال، بخلاف الاثر في هذه المسألة فان الاحتياط- بناء عليه- يكون العقاب فيه منوطا بمصادفة الواقع و عدمه.

و قد اشار الى ما ذكرناه من اختلاف الموضوع في المسألتين بقوله: «و ثالثا انه لا يستلزم القول بالوقف» او الاحتياط «في تلك المسألة» أي مسألة الحظر «للقول بالاحتياط» او الوقف «في هذه المسألة» أي مسالة الشبهة لاحتمال التكليف و هي

ص: 395

الاستدلال بقبح الاقدام على ما لا يؤمن مفسدته

على ما يعلم فيه المفسدة ممنوع (1)، و لو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل، فإن المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالبا، ضرورة أن المصالح

______________________________

الشبهة التحريمية او الوجوبية، و الوجه في عدم الاستلزام و انه لا ملازمة بين المسألتين هو اختلاف الموضوع فيهما، فيمكن ان يقال في تلك المسألة بالحظر و بالبراءة في هذه المسألة، و اليه اشار بقوله: «لاحتمال ان يقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان» كما مرّ بيانه.

(1) لا يخفى انه قد مرّ الاستدلال بهذه القاعدة المدعاة من استقلال العقل بقبح الاقدام على نفس ما لا يؤمن مفسدته في الشبهة البدوية المحتملة للتكليف، و قد مرّ فيها ان المفسدة المحتملة التي يدعى قبح الاقدام عليها هي مرددة بين العقوبة الاخروية على التكليف المحتمل و بين المفسدة الدنيوية.

و اما الاستدلال بها على مسألة الحظر فلا بد من ان يكون المراد بالمفسدة فيها هي المفسدة الدنيوية دون العقاب الاخروي على التكليف المحتمل، لما عرفت من ان المفروض في موضوع مسألة الحظر هو عدم التكليف، و مع فرض عدمه لا معنى لاحتمال العقوبة عليه، و قد عرفت مما مرّ في مسألة الشبهة البدوية انه اذا اريد من المفسدة هي المفسدة الدنيوية فانها ممنوعة صغرى و كبرى.

اما الكبرى: فلمنع دعوى استقلال العقل بقبح الاقدام من العقلاء على ما لا يؤمن مفسدته لاقدامهم عملا بما هم عقلاء على مقطوع المفسدة فضلا عن محتملها فيما اذا تعلق لهم غرض اهم من المفسدة.

و اما صغرى فلان مفاسد التكليف نوعية غالبا، و المفسدة التي يصح الاقدام عليها- لو سلّم- هي المفسدة الشخصيّة، و احتمال كونها شخصية بعد ان كانت جلّ المصالح و المفاسد نوعية ضعيف احتماله جدا، و لا اعتناء للعقلاء بالاحتمالات الضعيفة في مقام عملهم و هي عندهم بحكم العدم، فلا احتمال للمفسدة معتنى به

ص: 396

و المفاسد التي هي مناطات الاحكام ليست براجعة إلى المنافع و المضار، بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر، و المفسدة فيما فيه المنفعة، و احتمال أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا، مع أن الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه عقلا، بل يجب ارتكابه أحيانا فيما كان المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز عن ضرره، مع القطع به فضلا عن احتماله (1).

______________________________

حتى يكون الاقدام عليه من مصاديق هذه القاعدة، و لذا اشار (قدس سره) الى منع هذه القاعدة بقوله: «ممنوع».

(1) لا يخفى انه اذا اريد الاستدلال بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل في مسألة الحظر لا بد و ان يراد ايضا من احتمال الضرر هو المفسدة الدنيوية، بخلاف الاستدلال بها في الشبهة البدوية المحتملة للتكليف، فانه قد مرّ ان احتمال الضرر مردد فيها بين الضرر الاخروي و الضرر الدنيوي كما تقدّم بيانه، لما عرفت من عدم معقولية ان يراد منها المضرة الاخروية و هي العقاب على احتمال التكليف لفرض عدم التكليف هنا، و قد عرفت ايضا ان احتمال المفسدة الدنيوية ضعيف غير معتنى به، و ما كان غير معتنى به عندهم لا يعقل ان يحكموا بوجوب دفعه، و اليه اشار بقوله: «فان المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالبا»، لان المراد من الضرر هو الضرر الشخصي، و من المعلوم «ضرورة ان المصالح و المفاسد التي هي مناطات الاحكام ليست براجعة الى المنافع و المضار» الشخصية «بل ربما يكون المصلحة فيها الضرر» الشخصي كمصلحة الزكاة «و المفسدة» النوعية «فيما فيه المنفعة» الشخصية كالربا «و احتمال ان يكون في المشتبه ضرر» شخصي «ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا» و ما لا يعتنى به لا يجب دفعه.

و لا يخفى ان هذا راجع الى منع الصغرى و هي ان الشبهة ليست من مصاديق قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

ص: 397

.....

______________________________

ثم اشار الى منع الكبرى ايضا و انه لا استقلال للعقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، لعمل العقلاء بما هم عقلاء على ارتكاب الضرر المعلوم فضلا عن المحتمل اذا كان لهم غرض في ارتكابه اهم عندهم من الضرر بقوله: «مع ان الضرر ليس دائما مما يجب التحرّز عنه عقلا ... الى آخر العبارة».

ص: 398

الفهرس

ص: 399

ص: 400

الفهرس

الاستدلال بالاخبار على حجية خبر الواحد 1

تقرير الاجماع على حجية الخبر من وجوه: 5

الوجه الاول: دعوى الاجماع القولي 5

الوجه الثاني: دعوى الاجماع العملي 8

للمصنف (قده) على الوجه الثاني في تقرير الاجماع إيرادان 9

الوجه الثالث: دعوى استقرار سيرة العقلاء 10

الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية خبر الواحد 22

الوجه الاول: العلم الاجمالي بصدور جملة من الأخبار 22

الجواب عن ثالث ايرادات الشيخ (قده) 28

رد المصنف (قده) الدليل العقلي باختيار رابع ايرادات الشيخ (قده) 31

الوجه الثاني: استدلال صاحب الوافية على حجية الكتب الأربعة 33

اشكال شيخنا الاعظم فيه بوجهين و مناقشة المصنف فيهما 34

الوجه الثالث: كلام المحقق محمد تقي صاحب الحاشية (قده) 39

ما أورده المصنف (قده) على كلام المحقق صاحب الحاشية (قده) 42

مناقشة المصنف (قده) في ايراد الشيخ (قده) عليه 45

أدلّة حجية مطلق الظن 46

الوجه الاول: استلزام مخالفة المجتهد لما ظنه للضرر 47

الجواب عنه بمنع الصغرى اذا اريد بالضرر العقوبة 51

منع الصغرى اذا اريد بالضرر المفسدة 56

الوجه الثاني: 63

المناقشة في الوجه الثاني 64

ص: 401

الوجه الثالث: كلام السيد المجاهد الطباطبائي (قده) و الجواب عنه 68

الوجه الرابع: دليل الانسداد 69

المقدمة الاولى: انحلال العلم الاجمالي الكبير بما في الاخبار 75

المقدمة الثانية: انسداد باب العلم و انفتاح باب العلمي 77

المقدمة الثالثة: عدم جواز إهمال الاحكام 78

المقدمة الرابعة: عدم وجوب الاحتياط التام 85

تعريض المصنف: (قده) للشيخ الاعظم (قده): بانه لا موجب لرعاية الاحتياط في بقية الاطراف 89

الرجوع الى الاصول و تفصيل الكلام فيها 90

الرجوع الى فتوى العالم الانفتاحي 103

المقدمة الخامسة: قبح ترجيح المرجوح على الراجح 104

عدم تمامية المقدمة الاولى و الرابعة 105

الظن بالطريق و الظن بالواقع 108

مختار المصنف (قده) حجية الظن بالاعم من الواقع و بالطريق 109

وجه القول باختصاص النتيجة بالظن بالواقع 113

وجه القول باختصاص النتيجة بالظن بالطريق 116

ايرادات المصنف (قده) على القول باختصاص النتيجة بالظن بالطريق 120

موارد رفع اليد عن الاحتياط في الطرق 124

ايراد المصنف ثانيا على كلام الفصول 136

صرف التكاليف الى مؤديات الطرق أو تقييدها بها 138

دخل الامارة في الحكم- تصورا- على أنحاء أربعة 139

ص: 402

الصرف و التقييد و ايرادات المصنف (قده) عليهما 144

الوجه الثاني على اختصاص النتيجة بالظن بالطريق 155

المناقشة في كلام المحقق صاحب حاشية المعالم (قده) 157

الكشف و الحكومة 164

امتناع تعلق الامر المولوي بالاطاعة الظنية 167

عدم الاهمال في النتيجة على الحكومة 173

التفصيل في اهمال النتيجة و تعيينها على الكشف 177

التوفيق بين كلام الشيخ الاعظم (قده) و الفاضل النراقي (قده) 192

المناقشة في تعميم النتيجة على الكشف 196

اشكال خروج القياس عن عموم النتيجة 199

الوجوه المذكورة لدفع الاشكال و مناقشة المصنف (قده) فيها 215

الظن المانع و الممنوع 221

الظن بالفاظ الآية او الرواية 227

حجية الظن الحاصل من قول الرجالي 230

الظن بمقام التكليف و الظن بمقام الإتيان به 234

خاتمة: و فيها امران: الاول: الظن في الاعتقاديات 238

الامر الثاني: جبر السند و الدلالة بالظن غير المعتبر 263

الترجيح بالظن غير المعتبر 274

الجبر و الوهن و الترجيح بمثل القياس 278

المقصد السابع: في الاصول العملية 281

اصالة البراءة 287

ص: 403

الاستدلال بالكتاب على البراءة 290

الاستدلال بالسنة على البراءة: حديث الرفع 295

الاستشكال بدلالة الحديث بوجوه 297

المرفوع في غير ما لا يعلمون 315

حديث الحجب 319

حديث الحل 322

حديث السعة 328

مرسلة الصدوق 333

الاستدلال بالاجماع على البراءة 344

الاستدلال بالعقل على البراءة 345

دعوى صلاحية قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل للبيان و الجواب عنها 346

أدلّة المحدثين على الاحتياط: الاستدلال بالكتاب 357

2 لاستدلال بالاخبار: 1- اخبار الوقوف 362

2- اخبار الاحتياط 363

كلام الشيخ (قده) و مناقشة المصنف (قده) فيه 367

القرائن التي تقتضي كون الأمر بالاحتياط ارشاديا 372

الاستدلال بالعقل على الاحتياط: بالعلم الاجمالي 377

الجواب عن الدليل العقلي 378

الجواب الثاني عن العلم الاجمالي 390

الاستدلال باصالة الحظر 391

الجواب عن الاستدلال باصالة الحظر 393

الاستدلال بقبح الاقدام على ما لا يؤمن مفسدته 396

الفهرس 399

آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

ص: 404

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.